المتنبي والحب
مَنْ منّا لا يعرفُ المتنبي الّذي سمّاه كثر "أشعرَ العرب"، والّذي لمْ يتعرّف على هذا الشّاعر لا يخفى عليهِ أبداً حكمتهُ الشهيرة: ماكلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركُهُ.. تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السّفنُ.
أبو الطيّب المتنبّي: ﻫﻮ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺼّﻤﺪ ﺍﻟﺠﻌﻔﻲ. كانَتْ ولادته سنة
303هـ/915م، في حيِّ كِندة وبنو جُعْفی قبيلة تنتسب إلی اليمن. كانَ من أعظمِ شعراءِ
العربِ والأكثر تمكناً من الّلغةِ العربيةِ بقواعدِها ومفرداتِها وأصولِ البلاغةِ فيها
بحيث أنَّهُ يتمتع بمكانةٍ مرموقةٍ في تاريخِ الأدبِ العربيِّ ولمْ يسبقْ لغيرهِ
من الشعراءِ أنِ احتلّها. وما زالَ شعرُهُ حتّى اليوم مصدرَ إلهام شعراءً
وأدباءً كُثر. شاعرُ الحكمةِ والمدحِ والفخرِ والّذي نظمَ الشعرَ في
التّاسعةِ من عمرِهِ فهل لامسَ قلبَهُ الحُبْ؟
ككلِّ شخصٍ قرأَ للمتنبي وتعرّفَ على أشعارِهِ
ذاتَ الصبغةِ النرجسيّةِ والمدحِ ووصفِ المعاركِ والهجاءِ، تساءَلْتُ عن موضعِ
المتنبي من الغزلِ والحبِّ والزواج والمرأةِ بشكلٍ عام. وطالما سمعْنَا عنِ
اقترانِ أسماء الشّعراء باسماء حبيباتِهم كـ"جميل بثينة" و"مجنون
ليلى" و"عنترة وعبلة" لكن لم يسبقْ لنا أنَّ المتنبي اقترنَ اسمُهُ
باسمِ محبوبةٍ أو امرأةٍ على وجْهُ التّحديد.. أمّا عنِ المرأةِ في شعرِ المتنبي
قد كتب عنها بنوع من المساواةِ بينها وبينَ الرّجل وجاءَ في مرثيّةِ أمِّ سيفِ
الدولة:
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمس
عيبٌ ولا التّذكيرُ فخرٌ
للهلالِ
وإضافةً علی ذلكَ غزل المتنبي للمحبوبةِ الغامضةِ
والّتي يصفُها في اشعارِهِ دونَ الايحاءِ إلی من تكون:
هامَ الفُؤادُ بأعرابِيّةٍ
سَكَنَتْ بَيْتاً من القلبِ لم تَمدُدْ
له طُنُبَا
كأنّها الشّمسُ يُعْيي
كَفَّ قابضِهِ شُعاعُها ويَراهُ
الطّرْفُ مُقْتَرِبَا
بَحْرٌ عَجائِبُهُ لم
تُبْقِ في سَمَرٍ ولا عَجائِبِ بحرٍ
بَعدَها عَجَبَا
وليسَ هذا فحسب وإنّما الأهم وزبدة الكلام أنَّ
هناكَ مَنْ ذهبَ أنَّ أبي الطيّب أحبَّ خولةَ وهيَ أختُ سيفِ الدولةِ الحمداني
الّذي لم تكنْ علاقته بالمتنبي علاقةَ ملكٍ بشاعر إنّما علاقة منْ نوعِ الصّداقة.
وبانتْ مشاعرُ الحبِّ الدفين في رثاءِ خولة عندما بلغهُ نبأ وفاتِها:
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا
بِنتَ خَيرِ أَبٍ كِنايَةً بِهِما عَن
أَشرَفِ النَسَبِ
أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسمى
مُؤَبَّنَةً وَمَن يَصِفكِ فَقَد
سَمّاكِ لِلعَرَبِ
لا يَملِكُ الطَرِبُ
المَحزونُ مَنطِقَهُ وَدَمعَهُ وَهُما
في قَبضَةِ الطَرَبِ
غَدَرتَ يا مَوتُ كَم
أَفنَيتَ مِن عَدَدِ بِمَن أَصَبتَ
وَكَم أَسكَتَّ مِن لَجَبِ
وتظهرُ عاطفةُ الشّاعرِ الصّادقةِ العفويّةِ
والّتي تنسكبُ فيها الكلماتُ جرّاءَ حزنٍ عميقٍ وصدمةٍ عارمة اجتاحَتْ قلبَهُ
لموتُ خولة:
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى
جاءَني خَبَرٌ فَزِعتُ فيهِ بِآمالي
إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي
صِدقُهُ أَمَلاً شَرِقتُ بِالدَمعِ
حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
فالشّاعر ذكرَ في قصيدتِه كيفَ هو حالُ قلبِهِ
بعدَ ذاك الفراق واستدلَّت فئاتٌ من الدَّارسينَ والباحثينَ أنَّ المتنبي كتبَ في
رثاءِ الأمِّ والأخْتِ الأخری لسيفِ الدّولة ولمْ يكتبْ بالطّريقةِ التي كتبَ فيها
عن خولة فهنا تتجلی المشاعر الجيّاشةِ والحُرقة والشَّجن الكبيرِ فيقول:
يَظُنُّ أَنَّ فُؤادي
غَيرَ مُلتَهِبٍ وَأَنَّ دَمعَ جُفوني
غَيرُ مُنسَكِبِ
فَلَيتَ طالِعَةَ
الشَمسَينِ غائِبَةٌ وَلَيتَ غائِبَةَ
الشَمسَينِ لَم تَغِبِ
وذلكَ الهيام لعلَّه أنْ يكون من أسبابِ الجفاءِ
الّذي حلَّ على علاقةِ الشْاعر بالأميرِ الحمداني. فبعدَ قصيدةِ الرّثاء هذه أخذَ
بنا التَّفكير إلی العودة للقصائد الغزليّة الّتي كانَ قدْ نَظمها المتنبي قَبْلها
فمنذُ بدايةِ لقائِهِ بسيفِ الدولةِ في أنطاكية أثناء زيارةٍ من الزياراتِ حيثُ
التقَتْ عيناهُ بعيناهَا لأوّلِ مرة ففُتنَ بهما ووقعَ في حبّها يلقي قصيدةً لسيفِ
الدولةِ بعضُ أبياتها غزليّة:
قِفي تَغرَمِ الأَولى مِنَ
اللَحظِ مُهجَتي بِثانِيَةٍ وَالمُتلِفُ الشَيءَ غارِمُه
وَما حاجَةُ الأَظعانِ
حَولَكِ في الدُجى إِلى قَمَرٍ ما واجِدٌ لَكِ عادِمُه
وهذه الأبياتُ تدلُّ على وجودُ امرأةٍ معَ سيفِ
الدّولةِ والتي قالَ البعضُ أنّها خولة لأنَّ الملوك عندما كانوا يسافرونَ
يصطحبونَ نساءاً معَهُمْ ففي البيتينِ السّابقينِ يقصدُ أنَّ نظرةً واحدةً مِنها
لا تكفي فيطلبُ أُخری، والقمرُ لا فائدةَ منْهُ في حضرِتَها.
وعلاوةً على ذلِك قيْلَ أنَّه لمْ يتزوّج وبالرّغم
منْ هذا قرأْتُ مرةً في إحدى محاولات البحث عن أجوبةٍ لأسئلتي حولَ المتنبي هذا
الشاعرُ الغامضُ: أنّه تزوّج من امرأة وهي"أمُّ محسده" فمحسده هو ولده ولكنَّهما
قُتلا، ويقالُ أيضاً أنَّ محسد قُتلَ لحظةَ قَتْلِ أباه فكانا سويّاً عندما
داهمتْهُما عصابةُ فاتكِ الاسدي. لكنْ هذهِ الأحاديث عنْ الزواج وحبْ خولة ليست
إلا عبارة عن تكهنات ووجهات نظر وآراء نقاد مبنيّة على الحدسِ ولا دليلاً مثبتاً
على صحّةِ هذهِ الأقاويلِ.
فهل حقاً أنَّ المتنبي لم يطأْ الحبُّ قلْبه كما وصفَهُ ناقدوه؟
كانَ المتنبي ساعياً نحوَ المجدِ والسلطةُ ونيلِ
مراتبَ عاليةً ما جعلَ من عدمِ ارتباطه بإمرأةٍ خلالَ مسيرةِ حياتِهِ مجالاً
مفتوحاً أمامَ الكارهيْنْ لهُ والمنتقدينَ أشعارَهُ فقدِ اعتبروا أنَّ المناصب
كانت أهمّ ما كان يفكرُ به.
فهلْ أحبّ المتنبي نفسَهُ الّتي مدَحها فقطْ؟
أعتقد بأنَّ الحديث عن عدم حبّه لمرأةٍ في حياتِه
بعيدٌ عنِ المنطقِ،فالحب والمرأة الذين قامَ بذِكرِهِما في أشعارِهِ يقعانِ في
مكانِهِما، هذا عدا على القولِ بأنَّ حبيبةَ المتنبي من نسجُ خيالِهِ فصحيحٌ أنَّ
الشخص يستطيع أن يضع مواصفاتٍ معيّنة يحب تواجدها في الشّخص الّذي سيكونُ شريكاً
لهُ ولكنْ من وجهةِ نظري أنَّه لا أحدْ سيتغزّل بشخصٍ غيرَ موجودٍ واقعيّاً وإذا
اختلفَ أحدٌ في هذا الرأي وقالَ: أنّه يصف عيوناً جميلةً من صنعِ خيالِه سيقولُ
أنّنا نستطيع التّغزل بعيون بدونِ صاحبٍ حقيقيٍ لها، بينما مشاعر الحبِّ لا يشعرُ
بها إلّا المحب ولنْ يقدر أيَّ إنسان على أن يصف شعوراً لمْ يعشه. فيقول أبا
الطيّب:
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ
حتى ذُقْتُهُ فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن
لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ
ذَنْبي أنّني عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ
فيهِ ما لَقُوا
وشرح الأبياتِ يدلُّ على أنَّ المتنبي كانَ يلومُ
العاشقين في فترةِ شبابِه لكنَّه عذَرهُم بعدَ أن ذاقَ لوعةَ الحبِّ حتّى صارَ
يشعر باستغرابٍ ممنْ يموتُ ولمْ يدخلِ الحبَّ قَلبَهُ. وهذا خيرُ دليلٍ على هيامِهِ
بحبيبةٍ ما، ولكنَّه لمْ يُفصحْ عنْها ويَظهر الكتمانُ جليّاً في هذينِ البيتينِ:
كَتَمتُ حُبُّكِ حَتّى
مِنكِ تَكرِمَةً ثُمَّ اِستَوى فيكِ
إِسراري وَإِعلاني
كَأَنَّهُ زادَ حَتّى فاضَ
مِن جَسَدي فَصارَ سُقمي بِهِ في جِسمِ
كِتماني
فالمتنبي كانَ مترفعاً عن المجونِ وليس كنظرائِهِ
من بعضِ الشُّعراءِ الذينَ كانوا يفخرونَ بتعددِ الحبيباتِ وشربِ المدامةِ فقد
كانَ دائماً يحبُّ أنْ يظهرَ حسنَ الصّورةِ ولعلَ كتمانَهُ لاسمِ محبوبتِه بناءاً
على طلبِها أو نتيجةَ مشاعرٍ صادقةٍ أو أنّها حقاً كانَتْ خولة ومنَ المؤكد أنَّه
لنْ يذكرَ اسمها في حالٍ كحالِه، وربّما كانَ كتمانَهُ ناتجاً عن معرفةِ العائلةِ
الحمدانيّة ورفْضِها ومحاربتِها لهذا الحب فلمْ يذكرها كي لا يظنَ النّاس ما كان
شائعاً في تلكَ العصورِ من ظنونٍ سيئةٍ وكلامٍ ولمزٍ سيقال عن الشاعرِ وعلاقَتِه
بالفتاةِ الّتي أحبَّها فكتبَ بِها شعراً.
وأخيراً لا نستطيع مهما حاولنا أنْ نصِلَ إلى
جذورِ الحقيقةِ في شعرِ المتنبي هذا الشاعرُ الحكيم، فهلْ كانَ بإخفاءِ بعضِ
الحقائقِ وعدمِ الحديثِ عنْها بالشّكلِ الواضحِ إنّما بطريقةٍ مرمّزةٍ نوعاً ما
خطةً من المتنبي لجعلِ من سيأتي بعدَهُ مكبّاً على البحثِ في أشعارِهِ.
ولا يخفى على قارئِ المتنبي المشاعرَ الصادقةَ في
العديدِ من قصائدِهِ فبراعتُهُ في الّلغةِ والعفوية والصدق الذي يتبيّن لنا
أحياناً هيَ خيرُ دليلٍ على أنَّ المتنبي أحبَّ وهامَ وعشقَ، والأكثر شيوعاً منَ
القصصِ أن المحبوبةَ هي "خولة" ومهما وجّه الكارهونَ لَهُ سِهامَهمْ
فسوفَ تتصدی لهمُ العظمةَ في شعرِهِ وبلاغتِهِ وفصاحتِهِ وأنَّه تركَ تراثاً
ثميناً نفخرُ بِهِ. هذا الشّاعرُ الذي كان قويّاً صارماً لا يخافُ فهجا أعظمَ
الملوكِ أشدَّ هجاءٍ حتّى قيلَ عنْهُ "الشُاعر الّذي قتلَهُ شعرُهُ"
فماتَ مقتولاً سنةَ 354هـ/965م وعاشَ خالداً في قلوبِنا وعقولِنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق