إنها واحدة من أضخم الروايات في التاريخ التي تقع
مخطوطة في خمسين جزءاً، إنها السيرة الشعبية للملك الظاهر ركن الدين بيبرس
البندقداري سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية. الرجل الذي
بدأت على يديه نهاية وجود الصليبيين في المشرق العربي، وأوقف زحف المغول ووضع
دعائم دولة المماليك، وساد زمناً مثقلاً بالحروب والدمار والمؤامرات والأسلحة
والكنوز والخرافات والبطولات.
ومن كل ذلك الضجيج الذي زلزل التاريخ وغيّر مجراه، لم
يبق اليوم سوى حفنة من الكتب، وبعض المداخن المبعثرة هنا وهناك، وعدد من القلاع
الخربة وبقاياها الصامتة.
مَن
يقرأ سيرة الملك الظاهر بيبرس (1260-1277م) يصطدم فوراً بمجموعة كبيرة من
المبالغات، والحكايات الخرافية. وإذا شاء أن يدقق قليلاً يصطدم بما هو أسوأ من
ذلك: مجموعة من الأخطاء التاريخية تجعله يتفهم بسرعة لماذا يشيح الأكاديميون
والمؤرخون بنظرهم عنها، ويسقطونها من لائحة المصادر الموثوقة.
قلنا
هذا إذا دقق القارئ قليلاً، ولكن ماذا لو دقّق أكثر؟
استفزازاً
للباحثين الذين لم يبحثوا بما فيه الكفاية، نقدّم الجواب هنا، بدلاً من تركه إلى
نهاية المقالة، ونقول: إن السيرة الشعبية للظاهر بيبرس تتضمن كنزاً هائلاً من
المعلومات التاريخية الصحيحة علمياً، غير المتوافرة في غيرها، والتي يمكن إثباتها
بالأدلة المنطقية أو الملموسة والمرئية. وأكثر من ذلك، يمكن الجزم بأن هذه السيرة
كانت أكثر إنصافاً للحقيقة التاريخية في بعض المسائل مما هو الحال عند الأكثرية
الساحقة من مؤرخي العصر الوسيط.
والوصول
إلى هذا الكنز لا يمكنه أن يتم عبر الطريق المعتمد تقليدياً في تحقيق الكتب
والمخطوطات القديمة. بل عن طريق ما يمكن أن نسمّيه (التنقيب)، أي التقاط اللقى
ودراستها وتصنيفها. لأن هذه السيرة الشعبية أشبه ما تكون بتل أثري غطاه الزمن
بالأتربة والأعشاب، واختلط باطنه بعضه ببعض. وقبل الانطلاق في أي عملية تنقيب،
لابد من التوقف أمام مواصفات هذا التل ومكوّناته.
مواصفات السيرة
حتى
العام 1996، كانت السيرة الشعبية الكاملة للظاهر بيبرس غير متوافرة بسهولة في
المكتبات التجارية، فالطبعة الأخيرة كانت قد صدرت سنة 1923، وطوال عقود لم يتوافر
منها سوى طبعات مختصرة تفتقر إلى الكثير من الزخارف والتفاصيل المهمة. وفي سنة
1996، بادرت (الهيئة المصرية العامة للكتاب) إلى طبع السيرة الكاملة من خلال تصوير
النص الذي كان قد صدر سنة 1923عن (مطبعة المعاهد) في القاهرة.
يبلغ
عدد صفحات هذه الطبعة 3200 صفحة، تروي طفولة بيبرس، وفتوّته،و صعوده السياسي،
وتسلطنه ،حتى وفاته، والصراعات التي عرفها عصره وأبرزها الصراع العربي ضد الفرنجة
من جهة، وضد المغول من جهة أخرى. وأيضاً الصراع مع بقايا الأيوبيين، والصراع ما
بين الإسماعيليين والمماليك، وما بين الإسماعيليين أنفسهم على تزعّم القلاع
والحصون في بلاد الشام. ويتخلل هذه المحاور الكبيرة عشرات وعشرات قصص الحب
والحكايات اللطيفة، وأخبار العجائب وتفاصيل لا تعدّ عن التـقاليد والعادات
والأزياء والأطعمة والشتائم والحكم والأمثال مما لا يمكن حصره هنا.
وللانطلاق
في أي بحث علمي ضمن هذه السيرة، يجب أن يأخذ القارئ في الحسبان جملة أمور، لا
يمكنه من دونها أن يفسّر شيئاً.
ألفها الشعب!
جاء
في بداية هذه السيرة أنها من تأليف الديناري والدويداري وناظر الجيش وكاتم السر
والصاحب...،(فكل من هؤلاء له بحر فيها وما يخصها من معانيها ومبانيها، وما أرّخوه
وما شاهدوه وما نقلوه..)، أيّ أنها تتضمن مشاهدات ونقلاً عن آخرين.
والواقع
أن هؤلاء قد يكونون أصحاب النواة الأولى لهذه السيرة، لأن الذين وضعوا أيديهم في
تأليفها هم أكبر من ذلك بكثير. فالأسلوب الأدبي واللغة لا يؤكدان وجود مؤلفين عدة
فقط، بل يثبت أن هؤلاء عملوا في فترات زمنية متباعدة جداً عن بعضها.
هناك
عشرات الدلائل التي تؤكد أن هذه السيرة بدأت بالظهور في عصر بيبرس أو في زمن قريب
إليه، أي النصف الثاني من القرن الثالث عشر ميلادي. ولكنها راحت تكبر وتتضخم على
مدى قرنين ونصف على أقل تقدير، ولنأخذ كدليل أسماء العملات الواردة فيها.
لقد
كانت العملة السارية في عصر بيبرس تتكون من الدينار والدراهم، النقرة والفلوس.
ونعثر في هذه السيرة على اسم الدينار أينما كان تقريباً، ولكن الدينار حمل في بعض
الصفحات تسميات أخرى مثل (الشريفي). وهذه التسمية لم تظهر إلا للدينار الذي سكه كل
من الأشرف خليل والأشرف شعبان في عهود لاحقة. وفي أماكن أخرى تحمل العملة الذهبية
اسم (دواقيت) أو (دقاقة)، أي (دوكاثو) العملة الذهبية البندقية التي راجت في مصر
في عهد المماليك الشراكسة، أي بعد بيبرس بنحو قرن ونصف قرن تقريباً. وأكثر من ذلك
جاء فيها أن بيبرس دفع (مئة وخمسين عثمانياً)، والعثماني لم يظهر إلا بعد زوال
دولة المماليك.
أسماء
العملات هذه تؤكد أن كتابة السيرة في حلتها النهائية التي وصلت إلينا استغرقت ما
بين قرنين وثلاثة، وغير ذلك.
من
عملات دولة بيبرس، كان هناك (الدينار الجيشي) الذي لم يكن عملة حقيقية متداولة،
وإنما بمنزلة وحدة قياس لقيمة الإقطاعات وقيمة مداخيلها. ولكننا لا نجد له أي ذكر
على الإطلاق في السيرة الشعبية. والتفسير المنطقي الوحيد هو أن المؤلف لم يكن
معنياً بقيمة الإقطاعات ومداخيلها الموزعة على الأمراء من المماليك، لأن المؤلف هو
(الشعب).
ويمكن
الجزم بهوية هذا المؤلف لو أخذنا تقاليد البلاط الواردة في هذه السيرة، والتي لا
تخرج أبداً عمّا يمكن أن يراه العامّة الذين يدخلون الديوان. كما أن هناك وظائف
ديوانية كبيرة عدة كانت معروفة في عصر بيبرس ولم يرد أي ذكر لها في هذه السيرة.
أما
عن مكان تدوين هذه السيرة في نسختها هذه، فانتشار التعابير العامية المصرية على
مدى صفحاتها يؤكد بسهولة أن الأمر تم في مصر.
متاهات
ومن
العوامل التي لا يمكن تجاهلها في صناعة هذه السيرة هو أنها بقيت تقرأ في المقاهي
الشعبية على مدى مئات السنين، حتى صارت هناك مقاه تعرف بـ(الظاهرية) في مصر وبلاد
الشام، وذلك إلى جانب مقاه أخرى كانت تقرأ فيها (ألف ليلة وليلة) أو (سيرة سيف بن
ذي يزن) أو غيرهما، أي أن السيرة الظاهرية وجدت نفسها في منافسة مع غيرها من السير
الشعبية لاستقطاب المستمعين والزبائن.
ولهذا
السبب - على الأرجح - راحت تتطعم بحكايات خرافية وقصص سحرية، ومبالغات في
البطولات. وتؤكد المقارنة أن الكثير من أبيات الشعر الواردة في هذه السيرة موجودة
حرفياً وبالركاكة نفسها في ألف ليلة وليلة. كما أن بعض جمل الربط بين الحكاية
والأخرى هي نفسها في الروايتين.
هذا
فيما يتعلق بالجوهر، أما من حيث الشكل، فإن بقاء السيرة قيد التناسخ اليدوي
(وأحياناً التدوين من خلال السمع) على مدى قرون عدة أدى إلى تمزيق واضح وخـاصة في
الأسماء المشرقية غير المألـوفة عنـد عامة المصريين. والأمثـلة على ذلك عدة.
فباب
(قنسرين) في مدينة حلب أصبح في السيرة باب (النسرين).
وفي
حكاية تدور أحداثها في مدينة عكا الفلسطينية، ورد اسم (عكة) مرات عدة. ولكن في
الصفحة نفسها أصبح الاسم (مكة) مرات عدة. الأمر نفسه ينطبق على مدينة صافيتا
السورية التي أصبحت (صافية) و(مافية)، واللاذقـية أصـبحت (الاتقـية) و(لاتقيا).
وفي
إحدى الحكايات، هناك حديث عن قلعة (جبير والبتنون) ولأن سياق السيرة يفهمنا أن
هذين المكانين قريبان من طرابلس (لبنان) نرجّح أن المقصود بهما (جبيل والبترون).
خصوصيات الطبعة
وأخيراً،
وليس آخراً، نشير إلى خصوصيات هذه الطبعة وهي الوحيدة المتوافرة تجاريا في الوقت
الحاضر واهمها غياب النقاط والفواصل والفاصلات المزدوجة غياباً كاملاً.
-
المجال المتروك بين الكلمة والتالية هو المجال نفسه
المتروك بين الجمل، لذا تبدو الجملة الواحدة وكأنها تمتد على مدى صفحات عدة في بعض
الأحيان.
-
اللغة المعتمدة تبدو وكأنها عامية تمنّت لو تكون فصحى،
وتكاد لا تقر بأي قاعدة من قواعد الصرف والنحو. (ولكن مقابل هذه السلبية، هناك
نقطة إيجابية جداً في هذا المجال، وهي أن السيرة نقلت إلينا لهجات الناس آنذاك
والتعابير التي كانوا يستعملونها، وهي فريدة من نوعها في هذا الحقل).
كثرة
الأخطاء الطباعية التي يمكن أن يضيع فيها الباحثون، وعلى سبيل المثال، فإن المؤرخ
اللبناني الدكتور عمر تدمري أخذ في مقالة صحافية على هذه السيرة تسميتها لأمير
طرابلس الصليبي بـ(البرثر)، في حين أن اسمه الحقيقي هو بوهيموند، أو بيمند عند
العرب. والواقع أن الأصل أو المقصود هو (البرنز) أي الأمير (عن اللاتينية). ولكن
ما بين عمليات النسخ، أو خلال الطباعة انتقلت نقطة الحرف الأخير إلى الحرف السابق
فضاع المعنى تماماً.
وبشكل
عام، يمكن للمدقق في هذه السيرة أن يلاحظ، حيثما وجد خطأ تاريخياً واضحاً، أن هذا
الخطأ يتشابه (لفظاً على الأقل) مع الأصل الصحيح، وعليه، فإن هذه الأخطاء هي نتيجة
تحريف يعود إلى الثقافة الممدودة عند العامة، وليس وليد اختلاف أدبي حر.
الفداويون الإسماعيليون
عندما
يسير القارئ في هذه الرحلة إلى عصر بيبرس على ضوء المؤثرات التي ذكرنا بعضها،
يمكنه أن يكتشف في هذه السيرة الكثير من المواد التاريخية العلمية أو القابلة
للنقاش، وغير المتوافرة في غيرها من المراجع.
ففي
السيرتين التاريخيتين اللتين كتبهما كل من محيي الدين بن عبدالظاهر وعز الدين محمد
بن شدّاد، لا نجد حديثاً عن الفداويين الإسماعيليين، إلا في فقرات قصيرة جداً
تتطرّق إلى (استيلاء) بيبرس على قلاعهم في الجبال الساحلية في سوريا. الأمر نفسه
تكرر عند كل المؤرخين المتأخرين الذين نقلوا عنهما من أمثال النويري وابن تغري
بردي.
ولكن
السيرة الشعبية تؤكد بوضوح أن النخبة السياسية والعسكرية في دولة بيبرس كانت مؤلفة
من الفداوية الإسماعيليين إلى جانب مجموعة من الأمراء المماليك.
وتكشف
السيرة على مدى صفحاتها ككل وجود صراع مرير وقاس ما بين الطرفين، اللذين لا
يجتمعان إلا على محاربة الفرنج والمغول. الأمر الذي يعبّر عنه السلطان بصراحة في
أكثر من موضع عندما يتحدث عن (فتنة بين الأمراء والفداوية) و (ما بين الأمراء
والفداوية من المعاندة والمضادية...) (كذا).
إنها
المصدر العربي الوحيد الذي أفرد مثل هذه المساحة الكبيرة لهؤلاء. ولم تكتف بذلك،
بل اتخذت موقفاً شديد التعاطف معهم، فقد أظهرت بطولاتهم الحربية، وإخلاصهم
للسلطان، وإحاطتهم له، وحمايتهم له من المكائد والأخطار، واشتراكهم الفاعل
والأساسي في كل معاركه ضد الفرنج والمغول.
ويتمتع
هذا الموقف بالكثير من الصدقية التاريخية لأسباب عدة، أهمها:
ليس
في السيرة ما يتعارض في شكل صارخ مع روايات المؤرخين، الذين تحدثوا عن (استيلاء)
بيبرس على قلاع الإسماعيلية، ولكنهم لم يتحدثوا عن أي معركة أو مواجهة، بل ذكروا
خلافات إدارية وسياسية، حتى أن هؤلاء يؤكدون أن سيطرة بيبرس على قلاع الإسماعيليين
تمت بشكل (لطيف وودّي) - إذا جاز التعبير - ووضعوا لهذه الأخبار عناوين أكثر
عدائية..!!
-
كان الإسماعيليون يسيطرون في عصر بيبرس على مجموعة
كبيرة من القلاع العسكرية المنيعة في الشمال الغربي من سوريا، تعرف باسم (قلاع
الدعوة)، وهي: مصياف، الكهف، القدموس، الخوابي، العليقة، المنيقة). أي في أكثر
المواقع استراتيجية بالنسبة للعرب في صراعهم مع الفرنج. ومن المستحيل أن يكون
دورهم السياسي والعسكري ثانوياً وصغيراً لا يذكر كما يظهر عند المؤرخين في عصر
المماليك، بل لابد أنه كان كبيراً جداً وبالحجم الذي ورد في السيرة.
-
أن يكون الفداويون الإسماعيليون قد دخلوا بسرعة طي
الأحمال والنسيان، فيمكن تفسيره بسهولة من خلال الإشارة إلى أن الغلبة كُتبت بسرعة
للمماليك، وأن هؤلاء لم يكونوا مشهورين بديمقراطيتهم، وأن معظم مؤرخي العصر الوسيط
كانوا إما من المماليك أو من العاملين في خدمتهم، ولا يجرءون على استفزازهم، إضافة
إلى عوامل أخرى لا مجال هنا للتوسع فيها.
موقف الشعب
بموازاة
هذا التعاطف الشديد الذي تبديه السيرة تجاه الفداوية، فإنها تتخذ موقفاً واضح
العداء لكل الأمراء من المماليك من دون استثناء يستحق الذكر، فهي تتهم قلاوون
الألفي بتسميم السلطان واغتياله، وابنه الأشرف خليل بشرب الخمر، واغتصاب جارية،
وحتى السلطان المعزّ أيبك التركماني فإنه يبدو في هذه السيرة أحمق ضعيف الشخصية
وزوجاً مخدوعاً، كما تُظهر هؤلاء وأيضاً سُنْقُرْ الأشقر وبدر الدين البيسري
وغيرهم، وكأنهم عصابة مجردة من الأخلاق لا همّ لها سوى حوك المؤامرات والدسائس.
المؤكد
أن المماليك واجهوا متاعب جمّة في بداية دولتهم مع السكان العرب. فقد انفجرت
ثورتان عربيتان في وجه المعزّ أيبك الذي تسلطن قبل بيبرس بخمسة عشر عاماً. وبيبرس
نفسه واجه تمرّدين عربيين. أحدهما في نواحي الفيوم وقاده شريف علوي هو حصن الدين
بن ثعلب، والثاني كان في جبل المقطم بقيادة رجل يعرف بالكوراني، وانفجر في شوارع
القاهرة نفسها.
أخمد
بيبرس الثورتين بقسوة بالغة، وإن كان قد نجح هو شخصياً في استمالة الرأي العام لاحقاً،
فإن باقي المماليك قد فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً.
والمذهل
هو أن هذه السيرة الشعبية تنسجم انسجاماً كاملاً في بعض زخارفها مع ما نقله إلينا
المؤرخون في هذا المجال. ففي الحديث - مثلاً - عن موقف الشعب من المعزّ أيبك، نقرأ
في السيرة أنه (بعد تلبيسه سلطاناً، نزل في موكب عظيم، فدعت الرعية على سبيل
السخرية، وصاروا يتكلمون بما يكره من الكلام، فمنهم مَن يقول إن شاء الله ربنا
يرضيها على يدك، وآخر يقول رخّص لنا العيش، وهو مع ذلك يظهر الجلد ويخفي الكمد..).
وفي
المجال نفسه، يقول مؤلف النجوم الزاهرة ابن تغري بردي: (إن أهل مصر لم يرضوا
بسلطان مسّه الرق. وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره، حتى في
وجهه إذا ركب ومرّ بالطرقات..).
فهذه
السيرة تعكس إذن وبأمانة وصدق المواقف السياسية للشعب المصري والشامي في تلك
المرحلة الحرجة جداً من تاريخه.
أبطال منسيون
ويحتشد
في السيرة الشعبية عدد كبير من الأبطال الذين يلعبون أدواراً رئيسية فيها، ولكن لم
يأت على ذكرهم أيّ من المؤرخين، ولم يترجم لهم أحد على الإطلاق، لا في كتب
الحوليات، ولا في كتب الوفيات، حتى يخال القارئ أنه أمام شخصيات خرافية لم يكن لها
أي وجود.
ولكن
التنقيب يثبت العكس، وهذه عيّنة من أسماء هؤلاء الأبطال الذين سمحت تحقيقاتنا
بإِثبات حقيقة وجودهم:
-
معروف بن جمر الذي كان يحمل لقب سلطان القلاع والحصون
(ما يعادل رئيس أركان محلياً). تقول السيرة الشعبية إنه اختفى لفترة وسُجن في بلاد
الفرنج، وفي غيابه عيّن بيبرس خلفاً له شيما جمال الدين. ويتمرّد عشرات الفداوية
على السلطان وشيما طمعاً باللقب، وذلك على مدى ألفي صفحة تقريباً من صفحات السيرة.
وعندما يعود معروف يعترف بأهلية شيما للمنصب، ويقاتل الفرنج، ويستشهد أمام باب
أنطاكية في حلب ويدفن في إحدى زواياها.
ومَن
يزر اليوم سوق الضرب في حلب القديمة، يمكنه أن يرى ضريح معروف بن جمر في إحدى غرف
المدرسة الشاذبختية المعروفة جيداً هناك. حتى أن اسم معروف طغى على اسم منشئ
المدرسة.
-
شيما جمال الدين نفسه لا ترجمة له عند أي من المؤرخين،
ولا دليل على وجوده، سوى حجر واحد في قلعة العليقة في سوريا، نُقش عليه: (أمر
بعمارة هذا البرج الزردخاني شيما جمال الدين). والأبراج الزردخانية كما هو معروف
هي سجون المجرمين من الأمراء والشخصيات الكبيرة. ولكي يأمر شيما بعمارة مثل هذا
البرج، فهذا يعني أنه كان صاحب سلطة عالية جداً.
وبتأكيد
وجوده من خلال هذا الحجر، يمكن البحث عن حقيقة مدفنه في دمياط في مصر، حيث تقول
السيرة إنه توفى ودُفن فيها.
-
حسن البشناتي، الذي تقول السيرة إنه كان أحد الفداوية
الذين أغضبتهم سلطنة شيما، فتمرّد عليه وعلى الملك الظاهر، وحاول اغتيال هذا
الأخير، وتعاون مع الفرنج، غير أن شقيقته المجاهدة عائشة البشناتية صوّبت موقفه.
لا تروي لنا السيرة شيئاً عن ظروف وفاة البشناتي، غير أن ضريحه لايزال قائماً حتى
اليوم في عقبة الحمراوي في طرابلس (لبنان)، وإن كان الضريح نفسه قد تعرّض قبل
سنوات قليلة لعملية تحديث خربت معالمه، فإن مبناه وقبّته هما من دون شك من فن
عمارة القرن الثالث عشر.
هذا
غيض من فيض، إذ بالمنهج نفسه يمكن للباحث أن يتأكد أن حشداً كبيراً من أبطال هذه
السيرة كانوا حقائق وليسوا من نسج الخيال مثل: عائشة البشناتية، أمير البحر
البطرلي، النسر بن عجبور وغيرهم.
باختصار،
لا يمكن لهذه المقالة أن تقدم مسحاً شاملاً لما في هذه الملحمة التاريخية من حقائق
تنفرد بها، فالأمثلة التي سقناها أعلاه هي من المواضيع المثيرة للجدال والنقاش،
ويمكن التلاعب فيها، ومع ذلك، فإنها أتت ذات قابلية كبيرة للتحليل والدراسة
العلمية. فكيف الحال إذن فيما يتعلق بباقي المواضيع التي تعج بها هذه السيرة، ولا
مصلحة لأحد في مسخها والتلاعب فيها مثل وصف العادات، والتقاليد، والملابس، والقيم
الاجتماعية واللهجات التي كانوا يتحدثون بها.
بكلمة
واحدة، تبدو السيرة الشعبية للظاهر بيبرس متحفاً حقيقياً لعصره، وللنصف الثاني من
القرن الثالث عشـر برمته، وهذا المتـحف يسـتحق فعلاً الزيارة.
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق