قد
لا تكون سمعت بنصر الدين حجة والمعروف باسم (جحا) عند العرب، إلا أنه يعتبر شخصية
شعبية ومشهورة جدا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبعض المناطق من القارة
الأوروبية، حيث يتم تداول قصصه وحكاياته على طول منطقة جغرافية واسعة تمتد من
هنغاريا عبورا بالهند، وصولا إلى الصين، ومن جنوب سيبيريا إلى شمال أفريقيا، وخلال
قرون كاملة كبر الملايين من الأطفال وهم يستمعون لقصص نصر الدين حجة الأسطورية،
وإلى عجائبه وحيله وحنكته.
يعني
اسم نصر الدين حجة Nasreddin Hoca ”المعلم“
باللغة التركية (يلفظ حرف الـ(c)
في اللغة
التركية جيما) يعرف نصر الدين
حجة بأسماء مختلفة حول العالم، فمثلا يعرف في تركيا باسم (حجة)، وفي كازاخستان
بـ(كجة نصر الدين)، وفي اليونان بـ(حجة نصر الدين)، ولدي الايرانيين
والاذربيجانيين (نصر الدين الملا)، ولدى العرب (جحا)، وفي طاجخستان (موشفيقي).
يتم
تصوير شخصية نصر الدين حجة (جحا) على أنه شخص حكيم ومغفل في آن واحد، ففي كل حكاياته
ومغامراته دائما ما يعثر جحا على وسيلة ذكية يخرج بها من الأوضاع الصعبة والحرجة
التي يجد نفسه فيها من خلال حنكته وحكمته وخفة دمه، كما أنه دائما ما يربك محدثيه
بخطاباته التي تبدو غبية إلا أنها في غاية الحكمة.
كان
البروفيسور (جيريمي شيف) في جامعة (بار إلان) في إسرائيل قد كتب: ”خفة الدم،
و’الفطرة السليمة‘، والسذاجة، والسخافة، وذلك النوع من حس الدعابة الذي يعكس
النفسية البشرية، الذي يعرض كذلك مظاهر من مجتمع كان سائدا في زمن ما، والذي ينتقد
كذلك بعض الشؤون الدينية والدولة، كما يداوم على حسم الأمور بطريقة ودية وسلمية؛
هي العناصر التي مع بعضها البعض تخلق نوعا مميزا من المنطق، وهو منطق نصر الدين
حجة.“
يعتقد
أن يكون جحا قد ولد في سنة 1208 في قرية (هورتو) في مدينة (سيفريهيسار) بما يعرف
اليوم بتركيا، والتي انتقل منها إلى (أكسيهير)، ثم لاحقا إلى (كونيا) أين توفي
فيها سنة 1284، إلا أنه وفقا للبعض فإن شخصا باسم (نصر الدين حجة) لم يعش يوما،
فقد كان مجرد شخصية خيالية تم خلقها من طرف السكان الأصليين للأناضول في القرن
الثالث عشر، هذه الشخصية التي دامت وظلت حية لقرون كاملة.
من
المؤكد أنه على مر القرون، ازداد عدد حكايات جحا بشكل معتبر بينما انتشرت حكاياته
تلك ووصلت إلى أراض جديدة، أين تم تبنيها وتعديلها وسردها وإعادة سردها، وأصبحت
جزءا من التراث الشعبي لتلك المناطق.
يبلغ
عدد قصص وحكايات جحا اليوم بعض مئات الآلاف، على الرغم من أنها ليست كلها أصلية
إلا أنها كلها تندرج تحت ما يعرف بـ”التراث الشعبي“.
تزخر
تركيا بالعديد من الصروح والتماثيل التي تعود لجحا، بالإضافة إلى أماكن أخرى حول
العالم وأوروبا التي تصور غالبيتها العظمى جحا وهو يمتطي صهوة حماره بالمقلوب.
تفيد
القصة وراء هذا التصوير أنه في أحد الأيام ركب جحا ظهر حماره بالمقلوب نحو الخلف
بالخطأ، وعندما سأله الناس عن سبب امتطائه لحصانه بطريقة مقلوبة أجاب بأنه ليس هو
من ركب حماره بالمقلوب، بل إن الحمار هو من يواجه الإتجاه الخاطئ.
لطالما
كان للحمار نصيب من قصص جحا:
ذات
يوم، جاء جحا صديق له وطلب منه أن يقرضه حماره لمدة ساعتين لا أكثر من أجل أن يقصد
المدينة، لم يكن جحا يرغب حقا في إعارة حماره، ففكر قليلا ثم قال: ”يا صديقي، بودي
فعلا أن أساعدك لكنني أقرضت حماري لصديق آخر في وقت سابق من اليوم.“
وفجأة،
أخذ الحمار ينهق بصوت مرتفع خلف جدار الباحة، فأجاب الصديق متعجبا: ”لكن يا جحا،
يمكنني أن أسمع نهيقه خلف الجدار“، فأجاب جحا: ”من عساك تصدقه؟ الحمار أم صديقك؟“
فخفة
الدم وحس الفكاهة كانت في الغالب المكونات الأساسية لكل قصة من قصص جحا، إليك
مثالا آخرا عزيزي القارئ:
دعي
جحا ذات مرة لإلقاء خطبة في المسجد، وعندما اعتلى المنبر سأل جمهور المصلين: ”هل
أنتم على علم بما لدي لأقوله لكم؟“ فأجابوا: ”لا والله ما ندري“، فرد عليهم: ”ليس
لدي أية رغبة في أن أخطب في خلق لا دراية لهم بما سأتكلم عنه، ثم رحل.“
شعر
الناس بالإحراج ثم نادوه ليعود مرة أخرى في اليوم الموالي، في هذه المرة، عندما
قام جحا بطرح نفس السؤال أجاب الناس بـ”نعم، نحن نعلم ما ستكلمنا به“، فأجاب جحا:
”حسنا إذن، بما أنكم تعلمون مسبقا ما سأخبركم وأطلعكم عليه، فأنا لا رغبة لدي في
إهدار المزيد من وقتي، ثم رحل.“
وفي
هذه الأثناء صار الناس في حيرة من أمرهم فقرروا أن يحاولوا مرة أخرى، ثم دعوا جحا
للمرة الثالثة من أجل أن يخطب فيهم في الأسبوع الذي تلاه، ثم جاء جحا وطرح نفس
السؤال: ”هل تعلمون بما سأحدثكم؟“ لكن في هذه المرة كان الناس متحظرين جيدا، فأجاب
نصفهم بنعم والنصف الثاني بلا، فأجاب جحا: ”ليعلم نصفكم الذي يعلم ما سأحدثكم به
النصف الذي يجهل ذلك، ثم رحل كعادته.“
أحيانا
قد يحرج جحا نفسه من أجل أن يضحك الآخرين:
قام
جحا ذات يوم بتسلق شجرة، ثم جلس على أحد الأغصان وبدأ بقطعه بواسطة منشار، رآه أحد
المارة فصاح فيه متعجبا: ”ويحك ماذا أنت فاعل؟ ستتسبب في سقوطك بقطعك للغصن الذي
تجلس عليه.“
تجاهل
جحا هذا الرجل وأكمل قطع الغصن، وبالفعل انكسر الغصن وسقط جحا على الأرض، وعلى
الرغم من الكدمات التي أصابته نهض جحا على الفور وهرع إلى الرجل الذي حذره، فقال
له: ”يا صاح، بما أنك قد علمت مسبقا بأنني سأسقط، فأنت إذن بإمكانك أن تخبرني متى
سأموت“، ولم يشأ أن يتركه يرحل دون أن يمنحه الإجابة التي ينشدها.
في
أوقات أخرى، ذهب جحا إلى ما هو أبعد مما سبق من أجل أن يحتال على البعض مستعينا
بحنكته ومستغلا ظن الناس بغبائه:
ذات
يوم قام جحا باستعارة قدر كبيرة جدا من عند جاره، ثم قام بعد ذلك بإعادتها في
الوقت المحدد، لكنه ترك جرة صغيرة داخلها، وعندما سأله جاره صاحب القدر عن ماهية
هذه الجرة وما تفعله في قدره، أجابه جحا بأن قدره قد أنجبت واحدة صغيرة، وبما أنه
جرمٌ كبيرٌ التفريق بين الصغير وأمه فهنا يجب أن تبقى الجرة الصغيرة مع أمها القدر
الكبيرة.
لم
يقل الجار الذي يعلم غرابة أسلوب جاره جحا شيئا، إلا أنه كان سعيدا لأنه حصل على
جرة إضافية مجانا.
في
وقت لاحق، طلب جحا من جاره أن يعيره القدر مجددا، فقال الجار في نفسه: ”لم لا؟
فربما قد يعود بجرة صغيرة إضافية هذه المرة كذلك عندما يعيدها“، لكن جحا لم يعد
القدر هذه المرة، بعد مرور عدة أيام، قصد الجار بيت جحا وراح يتساءل عن موعد إعادة
القدر المعارة، فأجابه جحا: ”يا صديقي العزيز، إني أحمل لك أخبارا غير سارة على
الإطلاق، لقد وافت المنية قدرك المسكينة، وهي الآن ترقد في قبرها.“
استشاظ
الجار غيضا واشتعل غضبا وأجاب: ”القدر ليس بإمكانها العيش، ولا الموت“، ثم صرخ
فيه: ”أعدها إلي الآن.“
فأجابه
جحا: ”لحظة واحدة من فضلك… إن هذه القدر التي نحن بصدد التحدث عنها هي من أنجبت
منذ وقت قصير طفلا صغيرا، هذا الطفل الذي ما يزال بحوزتك، فإن كانت القدر قادرة
على الإنجاب فإنه من المحتمل أن تموت كذلك“، ولم ير الجار قدره بعد ذلك أبدا.
أحيانا
يجد جحا نفسه ضحية للعديد من النكت والمقالب التي يحيكها الآخرون ضده، والذين
يقومون بذلك في أغلب الأحيان من أجل أن يروا كيف له أن يخرج نفسه من المآزق التي
يضعونه فيها، والتي لم يفشل جحا في إبهارهم بها أبدا.
سفيان عشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق