يبدو أنه سؤال أزلي. فقد تكرر كثيرا
في الماضي وما زال يتكرر حتى الآن. والإجابة عنه تختلف تبعا للكاتب وللعالم الذي
ينتمي إليه ولكنها تؤكد كلها أن الكتابة بالنسبة للكاتب ليست عملا إضافيا بقدر ما
تمثل نوعا من الحياة الشاملة.
لماذا نكتب؟
هكذا تساءلت الكاتبة الإنجليزية
روزماري فريدمان في مقال قصير طريف نشره ملحق الكتب الجديدة الذي يظهر أسبوعيا مع
صحيفة الصنداي تايمز. وفي تساؤل الكاتبة هذا دليل آخر على حيوية السؤال وأزليته
معا. فكل جيل من الكتاب يطرح السؤال، وتكون له نظرته الخاصة المختلفة عن نظرة
الجيل السابق عليه. بل تختلف نظرة أبناء الجيل الواحد من الكتاب، داخل الثقافة
الواحدة أو اللغة الواحدة أيضا. فماذا كان جواب الكاتبة الإنجليزية؟
هي تعتقد أن الكتابة في أولها مثل
الحب، لا ندري لماذا نمارسها، ولا نعرف سر ميلنا نحوها، وإنما ننساق إليها دون أن
ندري. وإذا كان كل الناس يمكن أن يحبوا، فهل يمكن لكل الناس أن يكتبوا أيضا؟ هذا
ما لم تسأله الكاتبة لنفسها، وهو أيضا ما يفرق بين الحب والكتابة، أو بين الحب
والأدب، فكلاهما يبدأ من فيض العاطفة، ولكن تأتي بعد ذلك لحظة الوعي، أو فلنسمها
لحظة النضج، وعندئذ يتحول الحب إلى زواج، وتتحول الكتابة إلى حياة أو مهنة. أما
حين لا تأتي لحظة الوعي أو النضج هذه فالحب يظل في مكانه، وقد يتراجع أو يفشل،
وهكذا الكتابة أيضا. فالكاتب الذي يبدأ بداية المحب المتبتل قد يظل في مكانه
هاويا، عاشقا للكتابة بغير هدف آخر، وقد يتراجع أو يبحث لنفسه عن هواية أخرى أنسب.
ثم تطرح الكاتبة الإنجليزية مجموعة أخرى من الأسئلة:
لماذا تكتبين؟ كم من الوقت تستغرق كتابة الرواية؟ هل تكتبين كل يوم أم حين يأتيك الإلهام؟ هل تضعين في كتبك أناسا حقيقيين؟ أين تجدين أفكارك؟
بين الوعي واللاوعي
ثم تطرح الكاتبة الإنجليزية مجموعة أخرى من الأسئلة:
لماذا تكتبين؟ كم من الوقت تستغرق كتابة الرواية؟ هل تكتبين كل يوم أم حين يأتيك الإلهام؟ هل تضعين في كتبك أناسا حقيقيين؟ أين تجدين أفكارك؟
بين الوعي واللاوعي
ومن الواضح أن هذه الأسئلة، أو غيرها،
هي مما يطرح على الكاتب عادة في المقابلات الصحفية أو الإذاعية أو التليفزيونية.
ولكن الكاتبة ترى أن الذين يطرحون هذه الأسئلة الفضولية يعتقدون أن الكتابة مسألة
سهلة، لا تكلف صاحبها إلا أن يشتري ورقا وقلما، أو آلة كاتبة، ثم ينزوي ليكتب على
ورق ملون، في وقت محدد من اليوم، كأنه موظف مكلف بالحضور والكتابة، ثم الانصراف.
وتسوق أمثلة على سخف هذا الاعتقاد من واقع تجربة الذين سبقوها وتفوقوا عليها في
هذه الحرفة العجيبة. ومن هذه الأمثلة يشعر القارئ أن الكتاب الذين أحبهم، أو سمع
عنهم، أو مازال يقرأ لهم، قوم أعجب من حرفتهم. فالكاتب الروسي تولستوي، مثلا، كان
يحب أن ينشر عطرا فرنسيا في غرفته عندما يتهيأ للكتابة. والشاعر الإنجليزى روبرت
براوننج كان لا يكف عن حك الأرض بقدميه تحت مكتبه عندما يكتب. ولكن هذه عادات
للكتابة، يختلف فيها كل كاتب، وليست دليلا على غرابة حرفته. وربما لا يتوقع أحد من
الطبيب أو المهندس أن يفعل مثلما فعل تولستوي وبراوننج عند الكشف على مريض أو
ترميم بناية متداعية.
ومع ذلك فالأمور نسبية، وربما اعتاد الطبيب وقت الكشف على المريض أن يزرر معطفه، وربما اعتاد المهندس عند الكشف على البناية أن يدخن سيجارة. وهكذا نجد لكل منا عادات غريبة أحيانا. وربما كان الطبيب نفسه، أو المهندس نفسه ممن أدركتهم حرفة الأدب، مثلما أدركت الطبيب أنطون تشيكوف، والمهندس علي محمود طه، وعندئذ قد يسلك سلوك تولستوي أو براوننج!
تمضي الكاتبة الإنجليزية في مقالها- على أي حال- فتذكر أن كثيرا من الأدباء يعجزون عن الكلام الشفوي الفصيح، لأنهم- مثل الراقصين- اختاروا حرفة يتفاهمون من خلالها عن طريق غير الكلام. بل إن بعضهم مثل إمرسون الأمريكي كان معقود اللسان. ثم تضيف "لا أحد يقرر أن يصبح أديبا أو كاتبا، مثلما يقرر أن يصبح طبيبا أو مهندسا" فالقرار عادة عمل من أعمال الوعي، والكتابة بالذات لا تعرف مثل هذا القرار، وإنما تعرف الحركة داخل اللاوعي. ومن اللاوعي يأتي الاندفاع نحو الكتابة. وقد يواجه الكاتب هذا الاندفاع بوعيه، ولكن هذه المواجهة لا تغير مسار الاندفاع إلا إذا لم يلق الكاتب صدى إيجابيا أو تشجيعا لكتابته.
عم تدور رواياتك؟
ومع ذلك فالأمور نسبية، وربما اعتاد الطبيب وقت الكشف على المريض أن يزرر معطفه، وربما اعتاد المهندس عند الكشف على البناية أن يدخن سيجارة. وهكذا نجد لكل منا عادات غريبة أحيانا. وربما كان الطبيب نفسه، أو المهندس نفسه ممن أدركتهم حرفة الأدب، مثلما أدركت الطبيب أنطون تشيكوف، والمهندس علي محمود طه، وعندئذ قد يسلك سلوك تولستوي أو براوننج!
تمضي الكاتبة الإنجليزية في مقالها- على أي حال- فتذكر أن كثيرا من الأدباء يعجزون عن الكلام الشفوي الفصيح، لأنهم- مثل الراقصين- اختاروا حرفة يتفاهمون من خلالها عن طريق غير الكلام. بل إن بعضهم مثل إمرسون الأمريكي كان معقود اللسان. ثم تضيف "لا أحد يقرر أن يصبح أديبا أو كاتبا، مثلما يقرر أن يصبح طبيبا أو مهندسا" فالقرار عادة عمل من أعمال الوعي، والكتابة بالذات لا تعرف مثل هذا القرار، وإنما تعرف الحركة داخل اللاوعي. ومن اللاوعي يأتي الاندفاع نحو الكتابة. وقد يواجه الكاتب هذا الاندفاع بوعيه، ولكن هذه المواجهة لا تغير مسار الاندفاع إلا إذا لم يلق الكاتب صدى إيجابيا أو تشجيعا لكتابته.
عم تدور رواياتك؟
وقد سئلت هي نفسها ذات يوم: عم تدور
رواياتك؟
وترى أن الرواية تدور - عادة - حول أفكار ما، وأن هذه الأفكار لا يمكن التعبير عنها بأي طريقة أخرى سوى الرواية التي عبرت عنها. وإذا كان من الممكن أن يحكي الروائى موضوع روايته وأفكارها فلا حاجة به إلى أن يكتبها. وتضرب المثل بالكاتبة الأمريكية مارجريت ميتشل مؤلفة رواية "ذهب مع الريح"، وكيف أنها كتبت فصلها الأول 70 مرة قبل أن تستقرعلى صيغته النهائية.
وتضيف أن الكاتب الفرنسي بلزاك كتب 40 صفحة كاملة من رواية في ليلة واحدة، وهذا رقم قياسي، وأن زميله ومواطنه ستندال كتب ألف صفحة في أقل من ستة أسابيع، في حين عانى زميلهما ومواطنهما فلوبير خمسة ايام في سبيل إنجاز صفحة واحدة. وتروي أن أفلاطون، الفيلسوف اليوناني القديم، كتب الجملة الأولى في كتابه "الجمهورية" 50 مرة قبل أن يستقر على شكلها ومعناها. وتستخلص من هذه الأمثلة أنه لا توجد قاعدة عامة للكتابة، ولا لعناوين الكتابة، شعرا أو نثرا، فبعض الكتاب لا يشرع في كتابة الرواية أو غيرها قبل أن يجد عنوانأ لها، وبعضهم الآخر يترك أمر اختيار العنوان إلى الناشر أو الصحيفة، أو يعد قائمة بالعناوين، ثم يستشير أصدقاءه، وهكذا. فالأمور هنا كلها غامضة لا تخضع للقواعد والمنطق الصارم.
عند هذا الحد ينتهي مقال الكاتبة الإنجليزية الذي حاولت فيه أن ترد على استفسارات قراء الأدب والمتطلعين إلى الكتابة. وهي نفسها انتهت إلى أن ما يميز الكاتب الأديب هو - أولا وأخيرا - مقدرته على تقمص الأبعاد الإنسانية في الشخصيات التي يبدعها، بحيث يستطيع القراء - مهما اختلفت ثقافاتهم وبيئاتهم- أن يجدوا أنفسهم فيها. وهذا هو المهم في رأيها.
ولكن الأهم من هذا كله أيضا أن الكاتب يكتب لأنه لا يستطيع سوى الكتابة، أي أن الكتابة هي وسيلته في الاتصال والتفاهم. وحين نقول "الكاتب" هنا فإنما نعني به غير المبتدئ، أي الذي تخطى مرحلة الحب، ودخل مرحلة الزواج، فأصبحت الكتابة حرفته وحياته، إذا أخرج منها، أو كف عنها، كان كالسمك إذا أخرج من الماء. وما دامت الكتابة على هذه الصورة في حياة الكاتب، فهو يدرك - بلا شك - دوافعها وأسبابها. ولو لم تكن الكاتبة الإنجليزية أرادت أن ترد على تساؤلات الناس حول الكتابة لما كتبت مقالها ذاك. ولو لم أكن أردت أن أرد على مقالها لما كتبت مقالي هذا. فكلانا، إذن، يعرف جواب سؤال: لماذا نكتب؟ وسر هذه المعرفة يكمن في أن الحالة التي نعرضها للمناقشة هنا خصوصية ومحددة.
تحقيق الذات والمآرب الأخرى
وترى أن الرواية تدور - عادة - حول أفكار ما، وأن هذه الأفكار لا يمكن التعبير عنها بأي طريقة أخرى سوى الرواية التي عبرت عنها. وإذا كان من الممكن أن يحكي الروائى موضوع روايته وأفكارها فلا حاجة به إلى أن يكتبها. وتضرب المثل بالكاتبة الأمريكية مارجريت ميتشل مؤلفة رواية "ذهب مع الريح"، وكيف أنها كتبت فصلها الأول 70 مرة قبل أن تستقرعلى صيغته النهائية.
وتضيف أن الكاتب الفرنسي بلزاك كتب 40 صفحة كاملة من رواية في ليلة واحدة، وهذا رقم قياسي، وأن زميله ومواطنه ستندال كتب ألف صفحة في أقل من ستة أسابيع، في حين عانى زميلهما ومواطنهما فلوبير خمسة ايام في سبيل إنجاز صفحة واحدة. وتروي أن أفلاطون، الفيلسوف اليوناني القديم، كتب الجملة الأولى في كتابه "الجمهورية" 50 مرة قبل أن يستقر على شكلها ومعناها. وتستخلص من هذه الأمثلة أنه لا توجد قاعدة عامة للكتابة، ولا لعناوين الكتابة، شعرا أو نثرا، فبعض الكتاب لا يشرع في كتابة الرواية أو غيرها قبل أن يجد عنوانأ لها، وبعضهم الآخر يترك أمر اختيار العنوان إلى الناشر أو الصحيفة، أو يعد قائمة بالعناوين، ثم يستشير أصدقاءه، وهكذا. فالأمور هنا كلها غامضة لا تخضع للقواعد والمنطق الصارم.
عند هذا الحد ينتهي مقال الكاتبة الإنجليزية الذي حاولت فيه أن ترد على استفسارات قراء الأدب والمتطلعين إلى الكتابة. وهي نفسها انتهت إلى أن ما يميز الكاتب الأديب هو - أولا وأخيرا - مقدرته على تقمص الأبعاد الإنسانية في الشخصيات التي يبدعها، بحيث يستطيع القراء - مهما اختلفت ثقافاتهم وبيئاتهم- أن يجدوا أنفسهم فيها. وهذا هو المهم في رأيها.
ولكن الأهم من هذا كله أيضا أن الكاتب يكتب لأنه لا يستطيع سوى الكتابة، أي أن الكتابة هي وسيلته في الاتصال والتفاهم. وحين نقول "الكاتب" هنا فإنما نعني به غير المبتدئ، أي الذي تخطى مرحلة الحب، ودخل مرحلة الزواج، فأصبحت الكتابة حرفته وحياته، إذا أخرج منها، أو كف عنها، كان كالسمك إذا أخرج من الماء. وما دامت الكتابة على هذه الصورة في حياة الكاتب، فهو يدرك - بلا شك - دوافعها وأسبابها. ولو لم تكن الكاتبة الإنجليزية أرادت أن ترد على تساؤلات الناس حول الكتابة لما كتبت مقالها ذاك. ولو لم أكن أردت أن أرد على مقالها لما كتبت مقالي هذا. فكلانا، إذن، يعرف جواب سؤال: لماذا نكتب؟ وسر هذه المعرفة يكمن في أن الحالة التي نعرضها للمناقشة هنا خصوصية ومحددة.
تحقيق الذات والمآرب الأخرى
ترتبط الكتابة - من جهة أخرى - بنوع
الثقافة التي تظهر وسطها، أي البيئة الفكرية، والتقاليد والأعراف الفنية، وطرق
التفكير والتعبير، وأساليب التربية والتعليم، وغير ذلك من عناصر الثقافة الموروثة
والمكتسبة. فقد ازدهرت كتابة المسرحيات عند الإغريق، لأن ثقافتهم كانت تشجع
التفكير الفلسفي في أحوال البشر، وتحفل بالأساطير والرؤى الشعرية، وتغرس في
الإنسان الميل إلى الاستمتاع بالحياة، والمغامرة، وارتياد المجهول، والبحث عن
الحقيقة، والشعور بالجماعة.
وفي هذا العصر، وفي بلد مثل بريطانيا، تميل الثقافة السائدة إلى التفكير الفردي، وتقديس الحرية الشخصية، وتغرس في الإنسان الشعور بالعزلة، والرغبة في الاستقلال عن المجموع، والتحفظ في التعامل مع الغير. ولذلك تنعكس على الكاتب آثار هذه العناصر الثقافية الكامنة، ويصبح أشبه بروبنسن كروزو الذي عاش وحيدا على جزيرة خاوية، وتصبح الكتابة تعبيرا عن احتياجات فردية بحتة، أو إرضاء لنزعات شخصية، مثل تحقيق الذات، أو طلب الشهرة والمال.
ذات مرة سألت الروائي الإنجليزى المعروف أنجس ويلسون:
- كيف اتجهت إلى الأدب والكتابة في سن متقدمة نسبيا؟ وكان ويلسون قد بدأ الكتابة في سن الثانية والثلاثين، عام 1945. وكان جوابه عن سؤالى من أطرف وأغرب ما سمعت. قال:
- في عام 1943 أصبت بمرض عصبي لازمني نحو عامين. وكان قاسيا إلى درجة أنني كنت أهيم على وجهي في الشوارع، وأصرخ. وعبثا حاول الطب معي. وذات يوم نصحني البعض بالكتابة لعلها تخفف عني. وحاولت أن آخذ بالنصيحة، فاكتشفت أنها مفيدة، وأن الكتابة أصبحت بالنسبة لي علاجا فعالا ومحببا، فداومت عليها، أصيب مرة وأخطىء مرة أخرى، حتى بدأت محاولاتي الأولى في النضج.
ليس للكتابة سن معينة بالطبع، ولكن تجربة ويلسون هذه تكشف عن جانب آخر نفسي في أسباب الاتجاه إلى الكتابة في بريطانيا والغرب عموما. فالكتابة هنا تعبير عن عوامل ذاتية خالصة، ولا سيما في بدايتها. وقليلا ما تتحول بعد ذلك إلى التعبير عن عوامل خارجية موضوعية. وحتى إذا دخلت هذه العوامل الاخيرة في الموضوع تظل تحت رقابة العوامل الذاتية وإشرافها، لأن الأدب بطبيعته تعبير عن رؤية ذاتية في البداية على الأقل.
وتبدأ ظاهرة الكتابة عند الأديب كما تبدأ ظاهرة اللعب عند الطفل. فبداية الأديب مع الكتابة مثل بداية الطفل مع اللعب. وكلاهما: الأديب الناشىء والطفل، لا يدرى سر ميله إلى اللعب، ولكنه يجد فيه لذة ورضا وتسلية، وربما يفضله على ما عداه من مناشط الحياة. فالكتابة في بداية عهد الأديب لعبة، وربما ظلت لعبة عنده إلى النهاية، وربما أيضا - وهذا هو الأغلب - تحولت إلى حياة كاملة، أو هوية، للأديب لا يجد نفسه في سواها، ولا يستطيع لها تبديلا. وحتى إذا تحولت هذا التحول، وصارت حياة أو هوية، لا تفقد طبيعتها الأصيلة كلعبة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني المتعة والاستكشاف والمغامرة.
ومع ذلك، فهذه اللعبة المسلية الممتعة خطرة أحيانا على صاحبها حين لا يجيدها أو ينسى بعض أبجدياتها، وخطرة أيضا - أحيانا أخرى - على الغير، حين تفاجئهم بالتهكم عليهم أو كشف سوءاتهم، لأنها اللعبة الوحيدة التي تستخدم الكلمات، وتجعل الكلمات عالما لا أول له ولا آخر من الصور والظلال والمعاني.
400 أديب يختلفون
وفي هذا العصر، وفي بلد مثل بريطانيا، تميل الثقافة السائدة إلى التفكير الفردي، وتقديس الحرية الشخصية، وتغرس في الإنسان الشعور بالعزلة، والرغبة في الاستقلال عن المجموع، والتحفظ في التعامل مع الغير. ولذلك تنعكس على الكاتب آثار هذه العناصر الثقافية الكامنة، ويصبح أشبه بروبنسن كروزو الذي عاش وحيدا على جزيرة خاوية، وتصبح الكتابة تعبيرا عن احتياجات فردية بحتة، أو إرضاء لنزعات شخصية، مثل تحقيق الذات، أو طلب الشهرة والمال.
ذات مرة سألت الروائي الإنجليزى المعروف أنجس ويلسون:
- كيف اتجهت إلى الأدب والكتابة في سن متقدمة نسبيا؟ وكان ويلسون قد بدأ الكتابة في سن الثانية والثلاثين، عام 1945. وكان جوابه عن سؤالى من أطرف وأغرب ما سمعت. قال:
- في عام 1943 أصبت بمرض عصبي لازمني نحو عامين. وكان قاسيا إلى درجة أنني كنت أهيم على وجهي في الشوارع، وأصرخ. وعبثا حاول الطب معي. وذات يوم نصحني البعض بالكتابة لعلها تخفف عني. وحاولت أن آخذ بالنصيحة، فاكتشفت أنها مفيدة، وأن الكتابة أصبحت بالنسبة لي علاجا فعالا ومحببا، فداومت عليها، أصيب مرة وأخطىء مرة أخرى، حتى بدأت محاولاتي الأولى في النضج.
ليس للكتابة سن معينة بالطبع، ولكن تجربة ويلسون هذه تكشف عن جانب آخر نفسي في أسباب الاتجاه إلى الكتابة في بريطانيا والغرب عموما. فالكتابة هنا تعبير عن عوامل ذاتية خالصة، ولا سيما في بدايتها. وقليلا ما تتحول بعد ذلك إلى التعبير عن عوامل خارجية موضوعية. وحتى إذا دخلت هذه العوامل الاخيرة في الموضوع تظل تحت رقابة العوامل الذاتية وإشرافها، لأن الأدب بطبيعته تعبير عن رؤية ذاتية في البداية على الأقل.
وتبدأ ظاهرة الكتابة عند الأديب كما تبدأ ظاهرة اللعب عند الطفل. فبداية الأديب مع الكتابة مثل بداية الطفل مع اللعب. وكلاهما: الأديب الناشىء والطفل، لا يدرى سر ميله إلى اللعب، ولكنه يجد فيه لذة ورضا وتسلية، وربما يفضله على ما عداه من مناشط الحياة. فالكتابة في بداية عهد الأديب لعبة، وربما ظلت لعبة عنده إلى النهاية، وربما أيضا - وهذا هو الأغلب - تحولت إلى حياة كاملة، أو هوية، للأديب لا يجد نفسه في سواها، ولا يستطيع لها تبديلا. وحتى إذا تحولت هذا التحول، وصارت حياة أو هوية، لا تفقد طبيعتها الأصيلة كلعبة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني المتعة والاستكشاف والمغامرة.
ومع ذلك، فهذه اللعبة المسلية الممتعة خطرة أحيانا على صاحبها حين لا يجيدها أو ينسى بعض أبجدياتها، وخطرة أيضا - أحيانا أخرى - على الغير، حين تفاجئهم بالتهكم عليهم أو كشف سوءاتهم، لأنها اللعبة الوحيدة التي تستخدم الكلمات، وتجعل الكلمات عالما لا أول له ولا آخر من الصور والظلال والمعاني.
400 أديب يختلفون
قبل سنوات، أو في عام 1985 على وجه
التحديد، خصصت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية عددا كاملا لاستفتاء أجرته مع
400 أديب من مختلف أرجاء العالم حول ذلك السؤال الذي تصعب الإجابة عنه:
لماذا تكتب؟
وتباينت إجابات الأدباء المشتركين في هذا الامتحان العسير، وهذا شيء طبيعي، ثم تعددت بتعدد المعتقدات والثقافات والمواقف الفكرية والسياسية، وهذا شيء طبيعى أيضا.
ومع ذلك كانت حصيلة الإجابات من الضخامة بحيث لا نستطيع التعرض لها جميعا في سياق موجز، كما كانت من السذاجة أحيانا والعمق أحيانا أخرى بحيث تدعونا إلى التأمل. وهذا ما سنحاوله هنا.
من الممكن تقسيم هذه الإجابات إلى مستويين أساسيين:
مستوى الأديب الذي لا يدري لماذا يكتب، أو يعامل الكتابة معاملة اللعبة.
مستوى الأديب الذي يدري لماذا يكتب، أو يجد في الكتابة رسالة ما.
أما المستوى الأول فهو أكثر ظهورا فيما يسمى العالم الأول، أو الرأسمالي، حيث يشعر الأديب - صادقا في ذلك أو غير صادق- أنه لا يدري، ولا يريد أن يدري، وإنما هو يكتب وحسب. وهذا ما أعلنه الأديب النمسوي بيتر هانكه الذي أضاف متهكما: "ربما أجد الجواب غدا"، والأديب الإسباني خوان جوتيسيلو الذى قال: "لو عرفت الجواب ما كتبت!"، والأديب الأمريكي أرسكين كالدويل الذي قال: "كتبت إشباعأ لرغبتي في إبداع شخوص ومواقف لم يكن لها وجود"، والأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان التي قالت: "أكتب لأنني أعشق الكتابة"، والأديب الإيطالى ألبرتو مورافيا الذي قال: "أكتب حتى أفهم سر اندفاعي إلى الكتابة"، والأديب الألماني هنريش بول الذي قال: "أحب أن أكتب"، وهكذا. وهذه كلها إجابات لا تخرج عما يقوله كثيرون في الغرب الأوربي والأمريكي.
ومع ذلك فلكل قاعدة استثناء كما نعرف. فمن أدباء العالم الأول الذين شاركوا في الاستفتاء، وتمردوا على الإجابات التقليدية رفائيل ألبرتي الإسبانى الذي قال: "أنا كاتب من أجل السلام"، وإيزاك أزيموف الأمريكي الذي قال: "الكتابة عندي أشبه بالتنفس"، وجونتر جراس الألماني الذي قال: "أكتب لأني لا أملك أن أعمل عملأ آخر".
هذا النمط من الإجابات، الذي يسود العالم الأول، نادرا ما يرفع شعارا، أو يدعي رسالة، خارج مجال لعبة الكتابة، على عكس ما فعل ألبرتي الإسباني. فالكتابة هنا لعبة مسلية ممتعة وجادة في الوقت ذاته، لعبة ذاتية تخص اللاعب قبل أن تخص المتفرج، وهي أيضا هواية وهوية.
وأما المستوى الآخر الذي يدري لماذا يكتب فهو أكثر ظهورا في العالمين: الثاني (الاشتراكي) والثالث (النامي)، حيث يشعر الأديب - صادقا في ذلك أو غير صادق أيضا - بأن له رسالة يؤديها نحو قومه ولغته على الأقل، إن لم يكن نحو البشرية بأسرها.
ليس من الضروري أن نرد هذا الشعور عند الأديب في العالمين المذكورين إلى سيطرة تعاليم الحزب الواحد كما في العالم الاشتراكي، ولا إلى وطأة الفقر والظلم والحرمان كما في العالم النامي. فنحن نعرف من تاريخ أدبنا منذ عصر الجاهلية أن الشعراء كانوا يدرون ما يفعلون. وكان كبارهم يشعرون بأن لهم رسالة إزاء قومهم أو قبائلهم.
ومن وحي هذه الرسالة، أو من وحي الالتزام بالجماعة التي يعيش فيها الشاعر، كان الشعر يخرج، ويتغنى بأمجاد القبائل وأيامها، ويتفاخر بانتصاراتها، دون أي إكراه من تعاليم حزبية أو ضغوط اجتماعية. وكانت القبائل تجازي شعراءها، في مقابل ذلك، بالاحترام والاحتفال، وتذهيب دررهم وتعليقها على الكعبة كما حدث مع المعلقات السبع. وهذا الشعور نفسه هو ما نسميه اليوم باسم الالتزام، أو الإحساس بالمسئولية إزاء المجتمع أو إزاء البشرية بأسرها، وكان ذلك الشعور من القوة بحيث صار عقيدة فكرية للشاعر أو الأديب القديم تعادل العقائد الفكرية الحديثة، أي القبيلة القديمة صارت في زماننا حزبا سياسيا أو مذهبا فكريا، وصار الولاء القديم لها ولا للحزب أو المذهب أو العقيدة. ونتج عن ذلك أن الشعور بأهمية الرسالة صار من أبجديات الكتابة، تماما مثلما كان في الزمن القديم بغير حزب ولا مذهب فكري.
قال الأديب البرازيلي جورج أمادو: "أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم، ومن ثمة استطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح" وقال الأديب الصيني باجين: "أمارس الأدب لكي أغير حياتي وبيئتي وعالمي الفكري" وقال الأديب الكولومبي جابريل ماركيز: "أكتب لكي أنال المزيد من حب أصدقائي". وقال توفيق الحكيم: "أكتب لهدف واحد هو إثارة القارئ لكي يفكر" وقال نجيب محفوظ: "أكتب لكي يقرأني الآخرون".
وقال محمود درويش: "أكتب... لأني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية" وقال الأديب التشيكي ياروسلاف سايفرت: "أكتب... ربما تعبيرا عن الرغبة الكامنة في كل إنسان في أن يخلف وراءه أثرا"
من على حق؟
وتباينت إجابات الأدباء المشتركين في هذا الامتحان العسير، وهذا شيء طبيعي، ثم تعددت بتعدد المعتقدات والثقافات والمواقف الفكرية والسياسية، وهذا شيء طبيعى أيضا.
ومع ذلك كانت حصيلة الإجابات من الضخامة بحيث لا نستطيع التعرض لها جميعا في سياق موجز، كما كانت من السذاجة أحيانا والعمق أحيانا أخرى بحيث تدعونا إلى التأمل. وهذا ما سنحاوله هنا.
من الممكن تقسيم هذه الإجابات إلى مستويين أساسيين:
مستوى الأديب الذي لا يدري لماذا يكتب، أو يعامل الكتابة معاملة اللعبة.
مستوى الأديب الذي يدري لماذا يكتب، أو يجد في الكتابة رسالة ما.
أما المستوى الأول فهو أكثر ظهورا فيما يسمى العالم الأول، أو الرأسمالي، حيث يشعر الأديب - صادقا في ذلك أو غير صادق- أنه لا يدري، ولا يريد أن يدري، وإنما هو يكتب وحسب. وهذا ما أعلنه الأديب النمسوي بيتر هانكه الذي أضاف متهكما: "ربما أجد الجواب غدا"، والأديب الإسباني خوان جوتيسيلو الذى قال: "لو عرفت الجواب ما كتبت!"، والأديب الأمريكي أرسكين كالدويل الذي قال: "كتبت إشباعأ لرغبتي في إبداع شخوص ومواقف لم يكن لها وجود"، والأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان التي قالت: "أكتب لأنني أعشق الكتابة"، والأديب الإيطالى ألبرتو مورافيا الذي قال: "أكتب حتى أفهم سر اندفاعي إلى الكتابة"، والأديب الألماني هنريش بول الذي قال: "أحب أن أكتب"، وهكذا. وهذه كلها إجابات لا تخرج عما يقوله كثيرون في الغرب الأوربي والأمريكي.
ومع ذلك فلكل قاعدة استثناء كما نعرف. فمن أدباء العالم الأول الذين شاركوا في الاستفتاء، وتمردوا على الإجابات التقليدية رفائيل ألبرتي الإسبانى الذي قال: "أنا كاتب من أجل السلام"، وإيزاك أزيموف الأمريكي الذي قال: "الكتابة عندي أشبه بالتنفس"، وجونتر جراس الألماني الذي قال: "أكتب لأني لا أملك أن أعمل عملأ آخر".
هذا النمط من الإجابات، الذي يسود العالم الأول، نادرا ما يرفع شعارا، أو يدعي رسالة، خارج مجال لعبة الكتابة، على عكس ما فعل ألبرتي الإسباني. فالكتابة هنا لعبة مسلية ممتعة وجادة في الوقت ذاته، لعبة ذاتية تخص اللاعب قبل أن تخص المتفرج، وهي أيضا هواية وهوية.
وأما المستوى الآخر الذي يدري لماذا يكتب فهو أكثر ظهورا في العالمين: الثاني (الاشتراكي) والثالث (النامي)، حيث يشعر الأديب - صادقا في ذلك أو غير صادق أيضا - بأن له رسالة يؤديها نحو قومه ولغته على الأقل، إن لم يكن نحو البشرية بأسرها.
ليس من الضروري أن نرد هذا الشعور عند الأديب في العالمين المذكورين إلى سيطرة تعاليم الحزب الواحد كما في العالم الاشتراكي، ولا إلى وطأة الفقر والظلم والحرمان كما في العالم النامي. فنحن نعرف من تاريخ أدبنا منذ عصر الجاهلية أن الشعراء كانوا يدرون ما يفعلون. وكان كبارهم يشعرون بأن لهم رسالة إزاء قومهم أو قبائلهم.
ومن وحي هذه الرسالة، أو من وحي الالتزام بالجماعة التي يعيش فيها الشاعر، كان الشعر يخرج، ويتغنى بأمجاد القبائل وأيامها، ويتفاخر بانتصاراتها، دون أي إكراه من تعاليم حزبية أو ضغوط اجتماعية. وكانت القبائل تجازي شعراءها، في مقابل ذلك، بالاحترام والاحتفال، وتذهيب دررهم وتعليقها على الكعبة كما حدث مع المعلقات السبع. وهذا الشعور نفسه هو ما نسميه اليوم باسم الالتزام، أو الإحساس بالمسئولية إزاء المجتمع أو إزاء البشرية بأسرها، وكان ذلك الشعور من القوة بحيث صار عقيدة فكرية للشاعر أو الأديب القديم تعادل العقائد الفكرية الحديثة، أي القبيلة القديمة صارت في زماننا حزبا سياسيا أو مذهبا فكريا، وصار الولاء القديم لها ولا للحزب أو المذهب أو العقيدة. ونتج عن ذلك أن الشعور بأهمية الرسالة صار من أبجديات الكتابة، تماما مثلما كان في الزمن القديم بغير حزب ولا مذهب فكري.
قال الأديب البرازيلي جورج أمادو: "أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم، ومن ثمة استطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح" وقال الأديب الصيني باجين: "أمارس الأدب لكي أغير حياتي وبيئتي وعالمي الفكري" وقال الأديب الكولومبي جابريل ماركيز: "أكتب لكي أنال المزيد من حب أصدقائي". وقال توفيق الحكيم: "أكتب لهدف واحد هو إثارة القارئ لكي يفكر" وقال نجيب محفوظ: "أكتب لكي يقرأني الآخرون".
وقال محمود درويش: "أكتب... لأني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية" وقال الأديب التشيكي ياروسلاف سايفرت: "أكتب... ربما تعبيرا عن الرغبة الكامنة في كل إنسان في أن يخلف وراءه أثرا"
من على حق؟
هذان هما المستويان اللذان يكشف عنهما
التساؤل عن سر الكتابة في عوالمنا الثلاثة الراهنة. ولكن أي المستويين على حق؟
نحن لا نملك إلا تصديق أصحاب هذه الإجابات لأنها ليست بعيدة عن كتاباتهم من ناحية، ولأننا لا نملك بديلا لها من ناحية أخرى. ومع ذلك فنحن نعرف أن الأديب لا يولد أديبا، وإنما يولد طفلا كأي طفل، ثم يكبر شيئا فشيئا حتى ينطق وينضج. وما دام يولد طفلا في الحياة والكتابة قبل أن يصبح رجلا وأديبا ناضجا، فالكتابة عنده تبدأ عادة بغير ادعاء خارج نطاقها. وهذا ما عبر عنه نجيب محفوظ في جوابه التفصيلي عن السؤال، فقال إنه بدأ في الكتابة من أجل لذتها الخاصة وإرضاء القوة الغامضة في نفسه، ولم يدفعه إلى ذلك أي عامل خارجي. ثم جاءت بعد ذلك العوامل الخارجية مع الاستمرار في الكتابة. ومن هذه العوامل: الرغبة في تحمل مسئولية ما، والمشاركة في رفع مستوى البشر، والحصول على الجزاء، وتوضيح المبادئ الخاصة للغير. كما قال في ختام جوابه إنه لم يعد اليوم يفرق بين الكتابة والحياة.
ومعنى هذا أن الكتابة كفعل تبدأ كلعبة خاصة، لإشباع لذة خاصة، قد لا تكون واضحة ولا مفهومة عند صاحبها في البداية، بغض النظر عن العالم الذي ينتمي إليه. ومع استمرار ممارسة فعل الكتابة تتضح رؤية الكاتب وتنضج. ومع الوضوح والنضنج تتدخل- عادة- العوامل الخارجية، وتحدث آثارها في مجرى الكتابة. وعند هذا الحد يفترق الأديب الرأسمالي عن زميليه الاشتراكي والنامي.
بين الهواية والهوية
نحن لا نملك إلا تصديق أصحاب هذه الإجابات لأنها ليست بعيدة عن كتاباتهم من ناحية، ولأننا لا نملك بديلا لها من ناحية أخرى. ومع ذلك فنحن نعرف أن الأديب لا يولد أديبا، وإنما يولد طفلا كأي طفل، ثم يكبر شيئا فشيئا حتى ينطق وينضج. وما دام يولد طفلا في الحياة والكتابة قبل أن يصبح رجلا وأديبا ناضجا، فالكتابة عنده تبدأ عادة بغير ادعاء خارج نطاقها. وهذا ما عبر عنه نجيب محفوظ في جوابه التفصيلي عن السؤال، فقال إنه بدأ في الكتابة من أجل لذتها الخاصة وإرضاء القوة الغامضة في نفسه، ولم يدفعه إلى ذلك أي عامل خارجي. ثم جاءت بعد ذلك العوامل الخارجية مع الاستمرار في الكتابة. ومن هذه العوامل: الرغبة في تحمل مسئولية ما، والمشاركة في رفع مستوى البشر، والحصول على الجزاء، وتوضيح المبادئ الخاصة للغير. كما قال في ختام جوابه إنه لم يعد اليوم يفرق بين الكتابة والحياة.
ومعنى هذا أن الكتابة كفعل تبدأ كلعبة خاصة، لإشباع لذة خاصة، قد لا تكون واضحة ولا مفهومة عند صاحبها في البداية، بغض النظر عن العالم الذي ينتمي إليه. ومع استمرار ممارسة فعل الكتابة تتضح رؤية الكاتب وتنضج. ومع الوضوح والنضنج تتدخل- عادة- العوامل الخارجية، وتحدث آثارها في مجرى الكتابة. وعند هذا الحد يفترق الأديب الرأسمالي عن زميليه الاشتراكي والنامي.
بين الهواية والهوية
نحن، في النهاية إذن، نكتب لأن شيئا
ما يحركنا إلى الكتابة، ونلعب بالكلمات في البداية، مثلما يلعب الطفل، ولكن السعيد
من يحافظ على روح الطفل في نفسه كمخلوق عامر بالفضول والدهشة، ثم يخلع عن بدنه
رداء الطفولة، ويدخل دور الرجولة والنضج، ويوحد بين الكتابة وحياته، أو بين
الهواية والهوية.
وحين تتم هذه الوحدة المنشودة، لا تصبح الكتابة عملا إضافيا عند صاحبها، وإنما تصبح صباحه ومساءه، ومكتبه ومعاشه. وعند ذاك يأتي الشعور بالمسئولية الذي يتفادى ذكره أدباء العالم الأول، لأنهم يعيشون في ثقافة لا تشجع غير الاستجابة لنداء الذات وحرية الفرد قبل أي شيء آخر كما أشرنا من قبل.
وليس هناك ضرر - على أي حال - من هذه الاستجابة في عالم متنوع الاستجابات بطبيعته.
وحين تتم هذه الوحدة المنشودة، لا تصبح الكتابة عملا إضافيا عند صاحبها، وإنما تصبح صباحه ومساءه، ومكتبه ومعاشه. وعند ذاك يأتي الشعور بالمسئولية الذي يتفادى ذكره أدباء العالم الأول، لأنهم يعيشون في ثقافة لا تشجع غير الاستجابة لنداء الذات وحرية الفرد قبل أي شيء آخر كما أشرنا من قبل.
وليس هناك ضرر - على أي حال - من هذه الاستجابة في عالم متنوع الاستجابات بطبيعته.
فهذه تكمل تلك مادام قارئ العالم
الأول وأديبه لا ينعزلان عن العالمين الآخرين، ومادام قارئ هذين العالمين وأديبهما
لا ينعزلان أيضا عن العالم الآخر. وإذا ظلت الكتابة عند الأديب هواية، وصارت عند
الآخر هوية، فالمسافة بين الهواية والهوية ليست شاسعة على أي حال.
علي
شلش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق