إذا كان الحب عاطفة
إنسانية يشترك بها الناس، فالبحث يقتضي تتبع طبيعة تعبير المشاعر عن هذه العاطفة،
للوقوف على خصائص ذلك التعبير، فمن خلال تعبيرها، تتضح طبيعة نظرتها إلى الحب، وما
إذا كانت تختلف عن نظرة الرجل.
منذ وعي الإنسان الحیاة والوجود، وأدرك منزلة المرأة وصلته بها، اکتشف فن التغزل بها، کتعبیر طبیعي عن أحاسیسه الشخصیة وعواطفه الإنسانیة. وعرف بالتالي أنها أهم موضوع وأبرزه، لأنها أعلق الفنون بالقلب والوجدان، وأقربها إلی فطریة الإنسان وطبیعته. وطالما أن المرأة تثیر الرجل بذاتها، وتزید من شجونه وشوقه، لأنوثتها وظرافتها، فإنّ الرجل لم یجد أفضل من الغزل وصلاً، کونه من جهة لغة العاطفة والمحبة التي تبعث الارتیاح والسعادة، ومصدر المشاعر القلبیة وأحاسیسها الجمیلة، التي یتوخی منها الإنسان والشاعر خاصة التقرب إلی المرأة المحبوبة، ومن جهة أخری مصدر المتناقضات الوجدانیة، وما یعتریه من شوق وحنان، ووصل وهجر، ووعد وأخلاق.
لقد شغلت المرأة وغزلها
الآداب والفنون، واحتل الغزل حیّزاً کبیراً من اهتمام الشعراء. ولم یحفلوا بشيء
احتفاءهم به، سواء کان صادراً من القلب حیث أفردت له القصائد والمقطوعات، أو کان
تقلیداً نسج علی نهج أقرانه، وافتتحت به المطولات. وقد عادل ما کتب في هذا الفن،
جمیع الأشعار التي قالها شعراء العصر الجاهلي في بقیة الموضوعات. وربما عدّه بعضهم
وسیلة یلجأ إلیها الشاعر لیشحذ قریحته، ویذکي شاعریته قبل أن ینفعل في موضوعه، أو
بالأحری یتخذه إلهاماً روحیاً. كما يقول الدكتور حسن: «کیف تفعل إذا انقفل دونك
الشعر؟ فقال: وکیف ینقفل الشعر دوني وعندي مفاتیحه» [حسن، حسین الحاج، أدب العرب
في عصر الجاهلیة،1982م، ص141] من قول الغزل وذکر الأحباب. لکنّ هذا النهج سرعان ما
أصبح تقلیداً عاماً لجمیع الشعراء، سواء بذکر هم للغزل مباشرة، أو بالحدیث عن
الأدیار والأثار الباقیة.
من ینعم النظر في الغزل الجاهلي یجده –علی ائتلاف بواعثه وغایاته- مختلف الأشکال متعدّد الأنماط. وأبرز أنماطه أربعة: غزل المطالع المشوب بالوقوف علی الأطلال، والغزل العفیف المعنيّ بصور الجمال وسموّ الغریزة، والغزل الصریح المغموس في الشهوة، وغزل الکهول.
من ینعم النظر في الغزل الجاهلي یجده –علی ائتلاف بواعثه وغایاته- مختلف الأشکال متعدّد الأنماط. وأبرز أنماطه أربعة: غزل المطالع المشوب بالوقوف علی الأطلال، والغزل العفیف المعنيّ بصور الجمال وسموّ الغریزة، والغزل الصریح المغموس في الشهوة، وغزل الکهول.
أجمع الباحثون على أن
الغزل في العصر الجاهلي، قد إحتل الجزء الأكبر من تراثنا الأدبي، لأنهم لم يجدوا
قصيدة، في أي غرض من الأغراض، إلا وفيها اتصال بالغزل، إن لم تكن مقتصرة عليه.
لذلك نرى شكري فيصل يقول في كتابه "تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام":
«إنّ الثروة الشعرية كالقطعة الذهبية ذات الوجهين: نقش الجاهليون على صفحتها
الأولى عواطفهم التي ابتعثها فيهم الحب، وما يؤدي إليه هذا الحب من وصل أوهجر، ومن
سعادة أو شقاء، ومن لذة أو غصة، وصوّروا هذه العواطف، وأفنوا في تصويرها ملكاتهم
ومواهبهم.
أما الصفحة الأخرى، فقد
جمعوا عليها أغراضهم الأخرى، ونثروا في أطرافهم كل الفنون والأغراض الثانية، كائنة
ما كانت هذه الفنون والأغراض». [شكري، فيصل، تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام، لا
تا، ص180] والغزل من أهم الأغراض وألصقها بالغریزة، أنماط الغزل في الجاهلیة (غزل
المطالع، غزل المحاسن والمفاتن، الغزل الماجن، غزل الکهول).
أدرک شعراؤنا في العصر
الجاهلي بالحسّ والحدس الصادقین، فضل الغزل علی الأغراض الأخری، فجعلوه مفتتح القصائد
لیلفتوا إلیهم الأسماع، ولینفذوا من الأسماع إلی القلوب بلا عناء ولا استئنذان.
وربطوا الطلل بالمحبوبة، فکان هذا الربط أصدق الأدلة علی وفائهم للوطن والسکن،
وعلی جعلهم المرأة أقوی الوشائج التي تشدّهم إلی منابتهم في الحلّ والترحال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق