ثمة
ثنائيات غرامية كثيرة ابتكرها شعراء العرب القدامى وجسدوها في دواوينهم، وربما وصل
بعضها إلى ضفاف الأسطورة. لكن هل أخلص هؤلاء العشاق لمحبوباتهم، أو تخلل هيامهم
درب من الفراق أو الخيانة، أو حتى الكذب وتأليف القصص لكسب تعاطف القراء؟
تقول العرب إن "الحب
أعمى" أي أن العاشق لا يرى في المحبوب حتى العيوب الظاهرة، وكثيرا ما يشكو
العشاق، بعد الزواج، من أنهم كانوا "مغمضين" عندما علقوا وتعلقوا،
ويبالغ بعضهم فيزعم أن الزواج يفتح العينين، وربما كان هذا صحيحا في العينين وفي
"الجيبين" أيضا بعد أن ضربت تكاليف الزواج أرقاما قياسية، وبات الدخول
في القفص الزوجة أصعب من الخروج من بغداد.
كان
العصر الأموي (40/660-132/750) عصر تشكيل حدثت فيه تغييرات رئيسية في الأدب
العربي، شعره ونثره. ففي هذا العصر احتلت قصص الحب في اللغة العربية، خاصة في
الحجاز، مكانها البارز من الصف الأمامي، مشيرةً إلى ظهور تيار عاطفي في الأدب جاء
جوابا على القلق العميق الذي استولى على عرب الجاهلية بظهور دين جديد مسيطر على كل
شيء، وعلى التغيرات المفاجئة والتناقضات التي أحدقت بالحياة العربية والصعوبة في
التكيف مع المدنية الجديدة النامية.
ما بين الحقيقة والخيال، يتأرجح
بعض الشعراء العذريين، مثل قيس بن الملوح "مجنون ليلى"، وقيس بن ذريح
وعروة بن حزام، وجميل بثينة... كل هؤلاء شعراء ذاع صيتهم ليس بفضل أنهم شعراء فقط،
بل لأنهم انتهجوا طريقة في الحب.
ما ميزهم من غيرهم من الشعراء،
أنهم كانوا من الموحدين بالحب، أي أن كلاً منهم ارتبط بمحبوبة واحدة طوال حياته.
فالتمسوا الحب في السماء. ورغم شهرتهم أنكر وجودهم طه حسين، وأكد أن الرواة
اخترعوا تلك الشخصيات اختراعاً من وحي الخيال، ليلهوا بها الناس ولتمثيل فكرة ما.
في الألفباء العربية: العين هو الحرف الثامن
عشر، ويُعدّ أنصع الحروف في الجرس اللغوي وألذها سمعًا، وفي علم وظائف الأعضاء:
العين هي جهاز الإبصار في الكائنات الحية، وأجمل عيون في الظباء والمها وصغار
الأبقار والفتيات الصحراويات، وأكثرها اتساعًا وحِدّة عين النسر وعين الثعبان وعين
العدل وعين الفن...
تناول الشاعر الجاهلي
الجوانب النفسية والأخلاقية عند المرأة وتغزّل بالقیم الإجتماعیة العالیة،
والصفات الخلقیة، التي لم تخالطها قیم الحضارة الأجنبیة ومفاهیمها الجدیدة،
واستحسن العفة والمنعة والحیاء والخفر، وأحبها عزیزة کریمة تصون نفسها من عادیات
الزمان، وتحتشم بالرصانة والإتزان. وأکد أن الحدیث عن الجوانب الخلقیة والجمال
النفسي، لا یقل أثراً في نفس الرجل، عن جمال الجسد، بل لعلّه أعمق منه وأقوی
اجتذاباً.
والواقع أن المجتمع
الجاهلي عرف هذا القصاص حین رفض أهل المحبوبة زواجها ممن تغزل بها. لأن العرب
غالباً «کانت لا تنکح الرجل امرأة شبب بها قبل خطبّه» [الإصبهاني، الأغاني، 1916م،
ج ،20: ص181] فعنترة مثلاً حُرم زواج عبلة لأنه شبّب بها، وتغزّل بحبها. وهو لا
یستطیع معاشرة محبوبته إذا لم یکن، إلی حد ما، علی وفاق مع قبیلتها. وقد تنقطع
علاقة الشاعر مع المحبوبة ویکون الفصل بینهما، بسبب خصام العشیرتین، فتختفي شخصیة
المحبوبة خلف إرادة القبیلة، وفي حال تجارب الشاعر مع تلك القبیلة، یتسع قلبه
لیعشق أبکار الحي کافة. وهذا ما نراه عند المرقّش الأکبر في قول (ج. ل. فادیة،
الغزل عند العرب، 1979م ،ص54):
لقد تغزّل الإنسان
لیعبر عن عاطفة الحب التي یکنّها للمرأة، وعن إعجابه بجمالها لیصور ما یعتلج به
قلبه من أشواق ورغبات وما یعتریه من صبابة ومشاعر، لأن حب المرأة وجمالها، هما
من بواعث الغزل وثمرة له، یندفع إلیه الإنسان بمیله الفني للتعبیر عما في نفسه من
عواطف جیاشة، وانفعالات تصف حسنها؛ جسداً ونفساً. مثله کمثل الرسام الذي ینحت
بإزمیله وألوانه الصورة، التي تجسّد أحساسیسه العاطفیة، أو الموسیقي الذي یحیل
عاطفته إلی لحن مسموع، ونغم طروب، یأسر القلوب، ویذیب الأفئدة.
يمكننا تصنيف الغزل
الجاهلي في اتجاهين متناقضين؛ أولهما الاتجاه الحسي الفاحش أو الغزل الصريح وزعيمه
امرؤ القيس صاحب المغامرات الليلية مع الحب إلى البنات والمرضعات؛ وثانيهما
الاتجاه الحسي العفيف او الغزل العفيف الذي اشتهر في العصر الأموي وكانت نواته في
الجاهلية. وكثيرون هم زعماء هذا الاتجاه وقد اقترنت أسماؤهم بأسماء محبوباتهم مثل:
المرقش الأكبر وأسماء، والمرقش الأصغر وفاطمة، وعروة بن حزام وعفراء، وعنترة بن
شداد وعبلة.
تناول شعراء الجاهلیة
موضوعات الحیاة العربیة، الغنائیة منها والاجتماعیة، وتحدثوا عن مظاهر هذا العصر
ومعارفه من أخلاق وعادات ودیانات، ونظموا فنوناً فيالنسیب والفخر والمدح والهجاء
والرثاء والوصف والحکمة... وأفاضوا في هذه الأغراض، ونوّعوا في صورها ومضامینها،
وتمکنوا من أن یسجلوا ما وقع تحت حواسهم، وجال فيخواطرهم مما طبعته بیئتهم
البدویة والحضریة في أنفسهم.
قال ابن قتیبة: «سمعت
بعض أهل الأدب یذکر أنّ مقصّد القصید إنّما إبتدأ فیه بذکر الدیار والدّمن
والآثار، فبکی وشکا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق لیجعل ذلك سبباً لذکر أهلها
الظاعنین. إذا کانت نازلة العمد في الحلول والظعن علی خلاف ما علیه نازلة المدر
لانتاجهم الکلأ، وانتقالهم من ماء إلی ماء، وتتبعهم مساقط الغیث حیث کان. ثم وصل
ذلك بالنسیب، فشکا شدة الشوق، وألم الوجد والفراق، وفرط الصبابة، لیمیل نحوه القلوب.
ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعي به إصغاء الأسماع إلیه». (الدينوري، ابن قتيبة،
الشعر والشعراء، 1423هـ، ص254)
إذا کانت شعوب العالم
التي عرفت الاستقرار قد ترجمت هذه الغریزة بصورة مرسومة علی ألواح، وبتماثیل
منحوتة من حجارة، وبمسرحیات یحاکي فیها الممثّلون العشّاق، وینقل فیها الخلف
تجارب السّلف. فإنّ العرب البُداة المترحلین بین جنبات الصحراء جمعوا الفنون کلّها
في فنّ واحد وهو الشعر.
إذا كان الحب عاطفة
إنسانية يشترك بها الناس، فالبحث يقتضي تتبع طبيعة تعبير المشاعر عن هذه العاطفة،
للوقوف على خصائص ذلك التعبير، فمن خلال تعبيرها، تتضح طبيعة نظرتها إلى الحب، وما
إذا كانت تختلف عن نظرة الرجل.
یکون الغزل غرضاً من
الأغراض الشعریة الذي بلغ ذروته في العصر الجاهلی. عندما نطالع دواوین الشعراء
الجاهلیین نصل إلی هذه الحقیقة؛ لأن دواوین الشعراء أهم دلیل لضبط الوقائع والمفاهیم وأیضاً نجد الأغراض الأخری مثل الهجاء والمدح والرثاء والوصف وکانت هذه
الأغراض تتصل بالغزل مثلاً الفخر الذی أنشده عنترة في معلقته لم یکن بعیداً عن روح
الغزل، حیث نری الشاعر لم یکن یفتخر للفخر ولم یکن يمتدح للمدح بل ملأ قلبه وذهنه
عبلة ودیارها وفي النهایة افتخر بقومه. فنستطیع أن نقول بأن الدافع الأصلی للشاعر
یکون الغزل.
يعرّف الشّعر بأنّه كلامٌ موزون يحتوي على
قافية وعلى عدّة أبيات، ويدلّ على الكثير من المعاني الّتي قد تكون في نفس الشّاعر
وتعبّر عن شخصيّته وذاته، أو أن تكون المعاني اكتسبها واستنتجها من المجتمع
والبيئة المحيطة به.
الغزل
العذري يملأ بيوت الشعر بالحب والعاطفة التي يسبّبها الفراق والبعد، ويقوم الغزل
العذري بوصف الحبيبة، سحرها، حبّها، رقّتها، جمالها ولكن لا يتجاوز ذلك، لذا سمّي
بالغزل العذري أي البريء والطّاهر، تكون المشاعر فيه نقيّة طاهرة، نابعة عن عواطف
القلب، ودوماً يتحدث الشّاعر في بيوته الشعريّة عن محبوبة واحدة يخلص لها في حبّه
ومشاعره طوال حياته.
لقد تعدّدت المدارس الأدبية وشاعت فنون الشعر وألوانه على مرّ العصور. ويعتبر
الغزل العذريّ من ألمع الأشعار الوجدانية التي تركت بصماتٍ على جدار تاريخ الأدب،لذلك ومن خلال هذا البحث يمكن الاطلاع على مضمون هذا
الغزل وتاريخه، والتعرف على خصائصه وعلى المشاعر الوجدانية التي يتركها في نفس
الشاعر. ويمكن أضافة بعض المعلومات على مخزون المعرفة بالنسبة لهذا الموضوع.
حفظ
التراث العربي أسماء عدد من العشاق الذين أودى بهم عشقهم، أو دفع بهم إلى الجنون،
ونسجت الأقاصيص حولهم، وصيغت الحكايات الطريفة بطرائف إخبارية تحولت إلى سلسلة من
القصص المتتالية التي لا تفرق بين الخبر التاريخي والقصة المسوقة، في جو من
الملابسات التاريخية توخيا للإقناع بواقعيتها...
هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، كنيته أبو الخطاب... ووصف
بشاعر قريش وفتاها، وهو أحد شعراء الدولة الأموية، ويعد زعيم المذهب الفاحش في
التغزل... (ولد في643م= 23هـ،
وتوفي في711م= 93هـ). نعت
بأرق شعراء عصره، وعد من طبقة جرير والفرزدق والأخطل...