هل تستطيع أن تتصوّر رجلاً غاية في الضعف والهزال
والضآلة، له وجه كأنه صُبغ من البرونز، حليق شعر الرأس الأبيض حتى الجذور، تبرز
عظمتا خدّيه في حدة، ويوشك فمه الواسع أن يخلو من الأسنان، أنفه ضخم وأذناه
كبيرتان، بينما عيناه البنيتان تشعّان طيبة قلب، يحيط جسده الضئيل بثوب غليظ لا
يكاد يخفي ذراعيه وساقيه العاريتين؟!
إذا استطعت أن تتصوّر رجلاً بهذه الصورة، فتخيل كيف
يمكن أن يكون الزعيم الروحي والزعيم السياسي لشعب يتجاوز تعداده المليون نسمة، إذا
ما ظهر للناس التفت حوله جماعات حاشدة لتتبرّك بلمس ثيابه أو تقبيل قدميه...!
إنه
المهاتما غاندي الذي يلقّبونه في الهند حتى الآن بـ"الروح العظيم"، وكان
له أكبر الأثر في حياة البلاد. إنه الزعيم الذي دكّ بالروح الأعزل قلاع القوة
والاستعمار.
رجل
يقول عنه التاريخ "إنه تجرّد عن المنافع وزهد في الذات، وتجرّد للرقي بأنصاره
وأعوانه إلى مرتبة فوق مرتبة التباغض الحيواني والأنانية الكريهة، فلم يكن في نفسه
مكان لغير المحبة والسلام...!
مولد زعيم
وُلد
موهاندا غاندي عام 1869، وتنتمي أسرته إلى طبقة الفيشية، ثالثة الطبقات الهندوسية
الأربع، واتخذ مبدأ يسمى "أهمسا" وهو ألا ينزل أحد الأذى بكائن حيّ.
وكان أبوه إدارياً قادراً، أنفق ماله كله تقريباً في سبيل الإحسان.
كان
والده قد زوّجه وهو في الثانية عشرة بالطفلة "كاستورباي"، وكان قد دخل
المدرسة الراقية قبل ذلك بسنة. وعندما بلغ التاسعة عشرة لم توافق أمه على ذهابه
إلى إنجلترا لمواصلة تعليمه العالي إلا بعد أن أقسم أمامها قسماً غليظاً بألا يقرب
ثلاثة أشياء: الخمر... والنساء... واللحم...".
لم
يستطع غاندي قط أن يتآلف وينسجم مع المجتمع الإنجليزي والعقلية الإنجليزية، وحاول
زملاؤه البريطانيون كثيراً أن يحملوه على أكل اللحم، ولكنه لم يحنث أبداً بالنذر
الذي نذره بين يدي أمه. وكان ذلك بعض بوادر القوة الشخصية ومضاء العزيمة والثقة
بالنفس، وعندما أتمّ غاندي دراسته الجامعية وحصل على إجازة المحاماة، عاد فوراً
إلى بومباي ليجد أمه قد ماتت قبل وصوله. وحينما عرضت عليه إحدى المؤسسات الإسلامية
أن يذهب إلى جنوب إفريقيا محامياً عن مصالحها وافق على الفور. وهناك بدأت الأحداث
تلهب بوادر القوة الكامنة في نفسه. ففي أول جلسة في المحكمة، طلب منه القاضي بأن
ينزع عن رأسه عمامته الهندية. فأبى غاندي وغادر المحكمة: واقتضت القضية التي جاء
من أجلها أن يسافر إلى بريتوريا عاصمة الترنسفال، فحجز مكاناً له في الدرجة الأولى،
وبينما هو جالس في المقصورة، دخل رجل أبيض استنكف أن يرى ذلك الهندي الأسمر
بالدرجة الأولى. وجاء الرجل باثنين من موظفي القطار وطلبوا منه أن ينتقل إلى
الدرجة الثالثة ولكنه رفض. وبرغم أنه أظهر لهم تذكرته، إلا أنهم أصروا على خروجه.
وأحضروا له شرطياً أخرجه بحقائبه عنوة وقذفوا به إلى رصيف المحطة. وكان في هذا
الحادث أثره في تغيير مجرى حياته.
وراودت
غاندي نفسه أن يعود أدراجه إلى الهند، ولكنه تصوّر المأساة الإنسانية التي يعيشها
قومه في جنوب إفريقيا. وأن الأمر بات يحتاج منه البقاء من أجل مواطنيه، واستمر
غاندي في تشجيع مواطنيه الملونين حتى لقد أخذوا يقومون بمسيرات تندد بما يتعرضون
له، وألقي القبض على قائدهم غاندي ثلاث مرات خلال أربعة أيام.
المهاتما
بعد
انتهاء القضية التي جاء من أجلها، استعد غاندي للعودة إلى الهند، ولكن قبل أن
يغادر قرأ خبراً عن اعتزام الحكومة سلب الهنود حق انتخاب أعضاء الهيئة التشريعية،
وهنا رأى الرجل وجوب المقاومة، وقرر البقاء شهراً آخر ليدافع عن حقوق مواطنيه،
ولكن الشهر امتد فصار عشرين سنة استمرت في كفاح متصل في سبيل حقوق الهنود في جنوب
إفريقيا، وحين عاد بعد 21 سنة إلى بومباي. استقبل غاندي وزوجته استقبالاً مذهلاً،
وفي ذلك اليوم أطلق الناس عليه اسم "المهاتما" أي الروح العظيم.
كانت
الهند خلال الحرب العالمية الأولى قد فقدت الكثير والكثير من الضحايا لصالح
بريطانيا التي وعدت بنوع من الحكم الذاتي للهند، ولكنها حنثت بعهدها مما أثار
الخواطر. وأعلن غاندي الصوم العام، وحركة عصيان مدني تقوم على كسر القوانين
الجائرة. وبدأت حركة عدم التعاون مع الإنجليز. وكانت فكرة غاندي في عدم التعاون
بسيطة واضحة، فقد رأى أن سلطة البريطانيين في الهند قائمة على تعاون جميع الطبقات
معهم. فإذا أمكن سحب هذا التعاون لم تستطع الحكومة البقاء، وقد اعتقد غاندي أنه
وجد هذا المبدأ في مسألة عدم العنف. وأعلن أنه لا يتفق أن نناهض الحكومة ونتعاون
معها. فليست المقاطعة إذن كافية إذا اقتصرت على الواردات الإنجليزية وحدها، وإنما
تجب مقاطعة المدارس الإنجليزية والمحاكم والأعمال والوظائف الإنجليزية، وبدأ
بتنفيذ فكرته، فقاد حملة مقاطعة الملابس الإنجليزية والأجنبية من أجل تحرير
الاقتصاد الوطني، وبدأ ينفق كل يوم أربع ساعات أمام مغزل يدوي لينسج قماشاً اسمه
"الخضار" راجياً أن يسوق بنفسه للناس مثلاً يحتذونه، فيستخدمون هذا
القماش البسيط المغزول داخل البلاد بدلاً من شرائهم منتجات المغازل البريطانية
التي جاءت خراباً على صناعة النسيج في الهند.
ونجحت
المقاطعة، وبالفعل جاء الهنود الأغنياء والتجار بما كان في دُورهم أو مخازنهم من
المنسوجات الواردة من الخارج، فألقوا بها في النار. وفي بومباي وحدها أكلت ألسنة
اللهب مائة وخمسين ألف ثوب من القماش.
وفي
عام 1931 ذهب غاندي إلى لندن للمشاركة في مؤتمر المائدة المستديرة. وإذ كان
مدعوّاً من الملك، فقد ذهب إلى قصر باكنجهام في ردائه التقليدي الذي رفض أن يغيّره
عندما طلبوا منه ذلك. ولكن المؤتمر على أي حال فشل بسبب التعنّت الإنجليزي.
الصيام حتى الموت
اعتقلت
الحكومة غاندي فور عودته من إنجلترا، وفي سبتمبر 1932 أعلن الصيام حتى الموت في
السجن ضد المعاملة التي يعامل بها المنبوذون. وأعلن التصميم على الصيام حتى يقضي
على هذه الأفكار والمعاملة اللاإنسانية، وبالفعل لم ينه صيامه إلا بعد أن وقع
المسئولون ميثاقاً بذلك.
كان
يوم 8 يوليو 1942 هو أشد أيام الحكم البريطاني للهند حرجاً، فقد كانت الحرب
العالمية الثانية في أوجها حيث فقدت بورما وتقهقر الحلفاء إلى الهند المعرّضة
للغزو الياباني، وأحس الإنجليز أن هناك نية لإعادة تطبيق مبدأ عدم التعاون مع
القوات البريطانية، فقبضوا على غاندي ونهرو وعشرات من الزعماء الآخرين ردّاً على
الحركات الثورية في المناطق، فكان ذلك إيذاناً بالعصيان المدني الشامل الذي واجهه
الإنجليز بمنتهى العنف. وقرر غاندي الصوم حتى ترجع الحكومة عن هذا الظلم، وتوالت
المنشورات المقلقة مما أثار رعب إنجلترا، فأطلقت سراحه، وكان الصراع بين الهندوس
والمسلمين قد استفحل من خلال ألاعيب إنجليزية خبيثة حتى كان يناير 1948 حينما أعلن
غاندي صومه الأكبر حتى الموت إن لم يكف أهل دلهي الهندوس عن اضطهاد المسلمين.
وفي
يوم 30 يناير بينما غاندي ماض إلى الصلاة يتوكأ على حفيدتيه، برز على طريقه رجل
بدا كأنه يهم أن يركع أمامه، وعلى بعد قدمين من المهاتما أطلق جودس الهندوسي ثلاث
رصاصات على المهاتما الذي خرّ على الأرض وهو يهتف "يا إلهي"....
وانتهت
حياة روح الهند... بينما الجماهير تهتف "عاش المهاتما... ولكن غاندي كان قد
مات.
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق