مع بداية كل يوم تحمل لنا الحياة العديد من الأحداث بعضها روتيني وبعضها سارّ والكثير منها مؤلم.. وينعكس هذا التأرجح في أحداث الحياة على حالة المزاج لدينا فنراه يرتفع وينخفض ولكن يبقى ضمن المجال المتعارف عليه بأنه «سويّ».. هناك إذن فرق بين هبوط المزاج الذي يحصل بين الفينة والأخرى في سياق هموم الحياة - وما أكثرها - وبين الاكتئاب كمرض حيث الحزن يطبع حياة الشخص كلها باللون الأسود مؤديًا لتدهور أدائه الفكري والاجتماعي والمهني.
والاكتئاب (Depression) مرض شائع يصيب حوالي 20 في المائة من الأشخاص بسن 15-75 سنة وهو في النساء إجمالاً ضعف الرجال ولكن تصبح معدلات الإصابة متساوية بعد سن الستين.
مظاهر الاكتئاب
للاكتئاب مظاهر نفسية وأخرى جسمية:
أولاً: المظاهر النفسية للاكتئاب
· المزاج الكئيب الذي يشبه حالة الحداد.. وهو إجمالاً أسوأ في الصباح الباكر ويتحسن بتقدم النهار.
· النظرة التشاؤمية للمستقبل.
· غياب الحافز لفعل أي شيء.. واللامبالاة بأي أمر.
· فقدان القدرة على التمتع بالحياة والشعور بأن كل الأمور لا قيمة لها ولا جدوى منها.
· الشعور بالتعب والإنهاك وعدم الرغبة بالقيام بأي نشاط أو عمل.
· النزق والتوتر وسهولة الاستفزاز.
· البطء النفسي - الحركي فالكلام بطيء والمشية متثاقلة والتركيز ضعيف.. وكل شيء يسير ببطء.
ثانيًا: المظاهر الجسمية للاكتئاب
· ضعف الشهية ونقص الوزن (في بعض الأحيان يحدث العكس، إذ ينشغل المكتئب بالأكل فيزداد وزنه).
· الإمساك.
· النوم المضطرب، حيث يستلقي الشخص لينام فيهرب النوم من عينيه ولا يغفو إلا بعد وقت طويل كما يستيقظ مرات عدة في الليل.
· ضعف الرغبة والأداء الجنسي.
· من المظاهر المهمة ما يعرف بداء «المراق» حيث يتوهم المكتئب أنه مصاب بمرض خطير مثل الجلطة أو السرطان وهو ينتقل بين العيادات وتجرى له فحوص كثيرة وغير ضرورية.. وبالرغم من طمأنة الأطباء له فإنه يتركهم وينتقل لغيرهم.
· قد يلجأ المكتئب لتعاطي الكحول كي يتخلص من الضيق فيصبح مدمنًا.
لماذا يصاب المرء بالاكتئاب؟
الاكتئاب حصيلة عاملين: التركيبة الشخصية الوراثية من جهة والضغوط الخارجية من جهة أخرى.
قد يحصل الاكتئاب عند الشخص العادي بعد تعرضه لضغوط نفسية خارجية شديدة مثل:
وفاة شخص عزيز - فصل من الوظيفة - الطلاق - الإفلاس..إلخ، فمثل هذه الصدمات تسبب حالة من الحزن والاضطراب تسمى «الحداد الارتكاسي» (Grief) والتي تستمر أسابيع وأحيانًا شهورًا، لكنها عند الأشخاص المستعدين تأخذ شكلاً شديدًا وطويل الأمد يعرف بـ«الاكتئاب الارتكاسي» (Reactive Depression) أو «الاكتئاب من منشأ خارجي» ولكن هذه الحالات تتحسن عادة بعد مرور الصدمة.
أما حالات «الاكتئاب الداخلي» فهي تحدث من دون سبب واضح، وتميل للتفاقم مع الزمن إن لم تعالج بشكل جيد، ويعزو الباحثون هذه الحالات إلى نقص كمية مادة (سيروتونين Serotonin) في الدماغ وهي مادة ذات فعل محسن للمزاج.
الاكتئاب المرافق لأمراض مزمنة
يعتبر الاكتئاب عرضًا مهمًا في حالات كسل الغدة الدرقية ومرض الزهايمر (الخرف المبكر) وداء باركنسون (الشلل الرعاش)، كما أن الأمراض المزمنة مثل السرطان والسكري وأمراض القلب تسبب الاكتئاب للمريض، ولعل السبب هو الخوف من العجز. بالإضافة للمرض نفسه فإن بعض الأدوية المستخدمة في علاج الأمراض المزمنة يشكل الاكتئاب أحد آثارها الجانبية المزعجة مثل مركبات الكورتيزون وبعض أدوية الضغط (ألدوميت/حاصرات مستقبلات بتا).
وفي الأشخاص المدمنين على المهدئات أو المخدرات فإن الانقطاع المفاجئ عن التعاطي لأي سبب يدخل الشخص في حالة من الاكتئاب.
معالجة الاكتئاب بالأدوية
يعتبر اكتشاف الأدوية التي تزيد نسبة السيروتونين في الدماغ (مثل بروزاك Prozac وسيروكسات Seroxat) فتحًا مهمًا في معالجة الاكتئاب ويفضل مراجعة الطبيب الخاص لوصف الأدوية المناسبة وللمدة المناسبة.
معالجة الاكتئاب بالصدمات
هو طريقة فعّالة جدًا في معالجة الاكتئاب الشديد.. كما أنها تستخدم في الحوامل، حيث إن الأدوية تحمل خطر التشوّه الجنيني.
لا تعرف آلية عمل هذه الطريقة، وربما كانت عن طريق تحرير النواقل العصبية الكيميائية تعطي الصدمات بشكل يومي لمدة أسبوع أو أسبوعين.
علاجات أخرى للاكتئاب مساعدة
1) العلاج السلوكي: وذلك حينما يكون الاكتئاب «نمط حياة» يسير عليه الشخص.
2) العلاج الاجتماعي: إن الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل يمكنهم أن يقوموا بدور مهم في علاج الشخص المكتئب خاصة ذاك الذي يعاني انعدام البهجة والسرور في أي تواصل أو علاقة مع الآخرين.. في مثل هذه الحالة ينبغي «جرّ» الشخص المكتئب إلى أي مشاركة، وقد ينفع تأليف مجموعة (مثلاً: مجموعة من المصابات بسرطان الثدي).
من جهة أخرى فإن مريض الاكتئاب كثيرًا ما يكون لديه مشاكل مالية أو قضائية، ومن واجب المجتمع المحيط به المساعدة على حلّها.
كما قد يكون المريض معتادًا على المشروبات الكحولية، وهنا لابد من انخراطه في برنامج للتوقف عن ذلك.
3) العلاج النفسي: وذلك بعد مرور المرحلة الحادة والهدف منه تقوية الآليات الدفاعية عند الشخص المكتئب، زيادة الثقة بالنفس، تطوير آليات تأقلم جديدة مع المحيط، وتعلم الاستمتاع بالحياة اليومية بعيدًا عن التشنج.
4) بعض الأشخاص يعانون اكتئابًا في فصل الشتاء ويتميز هذا الشكل بالإفراط في الأكل والنوم، ويعزى هذا الاكتئاب الفصلي لنقص التعرض للشمس ويمكن معالجته بالتعرض للضوء مدة ساعتين يوميًا وتعزى التأثيرات المفيدة للضوء لتغير سوية (الميلاتونين).
5) يفيد استعمال النبتة المعروفة باسم (حشيشة القلب) أو (St John Wart) في التخلص من أعراض الاكتئاب ويوجد منها كبسولات تستعمل 3 مرات يوميًا.
المرض ثنائي القطب (Bipolar Disease)
يتميز هذا المرض والهوس بتناوب حالات الاكتئاب والهوس وهو يحتاج إلى تمييز عن بقية أشكال الاكتئاب لأنه يعالج بشكل مختلف، كما أنه يؤثر في الحالة العقلية، لذا يصنّف ضمن حالات «الذهان» (Psychosis) أي أنه يؤثر عميقًا في مكونات الشخصية، ولذا تصبح أهلية المصاب بهذا المرض موضع شك من الناحية الشرعية والقانونية.
تبدأ أعراض الحالة بالظهور في العشرينيات من العمر.
تتميز حالة الهوس (Mania) بازدياد في كل الفعاليات ويكون مزاج المريض مرتفعًا فهو يتكلم بسرعة، وكلامه مشتت وغير مترابط، وقد يتلفظ بأقوال غير مفهومة أو ربما بذيئة، ومن كثرة الكلام والصراخ تجد صوته مبحوحًا.
ومريض الهوس قليل النوم، كثير الحركة ولا يشعر بالتعب أبدًا، حتى أنه لا يجد وقتًا للأكل والشرب، وقد يصاب بالنحول، ولكن نشاطه لا ينقص وهو ينشر السرور والضحك في المكان الذي يكون فيه (وهذا ما يطلق عليه: عدوى السرور).
وهو كثير المشاريع والأفكار، ولكنه لا يتابع أيًا منها، بل ينتقل من واحد لآخر، كما أنه غير مستقر في وضعه الأسري والمهني والاجتماعي ويميل لتغيير أصحابه، لأنه أيضًا لا يستقر على حال. تستمر حالة «الهوس» أسابيع أو أشهر حيث تتراجع ويحل محلها «الاكتئاب» وهي نقيض النوبة الأولى، وقد يحدث هذا التحول عقب صدمة نفسية أو من دون أي سبب.
تستخدم معالجات عدة في هذا المرض، فخلال نوبات الهوس يعطى المهدئات القوية والأدوية المضادة للذهان، وخلال نوبات الاكتئاب تعطى الأدوية المضادة للاكتئاب، كما تعطى مركبات عنصر «الليثيوم» للوقاية من تكرار النوبات على المدى البعيد، وغالبًا مدى الحياة.
والليثيوم (Lithium) أحد المعادن، وهو ذو تأثيرات جانبية كثيرة أهمها مشكلات الكلية والغدة الدرقية، لذا يجب مراقبة هذه الأعضاء خلال المعالجة بشكل دوري، كما أن الدواء يسبب تشوّهات بالأجنّة، لذا لا يستخدم في الحوامل، وهو يفرز مع الحليب، ولذا لا يستخدم عند المرضعات.
أما في الحالات الشديدة (سواء من الهوس أو الاكتئاب) فالحل السريع والفعّال هو الصدمات الكهربائية.
هل يمكن الوقاية من الاكتئاب؟
الاكتئاب هو ذلك الضيف الثقيل الذي لا يرغب أحد باستقباله، ولكنه يتسلل إلى حياتنا من أبواب كثيرة، وفي ما يلي بعض الوصفات المفيدة:
· ممارسة الرياضة بانتظام تحسّن المزاج وتقي من الاكتئاب.
· إن الحمض الأميني المسمى «تربتوفان» يتحول في الجسم إلى «سيروتونين»، ولذا فالأغذية التي تحتوي على هذا الحمض تخفف الاكتئاب مثل: البيض والسمك والدجاج والجبن، كما أن تناول كمية كافية من الزيوت النباتية كزيت الزيتون وزيت الذرة له التأثير نفسه.
· التعرض الكافي لأشعة الشمس في الأوقات المناسبة.
· تبنّي فلسفة إيجابية تهدف إلى الاستمتاع بمباهج الحياة المتاحة واعتبار المصاعب والإخفاقات التي تنتابنا بين الحين والآخر الثمن الذي ندفعه للحصول على تلك المباهج، يقول جبران خليل جبران: «وأما نيسان فيعود.. لكن من يطلب نيسان من غير كفّ الشتاء فلن يجده».
مجلة العربي.. يوسف سليم قرنوب
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق