الأربعاء، 20 يوليو 2016

• الغزل في العصر الجاهلي: الجوانب النفسية والأخلاقية

تناول الشاعر الجاهلي الجوانب النفسية والأخلاقية عند المرأة وتغزّل بالقیم الإجتماعیة ‌العالیة، والصفات الخلقیة، التي‌ لم تخالطها قیم الحضارة الأجنبیة ومفاهیمها الجدیدة، واستحسن العفة والمنعة والحیاء والخفر، وأحبها عزیزة کریمة تصون نفسها من عادیات الزمان، وتحتشم بالرصانة والإتزان. وأکد أن الحدیث عن الجوانب الخلقیة والجمال النفسي، لا یقل أثراً في نفس الرجل، عن جمال الجسد، بل لعلّه أعمق منه وأقوی اجتذاباً.

فالسلیك بن السلکة‌ یری أن المرأة العفیفة والممتنعة، هي‌ أکثر تفضیلاً‌ في نظر الرجل، وأن القلب عادة یعاف المرأة المبتذلة، التي تجود بوصلها، فلنستمع إلیه وهو یتغزل بالمرأة المصونة، التي تحمي ‌نفسها وذویها من العار (الأصبهاني، الأغاني، 1916م، ج 18: ص 135):

مِنْ الخفزات لم تفضح أخاها
   ولــــــم تــــــرفع لوالدها شنارا
   یعافُ وصالَ ذاتِ البذلِ قلبي
   ویتّبـــعُ المُمَنّعةَ الـــــنَوّار
والواقع أن حیاء المرأة وعفتها، من متممات المجتمع الجاهلي، الذي صان الکرامة، وعرف النخوة والمروءة. وکذلك الأعشی الذي شبّب بجمال المرأة ومحاسنها المادیة، نراه لا یخرج کلیّة عن مفاهیم مجتمعه، فتنثال قیمة‌ عفویة غیر مصطنعة، تعبّر عن فطریة العصر الذي لم تفسده زخارف الحیاة‌ المدنیة. ویراها قریبة‌ للقلب غیر متکلّفة، یلذ معشرها وسماع أحادیثها، لا تعرف التواء أو کرها ونمیمة، کما لا تتسقط أخبار الناس، وتتسبّب في افتعال أزمات وفتن. یقول [الأعشی، دیوان، لا تا، ص 144]:
لَیستْ کَمَنْ یَکْرَة‌ الجِیرانُ طلْعَتَها

وَلا ترَاها لِسِرّ الجَار تَخْتَتِلُ
والنابغة الذي یُشغل بأمور جلیلة فی حیاته، قلّ شعر الغزل في قصیده. لکنه حاکی أقرانه الشعراء في الحدیث عن المرأة في‌ مطالع القصیدة، وامتاز شعره برقة العبارة ورصانة اللفظة‌ ودقة التشبیهات الطریفة، الجدیدة والمستملحة. یقول [الدسوقي، عمر، النابغة الذبیاني، 1966م، ص237]:
بَیِضاءُ کالشّمْسِ وافَتْ یَومَ أسْعَدها
لَمْ تُؤذِ أهلاً ولم تُفحش علی جار...
أقولُ وَالنّجْمُ قَدْ مَالَتْ أواخِرُهُ
إلی المَغیبِ تُبیتُ نظرةً حارِ
أَلَمْحَةٌ مِنْ سَنا بَرْقٍ رَأی بَصَري
أمْ وَجْهُ نعمٍ بَدا لِي، أمْ سَنَا ناَرِ؟
بَلْ وَجُهُ نُعمٍ بَدا، وَالَّلیْلُ مُعْتَکرٌ

فَلاحَ مِنْ بَیْنِ أَثْوابٍ وَأَسْتارِ
وفي هذا المقام تغزل فرسان العرب، الذین قارعوا الأعداء وقاتلوهم، ذوداً عن کرامة قومهم، من أجل نیل رضی الحبیبة ،‌ وطلب ودّها. وقد جاء کلامهم في شعر صادق أحاط بمعاني المروءة والشرف، ومُثل قيم المجتمع العليا.
وربط بعض الباحثين بين مقدمة القصيدة والحياة الاجتماعية لعرب الجاهلية. فعزالدين إسماعيل يفسّر وقفة الشاعر الجاهلي على الأطلال، بأنها كانت تعبيراً عن أزمة الإنسان في ذلك العصر، وعن موقفه من الكون، وخوفه من المجهول، أكثر مما كانت بكاءً على حبيبة غائبة أو سعادة زائلة. ويعيد ذلك إلى شعور الجاهليين بالقلق والحيرة وعدم الاستقرار. [إسماعيل، عزالدين، مجلة الشعر المصرية، النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية في ضوء التفسير النفسي، 1969م، ص3-4] ويرى محمد جابر الحيني أن مقدمة الطليلة كانت وثيقة الصلة في نشأتها بحياة العرب الاجتماعية في الجاهلية. [الحيني، محمد جابر، أنوار في دراسات وأبحاث، 1963م، ص43] لذلك فهي تعبّر بصدق عن واقعهم ومعاناتهم.
لقد کانت الأطلال –علی ما فیها من وحشة وکآ‍بة– المدخل الذي يفضي‌ منه الشاعر الجاهلي إلی الغزل لارتباطها بأحبّته. ولمّا کان الطلل باب الغزل فقد کان الشاعر یحیّیه،‌ وهو في‌ حقیقة الأمر لا یحیّي إلاّ حبیبته، ویدعو له بالسلامة من الآفات، ولا یرید السلامة إلاّ لمن کانت تعمره.
وإذا کانت إنسانیة‌ العاطفة ‌المحكّ الذي تضرب علیه العواطف لیعرف صادقها من الکاذب فإنّ میل الرجل إلی المرأة من أقوی العواطف الإنسانیة، وأوسعها شمولاً، وأعلقها بالنفوس،‌ وألصقها بالغرائز. یحسُّها شباب الشعراء وکهولهم،‌ لکنّها في‌ الشباب تزاداد عنفاً، وفي الکهولة تخبو ولا تنطفئ.
قال ابن قتیبة:‌ «التشبیب قریب من النفوس، لائط بالقلوب، ‌لما قد جعل الله في ‌ترکیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلا یکاد أحدٌ یخلو من أن یکون متعلّقاً منه بسبب،‌ وضارباً فیه بسهم حلال». [الدينوري، ابن قتيبة، الشعر والشعراء،1423هـ، ص254]





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق