عالم الطفل.. ذلك العالم
الجميل والذي تظلله قيم الحب والخير والعدل والمثالية، تلعب السينما دورا محوريا
في صياغته. هذه السينما يمكن - كأي أداة حضارية - أن تمثل الحلم الوردي في حياة
أطفالنا ويمكن أيضا أن تتحول إلى سهام مسمومة تغتال هذا الحلم على المدى البعيد.
ولأن الوطن العربي ما زال يقع ضمن دائرة للنموذج الحضاري الغربي، فإنه يستورد
لأطفاله ملابس الجينز الأمريكية ولعب "الأتاري" اليابانية، بل وحكايات
الأطفال - المصوغة سينمائيا وكرتونيا - من كل بلاد الدنيا.
لأن هذه الأفلام
الطفولية أنتجت وصممت لأطفال ينتمون لمجتمعات تختلف - تاريخا وعقيدة وثقافة وتراثا
حضاريا - عن مجتمعنا العربي وبما تحتويه في غالب الأحيان من أفكاره مغايرة وكثيرا
مناقضة لهذا التاريخ وتلك العقيدة والثقافة العربية، فقد تحولت مع الأيام إلى
قنبلة موقوته في منظومة سلوك الطفل العربي. ومما زاد الأمر خطورة ظهور موجة من
أفلام الأطفال عبر السنوات القليلة الماضية تحقر من شأننا كعرب، وتشوه تاريخنا،
وتضع الإنسان العربي في ذيل قائمة البشر، وتذاع بدون وعي في أغلب محطات التلفاز
العربية.
هذه القضية بما تتضمنه من حساسية ومساس
بمستقبل أمة، نطرح عددا من التساؤلات حولها، نبدأ بحجم دور عرض هذه الأفلام في خلق
أجيال عربية بعيدة حضاريا عن تاريخها ومجتمعاتها، أي أجيال تتعرض لتشويه وطمس
الشخصية ثم ننتهي بالتساؤل عن مدى إمكان قيام سينما عربية بديلة لأطفالنا تدعم
الذات الحضارية العربية وتستلهم تراثها وتعمق انتماء أبنائنا لهذه الحضارة.
هذه الأسئلة طرحتها "العربي"
على اثنين من كبار السينمائيين العرب العاملين في هذا الحقل والواعين بخطورة هذه
القضية. الأول هو أحمد رأفت بهجت الناقد السينمائي المصري صاحب كتاب "الشخصية
العربية في السينما العالمية" والثاني هو محمود رحمي مخرج أفلام الأطفال
بالتلفزيون المصري.
الجذور
الحكي والقص للطفل في كل مكان وزمان هو
أحد مصادر التعلم الأولى له. وعن طريق هذه الوسيلة يمكن إكسابه القيم الحياتية
لمجتمعه ونقل تراث هذا المجتمع له في قوالب محببة إلى عقله ووجدانه وخياله. وكذلك
يمكن تكوين ضميره وثقافته وانتمائه لأرضه.
ولا يمكن لأحدنا إنكار دور
"الأراجوز" في الموالد الشعبية بالقرى العربية أو "خيال الظل"
في صياغة ضمائرنا وبدء تفتحنا على الحياة. ومنذ أن طاف "ابن دانيال" منذ
700 عام قرى مصر والشام والعراق والمغرب العربي حاملا خيال ظله وحكاياته عن سيف بن
ذي يزن والفارس عنتره وأبي زيد الهلالي وجحا العربي الذي يخرج من كل المآزق مبتسما
مبلورا للحكمة الإنسانية، وأطفالنا مازالوا يلهثون وراء تلك الحكايات التي تحولت
بفعل التطور الإنساني إلى أفلام سينمائية ومسلسلات كرتونية تحتل موقع المعلم
والأسرة والمدرسة في حياة هؤلاء الأطفال. وتؤكد الدراسات الإحصائية التي قامت بها
منظمة اليونيسيف والمجلس العربي للطفولة ومؤسسة "ديزني لاند" الأمريكية
أن الطفل في المناطق الحضرية من العالم يقضي 16 ساعة يوميا في مشاهدة برامج
الأطفال والأفلام الكرتونية على شاشات التلفزيون والسينما والفيديو أثناء العطلات
المدرسية. وتنخفض هذه المدة إلى 9 ساعات، أثناء الموسم الدراسي. أما في المناطق
الريفية فتصل ساعات المشاهدة إلى 8 ساعات في الموسم الدراسي، و14 ساعة أثناء
الإجازات.
هذه الإحصاءات تؤكد انفراد هذه الأفلام
بتشكيل مفاهيم الأطفال وصياغة عقولهم ووجدانهم، بل واستحواذها على تلك العقول بما
تملكه من وسائل تقنية مبتكرة للإبهار والخدع السينمائية.
وتشير الإحصاءات أيضا إلى أن مؤسسة
"ديزني لاند" والشركات السينمائية الأمريكية تنتج وحدها ما يوازي 40% من
أفلام الأطفال في العالم، تليها دول أوربا الغربية وكندا بنسبة 25%، ثم دول جنوب
شرق آسيا والصين بنسبة 15%، أما نسبة ال 10% المتبقية فتتوزع على دول المنطقة
العربية وبعض بلدان العالم الثالث في إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
سيطرة وتشويه
هذه الأرقام تعكس سيطرة غريبة مذهلة على
هذا الحقل، والأخطر أنها تحتوي على مجموعة أفكار وقيم تخدم مصالح هذا الغرب،
ومعادية في أحيان كثيرة لثوابت تاريخية وفكرية عربية. يدعم هذا الرأى ما يورده لنا
الناقد أحمد رأفت بهجت من نماذج لأفلام أطفال تتضمن تشويها متعمدا للشخصية العربية
وهجوما على الدين الإسلامي بأسلوب مقزز. ومنها أحد الأفلام المنتجة في الصين والتي
كانت تريد الاشتراك به في مهرجان القاهرة الدولي الثالث لسينما الأطفال، وتم رفضه،
ويتضمن هذا الفيلم - رغم استلهامه لإحدى قصص ألف ليلة وليلة - إساءة بالغة للإسلام
بوضع العناصر الشريرة في الفيلم داخل مطعم إسلامي، ويتمثل الشر في شيخ معمم يعتلي
عمامته الهلال ويتخذ من الأهرامات المصرية وكرا لعمليات السحر التي يمارسها
وتتوالي مشاهد الفيلم بصعود هذا الشيخ من فوهة الأهرامات، ليهبط من أعلاها إلى
مدينة عربية.
وينشر فيها شره وسمومه، ثم يتقدم إلى هذا
الشيخ لينقذ تلك المدينة من شروره ويظهر هذا الطفل في منزل رسمت على حوائطه نجمة
داود في إشارة واضحة لليهود.
ويقول رأفت بهجت إن هذه الأفلام تتناسق مع
الاتجاه العام لتشويه الشخصية العربية في السينما العالمية، والذي فشلنا كعرب في
مواجهته حتى الآن.
أما محمود رحمي مخرج برامج الأطفال فيرى
أن خطورة هذه الأفلام في أنها تصدر النموذج الغربي بكل مساوئه للعقل العربي،
بتدعيمها للفردية وتصوير البطل دائما على أنه المنقذ الذي يأتي بالمعجزات.
والمسلسل الكرتوني "توم أند جيري" شاهد فج على ما يفعله الغرب بأطفالنا،
والذي يسهل لهم ذلك وقوعنا دائما في دائرة المتلقي والمستهلك لحضارتهم، بدءا من
علبة السجائر وانتهاء بمسلسلات الأطفال.
ولكن لماذا لا توجد عندنا سينما عربية
لأطفالنا تمثل بديلا عن الغذاء غير العربي الذي تقدمه لهم الشركات الأجنبية ؟
يقول رحمي إن هناك محاولات عربية جادة
ومخلصة في هذا الاتجاه سواء في مصر أو بعض الدول العربية الأخرى، مثل حلقات بوجي
وطمطم التي قدمتها محطات التلفاز العربية عبر سنوات عديدة، وإن كان معظم ما تم
إنتاجه حتى الآن الإنتاج العربي عليه أن يقف على قدم المساواة مع الإنتاج
السينمائي الغربي، لإحداث نوع من الحوار الحضاري نستطيع من خلاله خلق أجيال عربية
واثقة في تاريخها مؤمنة بمستقبل بلادها، ومتفتحة في الوقت نفسه على العالم. ويشير
إلى أن 90% مما تم إنتاجه عربيا يتسم بالسذاجة المطلقة، بل والمعلومات المغلوطة عن
جهل، وهو أمر في حد ذاته أخطر من المعلومات المغلوطة عمدا، التي تتضمنها الأفلام
الغربية.
عقدة الخواجة
على الجانب الآخر لا يري الناقد السينمائي
رأفت بهجت أن الإمكانات المادية تقف عقبة أمام ظهور سينما عربية للطفل. فالمشكلة
من وجهة نظره تتلخص في انعدام الموهبة، وضحالة مستوى القائمين على صنع هذه الأفلام،
وعدم القدرة على استيعابهم للتقدم الهائل في مجال فنون الطفل. وما تم إنتاجه حتى
الآن يحمل في طياته ما يسمى بعقدة الخواجة، حيث قامت بعض الدول العربية برصد
ميزانيات هائلة لإنتاج أفلام لأطفالها بالمشاركة مع بعض الدول الأجنبية، وخاصة
ألمانيا واليابان. وكانت النتيجة خسارة مالية وأدبية، حيث أنتجت الأفلام بأسلوب
وأفكار ترضي النزعة الغربية لا العربية الممولة.
ويطرح رأفت بهجت سيناريو عمل لمواجهة هذه
الموجة من الأفلام، وذلك بتجميع العناصر الجادة المحبة لفنون الطفل الواعية
بأهميتها وبعناصرها المتطورة تحت راية أب روحي يعشق هذا الفن، ويستطيع حشد
الميزانيات المتناثرة في الدول العربية ووضعها في مؤسسة قومية واحدة تتولى إنتاج
هذه الأفلام. والأمر الآخر يتمثل في ضرورة اتخاذ موقف فعال ومؤثر ضد ما ينتج من
شرائط فيلمية "مدبلجة" بتشديد الرقابة عليها.
محمود عبدالعظيم
مجلة العربي ابريل 1993