ولد أبونصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن
طرخان الفارابي في حدود
سنة 259هـ، في وسيج من مدن فاراب،
وفاراب تلك ولاية تقع وراء نهر سيحون (سرداريا) في تخوم بلاد الترك.
وكانت قصبة الولاية في تلك الحقبة مدينة كدر التي كان فيها جامع كبير كما يقول
الاصطخري. أما فاراب المدينة فلم تظهر وتشرع في منافسة كدر إلا في مرحلة متأخرة. وهذه المدينة سوف يذكرها المقدسي - المتوفى
سنة 380هـ - في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم» كمدينة وعاصمة للولاية.
وكانت في أيامه مدينة كبيرة محصّنة تعد
سبعين ألف نسمة غالبيتهم من
الشافعية، وفيها مسجد جامع وحصن وسوق.
والواقع أن الإسلام لم يدخلها إلا في عهد السامانيين، بعد فتح
اسفيجاب في العام 225م. أما وسيج فكانت إحدى مدن ولاية فاراب، الواقعة على الضفة الغربية لنهر سيحون، وستذكر حتى القرن
السادس الهجري كحصن.
ويميل غالبية المؤرخين إلى اعتبار
الفارابي تركي الأصل، مستندين في ذلك إلى ورود الاسمين
التركيين أوزلغ وطرخان في سلسلة نسب الفارابي. غير أن ابن أبي أصيبعة ذكر في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» أن
الفارابي فارسي المنتسب
وأن أباه كان قائد جيش.
والحقيقة أن الغموض يلف مجمل حياة
الفارابي، خاصة المرحلة التي سبقت مجيئه إلى مدينة
السلام بغداد في زمن الخليفة المقتدر (تولى الخلافة بين العامين 295 و320هـ). ولعلنا نجد في أحد النصوص التي أوردها حاجي خليفة في
كتاب «كشف الظنون
عن أسامي الكتب والفنون» نقلاً عن
«حاشية مطالع الأنوار» لمولانا لطفي، ما يلقي الضوء ولو قليلاً عن
الحقبة الأولى، شبه المجهولة، من حياة الفارابي. يذكر حاجي خليفة أن المأمون -
بعدما أوفد الرسل إلى ملك الروم طالبًا استخراج علوم اليونانيين واستنساخها بالخط العربي «جمع مترجمي مملكته كحنين بن اسحق
وثابت بن قرة، وترجموها
بتراجم متخالفة مخلطة، غير ملخصة ومحررة.
لا توافق ترجمة أحدهم للآخر، فبقيت تلك التراجم هكذا غير
محررة بل أشرف أن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي، ثم إنه التمس منه ملك زمانه منصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك
التراجم، ويجعل من بينها
ترجمة ملخصة محررة مطابقة لما عليه
الحكمة. فأجاب الفارابي، وجعل كما أراد، وسمى كتابه بالتعليم
الثاني. فلذلك لقّب بالمعلم الثاني. وكان هذا في خزانة المنصور إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد منصور، كما هو مسودّا بخط
الفارابي غير مخرج إلى
البياض، إذ إن الفارابي غير ملتفت إلى
جمع تصانيفه، وكان الغالب عليه السياحة على زي القلندرية.
وكانت تلك الخزانة بأصفهان، وتسمى «صوان
الحكمة»، وكان الشيخ أبوعلي
ابن سينا وزير المسعود تقرّب إليه بسبب
الطب، حتى استوزره وسلّم إليه خزانة الكتب. فأخذ الشيخ الحكمة من
هذه الكتب، ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب الشفاء، ثم إن
الخزانة أصابتها آفة، فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبوعلي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته، ثم أحرقه لئلا تنتشر بين الناس،
ولا يطلع عليها أحد
فإنه بهتان وإفك، لأن الشيخ مقر بأخذه
الحكمة من تلك الخزانة كما صرّح في بعض رسائله. وأيضا يفهم
في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.
عالم عصره
وبالاعتماد على هذا النص - الذي لم نجد
داعيًا قويًا للتشكيك به على الرغم من أنه يعود
إلى مرحلة متأخرة (القرن التاسع الهجري) - يمكن استخلاص الأمور التالية:
أولا:
أن الفارابي كان قد قطع شوطًا كبيرًا في ميدان الفلسفة - درسًا وتأليفًا - حين وفد إلى بغداد في زمن الخليفة المقتدر. إذ إن
المراجع القديمة لا
تشير إلى اتصال ما للفارابي بأحد
الأمراء السامانيين بعد وصوله إلى بغداد، في حين أنها تشير - وإن
باقتضاب - إلى اتصاله بعدد من الأمراء ورجال الفكر أمثال يوحنا بن حيلان وأبي بشر متى بن يونس، والوزير أبي جعفر محمد بن القاسم
الكرخي، وأبي بكر بن
السراج، كما تشير كذلك إلى ارتحاله عن
بغداد وإلى اتصاله بسيف الدولة الحمداني في دمشق وحلب.
وعليه فإننا نرجّح أن يكون الاتصال بين
الفارابي والأمير منصور
الساماني - وما يشهد له هذا الاتصال من
تقدّم للفيلسوف في ميدان الفلسفة جعل الساماني يختاره من
بين علماء عصره كلهم لمهمة جمع الترجمات وتلخيصها وتهذيبها من الشوائب والمغالطات الكبيرة التي دخلتها، مع ما في هذه المهمة
من صعوبة ودقة - قد
حدث قبل وفادة الفيلسوف إلى بغداد.
ثانيًا: أن الفارابي كان متصوفًا على الطريقة القلندرية منذ تلك الحقبة المبكرة من حياته. والقلندرية من الطرق الصوفية في
الإسلام التي نشأت تحت
تأثير هندوسي وبوذي بصورة خاصة. وقد
نشأت أولاً كشعبة من الطريقة الملامتية التي كانت نشطة في زمن
الفارابي والتي كانت تعاليمها تقوم على مجاهدة النفس والابتعاد عن المظاهر الخارجية للتقوى أو التديّن. من هنا فإن الملامتي كان
يتجنب كل ما يلفت
النظر سواء في تصرفه أو مظهره، على عكس
القلندري الذي كان يتبنى بعض مبادئ الملامتية، ولكنه إلى
جانب ذلك لم يكن يتورّع عن إظهار حاله والمبالغة في تصرفاته، فيحلق شعر رأسه ووجهه
ويحيط عنقه ومعصميه بحلقات حديدية ويحمل الخرقة أو يلفّ وسطه بمئزر ولا يتقيدّ
بالفروض الدينية، لا يهتم لعمل ولا يتزوج، ويكفيه من حطام الدنيا لباس واحد وبعض الأغراض الشخصية. والواقع أن هذا الوصف للمتصوف
على الطريقة
القلندرية يلتقي مع الوصف الذي يقدمه عن
الفارابي مؤرخون سابقون على مولانا لطفي: فالقفطي يذكر في
كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» أن أبا نصر أقام في كنف سيف الدولة في حلب مدة «بزيّ أهل التصوف»، وابن أبي أصيبعة يذكر أن
الفيلسوف كان «متجنبًا الدنيا مقتنعًا بما يقوم بأوده»، وأنه كان يكتفي من
جملة ما ينعم عليه سيف
الدولة بأربعة دراهم فضة في اليوم
يخرجها فيما يحتاج إليه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيًا بهيئة ولا
منزل ولا مكسب، كذلك يقول ابن خلكان في كتاب «وفيات الأعيان» كلامًا مشابهًا.
ولذلك كان رأينا أساسًا أنه لا سبب
قويًا يدفعنا إلى إهمال رواية لطفي، سيما أن هناك
دليلاً آخر على احتمال صدق هذه الرواية ورد في سياق كلام المستشرق كارا دي فو
بمقاله عن الفارابي في الطبعة القديمة لدائرة المعارف الإسلامية، وقوامه أن
دراويش المولوية كانوا لايزالون إلى عهد دي فو يحفظون أغاني قديمة تنسب إلى أبي
نصر. والمولوية - الطريقة التي أسسها«مولانا» جلال الدين الرومي - تعدّ في بعض شعبها
امتدادًا للطريقتين الملامتية والقلندرية، سواء في العقيدة أو الممارسة.
ثالثًا: أن الفارابي لم يكن يهتم كثيرًا لجمع تصانيفه. وهذا ما يتفق تمامًا مع نزعته الصوفية التي تنأى به عن مراعاة كل مصلحة
شخصية، ومع ما يقوله ابن
خلكان من أن أكثر تصانيف الفارابي في
الرقاع وأنه «لم يصنّف من الكراريس إلا القليل فلذلك جاءت أكثر
تصانيفه فصولاً وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصًا مبتورًا».
تجمع المعلومات التاريخية بعد ذلك على
ارتحال الفارابي إلى بغداد
وتلقيه العلم فيها. وقد تتلمذ هناك على
يد أبي بشر متى (المتوفى سنة 328هـ) وكان مسيحيًا من السريان
النساطرة ومن مترجمي الكتب المنطقية وشارحيها وكان إذ ذاك شيخًا كبيرًا وله صيت عظيم، ويجتمع في حلقته كل يوم المئات من
المشتغلين بالمنطق، وهو
يقرأ كتب أرسطو طاليس المنطقية ويملي
على تلامذته شرحها، فكتب عنه الفارابي في شرحه سبعين سفرًا.
بعد ذلك ارتحل أبو نصر إلى مدينة حرّان،
وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني السرياني
(244 - 310هـ) فأخذ عنه طرفًا من المنطق أيضًا. وكان الأساقفة المسيحيون قد أجمعوا على أن يعلّم من كتب المنطق إلى آخر
الأشكال الوجودية (أي إلى
آخر كتاب القياس أو التحليلات الأولى
لأرسطو)، إذ رأوا أن ما تلا هذا الكتاب
(التحليلات الثانية أو كتاب البرهان)
يمكن أن تشكّل دراسته ضررًا على المسيحية. واستمر الأمر كذلك
حتى بعد انتقال التعليم من الإسكندرية إلى إنطاكية ثم إلى حرّان وبعد مجيء الإسلام. أما أبو نصر فقال عن نفسه - كما يذكر ابن
أبي أصيبعة نقلاً عن
أحد كتب الفارابي المفقودة - إنه تعلم
من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان.
فصار الرسم بعد ذلك عند معلمي المسلمين
أن يقرأ الإنسان إلى حيث قدر. وهذه إشارة من الفارابي
إلى أن معلمي المسلمين أطلقوا التعليم في كتب الفلسفة والمنطق.
وفي بغداد كان أبو نصر يجتمع بالنحوي
أبي بكر ابن السّراج فيقرأ عليه صناعة النحو. وابن
السّراج يقرأ عليه صناعة المنطق. وربما كانت دراسته على النحو على ابن السراج هي السبب في متانة لغته ووضوح عبارته.
كتاب الموسيقي الكبير
بقي الفارابي في بغداد حوالي ثلاثين
عامًا وضع أثناءها عددًا كبيرًا من مؤلفاته, أهمها
«كتاب الموسيقى الكبير» الذي أهداه إلى الوزير أبي جعفر الكرخي - وزير الخليفة القاهر
سنة 321هـ، والخليفة الراضي سنة 324هـ، وكتاب الحروف وكتاب الألفاظ المستعملة في
المنطق وكتاب إحصاء العلوم وكتاب التنبيه على سبيل السعادة. وهذه الكتب الأربعة
تتضمن إشارات واضحة إلى مناظرة لغوية منطقية جرت في مجلس الوزير أبي الفتح ابن الفرات، وزير الخليفة المقتدر في العام 320هـ،
بين أبي بشر متى بن
يونس وأبي سعيد السيرافي المتكلم
والنحوي المشهور. وكان هذا الأخير يزعم أنه لا حاجة بالعربي إلى علم
المنطق، وأن هذا العلم قد وضعه رجل يوناني (يقصد أرسطو) وأنه لا يصلح لغير اليونان.
ويبدو أن متّى لم يحسن الرد عليه, فقام الفارابي في كتبه الأربعة تلك وأثبت أن
المنطق والنحو علمان متلازمان وأنهما ضروريان للمنطقي والنحوي على السواء.
انتقل الفارابي إلى بلاد الشام سنة
330هـ، بعد فترة من الاضطرابات والصراعات والفتن
التي عمّت بغداد. فأقام في كنف سيف الدولة، أولاً في دمشق، ثم في حلب التي دخلها الأمير الحمداني لأول مرة سنة 333هـ، واستقر
فيها نهائيًا سنة 334.
وقد تخللت إقامة الفارابي في الشام
رحلات إلى مصر ظل عددها وهدفها غير محددين. وفي دمشق
عانى أبو نصر شظف العيش حتى إنه عمل في أول أمره ناطورًا في بستان بدمشق وكان في الليل يسهر للمطالعة والتصنيف فيستضيء بالقنديل
الذي للحارس.
أما إقامته في حلب فإننا لا نجد تفاصيل
عنها في كتب المؤرخين القدماء باستثناء إشارة بسيطة
وردت عند ابن أبي أصيبعة ذكر فيها، في سياق تعليقه على شرح الفارابي لكتاب
«البرهان» لأرسطو، أن أبا نصر قد أملاه على تلميذه إبراهيم بن عدي في حلب.
وفي هذه المرحلة الأخيرة من حياته وضع
الفارابي أهم مؤلفاته: «كتاب آراء أهل المدينة
الفاضلة» الذي بدأ بتأليفه في بغداد، ثم أتمه في دمشق سنة 331، ووضع له فصولاً في مصر سنة 337، و«كتاب السياسة المدنية» الذي
أكمله في مصر كما
يذكر ابن خلكان.
توفي أبو نصر سنة 339 فصلّى عليه سيف
الدولة في أربعة من خواصه، ودفن في ظاهر دمشق خارج
باب الصغير.
أضواء على أعماله وآرائه
للفارابي عدد كبير من المؤلفات في شتى
نواحي الفكر: من الموسيقى إلى الرياضيات مرورًا
بالفلسفة والمنطق. أهم ما نشر من أعماله هو:
1)
كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة
ويتضمّن عرضًا لنظريته في المدينة
الفاضلة التي اعتقد البعض أنها نسخة عن جمهورية أفلاطون.
ولكن المتعمق يتبيّن الأبعاد الإسلامية في هذه النظرية. فهو يستهل كتابه بالكلام
عن الله تعالى وصفاته، وهو كلام مطبوع بالطابع العقلاني، أكد فيه على أن الله هو
مبدأ المعقولية في الكون، وتبنّى فيه مفهومًا لطبيعة الله وصفاته يتفق كل
الاتفاق مع الإسلام ومبادئه ومع ما يقرّره العقل. وبعد كلامه عن الله والذي يمتدّ على الفصول الستة الأولى من الكتاب يتطرق في
الفصول الثلاثة عشر
التالية إلى عرض تصوره لكيفية صدور جميع
الموجودات عن الله تعالى. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على
أهمية البعد الإلهي في المنظومة الفارابية. ومن الفصل العشرين حتى الفصل الخامس والعشرين يتحدث عن النفس الإنسانية بكلام
غايته «القول في الوحي
ورؤية الملك». وأمّا عرضه لنظرية
المدينة الفاضلة ومضاداتها، الذي يقتصر على أحد عشر فصلاً، فقد حرص
فيه على التأكيد على أن الوحي والدين يعدان من أهم مرتكزات المدينة الفاضلة،
فإذا كان الرئيس الأول لهذه المدينة هو حقًا فيلسوفا، فإنه بالدرجة نفسها النبي
المنذر والإنسان الذي يوحى إليه. وإذا كان من شروط الرئيس الثاني للمدينة
الفاضلة أن يكون حكيمًا، فإن من شروطه كذلك أن يكون حافظًا لشرائع النبي (الرئيس الأول) وسنّته، وأن يحتذي حذوها بأفعاله
وأقواله، علمًا بأن كتبًا
أخرى للفارابي، ككتاب «السياسة المدنية»
و«كتاب الملّة» و«فصول منتزعة» تعدّ استكمالاً أو عرضًا
آخر، موسعًا في بعض نواحيه، مختصرًا في بعضها الآخر، لما جاء في «كتاب آراء أهل
المدينة الفاضلة». ففي كتاب «فصول منتزعة» يستعرض الطبقات الخمس للمدينة الفاضلة (الأفاضل، حملة الدين وذوو الألسنة، المقدرون،
المجاهدون،
الماليون)، محتفظًا لحملة الدين ولأهل
البلاغة من خطباء وشعراء بموقع متقدم داخل مدينته، ويؤكد على
أهمية الجهاد في المدينة على الرغم من موقفه السلبي من الدور الذي لعبته الطبقة
العسكرية في إدارة شئون الخلافة في عصره. وفي «كتاب الملة» يؤكد على مفهوم الرئاسة السنية وعلى أهمية صناعة الفقه في هذه
الرئاسة نظرًا لما تعطيه
هذه الصناعة من قدرة على استخراج
واستنباط الأشياء التي لم يصرّح بها واضع الشريعة وذلك بتقديرها على
الأشياء التي صرّح بها، كما يؤكد على أهمية التجربة والتعقّل والحكمة العملية في
المهنة الملكية الفاضلة. وفي كتاب «السياسة المدنية» توسع في الكلام على مضادات
المدينة الفاضلة أي على المدن أو الأنظمة التي يعتبرها جاهلة، فاسقة، أو ضالة، حيث كان يستوحي آراء أفلاطون والسفسطائيين
وبعض الفلاسفة قبل سقراط
ليصف أوضاع المجتمع الذي يعيش فيه
وليبين مصادر وأسباب فساده. كما وضع تصورًا لمفهوم الأمة بناه
على أسس واقعية من الاختلاف في الخلق والشيم الطبيعية واللسان.
2)
كتاب الحروف
طرح هذا المصنّف شبه الفريد في التراث
العربي المشكلة اللغوية في
الفلسفة العربية مباشرة، مبرزًا
الإشكالات اللغوية التي تصدّى لها مترجمو العرب ومفكروهم. حلّل أصول
اللغة الجغرافية والتاريخية، وطبائعها تبعًا للسان متكلميها ولعقليتهم، وأبعادها
النحوية - المنطقية والفكرية - الماورائية، منتقلاً بذلك من دراسة اللغة الفلسفية
عند العرب إلى عرض تصوّره لفلسفة اللغة بصورة عامة. وكانت حركة الترجمة التي
قام بها العرب والسريان - والتي بلغت أوجها في العصر العباسي بعدما استهلها الأمير
الأموي خالد بن يزيد بن معاوية - قد ولّدت منحيين في طريقة التعاطي مع اللغة
والفكر وعلائقهما: أحدهما أصولي - بياني بقي أمينًا على قدسية اللغة في نحوها وقواعدها القائمة على ركني الأعراب والإسلام،
والثاني منفتح حاول
أصحابه تعقيد لغة قادرة على استيعاب
مفاهيم ومعانٍ وتراكيب وقواعد تعكس فنونًا وعلومًا دخيلة امتزجت
بتلك الأصيلة. وتمثل لغة الفارابي الفلسفية، ونظرياته المعروضة في هذا
الكتب - وفي كتاب آخر هو «كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق» - أنموذجًا للمنحى
الثاني.
3)
كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطوطاليس
دافع فيه الفارابي عن وحدة الفلسفة، وهي
مسألة قديمة ظهرت في المدارس اليونانية المتأخرة
ولاسيما في المدرسة الإسكندرانية.
وقد وضع الفارابي عدة رسائل هدفها الجمع
والتوفيق بين كبار الفلاسفة
لم يصلنا منها إلا «كتاب الجمع بين رأيي
الحكيمين» وكان الدافع الأساسي لوضع هذا الكتاب معالجة مشكلة
حدوث العالم وقدمه. وقد تطرق الكتاب إلى مسائل دينية إسلامية أخرى مثل مسألة
الثواب والعقاب، والعناية الإلهية، وخلود النفس، والوعد والوعيد. وقد تبنّى الفارابي بكل وضوح التوجه الإسلامي العام القائل
بحدوث العالم، أما الذين
يظنون أن أرسطو يرى أن العالم قديم -
وهو مأخذ تمسّك به خصوم الفارابي معتبرين أن أبا نصر تبع أرسطو في
رأيه - فإن ظنهم بنظر الفارابي «قبيح ومستنكر»، ولذلك فإننا نعتقد أن اعتماد
الفارابي لنظرية الفيض - التي تقرّر أن العالم فاض عن الله كما يفيض النور عن الشمس، والماء عن الينبوع، والأريج عن الزهر،
باعتبار أن الكامل يفيض
عنه وجوده - لا يتنافى مع قوله بحدوث
العالم، فلقد أتم الفارابي بالفعل تحويل نظرية الفيض الأفلاطونية
باتجاه يتوافق مع الرؤية الإسلامية للوجود ويحافظ على الثوابت الأساسية في الحضارة الإسلامية. فإذا كان الثابت الأساسي في
البنية الفكرية
اليونانية هو «لا شيء من لا شيء» فإن
الثابت الأساسي للبنية الفكرية الإسلامية، كما يقول الدكتور محمد
عابد الجابري في كتابه «نحن والتراث» هو فكرة «الخلق من عدم».
4)
كتاب «إحصاء العلوم»
يعدّ هذا الكتاب إحصاء وتصنيفًا للعلوم
في الآن عينه. وكان قصد
الفارابي فيه إحصاء العلوم المشهورة
علمًا علمًا، ودراسة مضمونها بصورة مجملة. وهذا ما دفع بالكثير من
الدارسين - مثال مصطفى عبدالرزاق وبطرس البستاني وجرجي زيدان وسواهم - إلى القول
إن كتاب الفارابي هذا يشكل أول موسوعة أو دائرة معارف. وبهذا الاعتبار يتقدم
الفارابي على سائر من وضع تصنيفات للعلوم قبله مثل أفلاطون وأرسطو والرواقيين. وقد تطرق الفارابي في كتابه إلى علوم اللسان
والمنطق والتعاليم (الرياضيات بفروعها السبعة) والطبيعيات والعلم الإلهي والعلم
المدني (السياسة
والأخلاق) وعلمي الفقه والكلام.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في أن الفارابي
قدّم عبره صورة عن واقع العلوم في عصره، ووضع الحجر
الأساسي الذي ستبنى عليه الأعمال الفلسفية الشمولية العربية كرسائل إخوان الصفا
وكتاب الشفاء لابن سينا.
أثر الفارابي
نقول ختامًا إن الفارابي لعب دور الرائد
والموجّه في تاريخ الفلسفة
العربية على الرغم من أنه لم يترك مدرسة
كبيرة كالسينوية أو الرشدية، فهو لم يدع مسألة مطروحة على
الفكر الإسلامي إلا ناقشها بعمق. ولكن الأثر الأكبر الذي تركه على صعيد التراث الإنساني عمومًا يتمثّل بصورة خاصة في مدينته
الفاضلة، وفي آرائه في
مجال الإلهيات ولاسيما استدلاله على
وجود الله، وفي شروحه المنطقية التي بزّ بها كل شارحي أرسطو العرب
حتى ابن رشد.
إميل خوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق