فان غوخ
غريبٌ هذا القدَرُ القاسي: رسَّامٌ تباع لوحاتُهُ اليوم بأَغلى الأَسعار في العالم، وتَتَهافت عليها المتاحفُ، ويَتَسابق عليها في الـمَزادات تُـجَّارُ اللوحات وهواةُ اقتنائها، غريبٌ أَن يكون مات صاحبها فقْرًا ويأْسًا وعوَزًا في وحدة وغُربة وتعاسة، وأَن لا يكون باع كل حياته إِلَّا... لوحةً واحدةً سعى له بها “تِيُو“، شقيقُه الخبيرُ بتجارة اللوحات.
فاشل في التجارة
علامة
لوحاته أَنها تسجيلٌ شبهُ يومي لمشاهدَ قرويةٍ أَو مَدينيةٍ عاينَها أَو عاناها،
راكم فيه سجلًّا كاملًا لحقبة زالت اليوم لكنها باقيةٌ نابضةً في لوحاتٍ له،
غالبًا ما كانت يومياتهِ في حيثما يكون، ما ساعد على تشكيل البيئة التي عاشها
وأَنتج فيها.
وَرث
حبَّ الرسم والطبيعة من أُمه آنَّا كورنيليا، فكان في طفولته يَشرد في الطبيعة
ويَسيح في مناظرها. سوى أَن شروده انتهى تشرُّدًا حين ضاقت موارد العائلة في مدينة
مولده (زانْدِرْتْ: جنوبي هولندا) فاضطُر، وهو في الخامسة عشرة، إِلى ترك المدرسة،
وبعد خمس سنواتٍ غادر البلاد للعمل في تجارة اللوحات الفنية (لندن بين 1973 و1875،
وپاريس حتى 1876). فشِلَ في هذه التجارة فاستُغْنِيَ عنه، لكنه اكتَسب بيئة
تشكيلية نمَّت لديه حسَّه الفني، كما نمَّت لديه حسَّ الأَدب الإِنكليزي قراءاتُهُ
تشارلز ديكنز (1812 – 1870) وجورج إِليوت (الاسم الأَدبي لـماري آنّا إيڤانس 1819
– 1880).
الصدمة العاطفية الأُولى
في
لندن كانت صدمته الأُولى حين صدَّته أُوجيني (ابنة سيدة ثرية كان يسكن غرفةً من
بيتها)، رافضةً عرضَه الزواج منها، فسقط في انهيار عصبيّ، وغادر عالم الأَدب والفن
منصرفًا إلى التقوى والعمل الرعَويّ، ثم غادر إلى جنوب بلجيكا يزاول التدريس في ناحية
بائسة فقيرة، ساكنًا في كوخ حقير لم توافق عليه الجهة الطقسية هناك فاختلف معها
وغادر متبرِّمًا غاضبًا.
بانهياره
مجددًا في حالة إحباط، قرَّر في خريف 1880 أَن يتركز في العاصمة بروكسيل وينصرف
إِلى الرسم، مؤْمنًا بأَن ريشته “ستحمل العزاء إِلى الإِنسانية”، كما ورد في إِحدى
رسائله: “أُريد إعطاء البؤَساء رسالةً أَخوية. وحين يرون توقيعي على لوحتي يعرفون
أَنني واحد منهم”.
هذا
المزاج المتقلّب لديه سبَّب له طيلة حياته فشلًا صادمًا في علاقاته مع النساء،
ولَّدَ في قلبه حزنًا عميقًا ونُزوعًا إِلى الوحدة، مع أَنه كان قال يومًا: “لا
يمكنني أَن أَعيش بدون حُب”. لذا كان رومانسيَّ الطبع، مؤْمنًا بأَن “الحب حضورٌ
ضروري وحقيقي وعميق”. ولم يتوانَ عن نقل خيباته العاطفية إِلى لوحاته، في علاقاته
النسائية المتعدّدة السيئة مع كي ڤوسْتْريكِر، والعاهرة سيانّ، وأُوغوستينا
سيغاتوري صاحبة المطعم في پاريس.
العزاء: الفن والطبيعة
لم
يجد عزاء لـحزنه سوى حب الطبيعة والانصراف إلى الفن ومعونة شقيقه الأَصغر تِيُو
(تيودورُس 1857 – 1891). وكان تيو (وهو تاجر لوحات في پاريس) داعمَه الوحيد ليكمل
حياته (القصيرة) منصرفًا إِلى الرسم بدون أَيِّ عمل آخر ذي مردود ماليّ. وفي رسائل
ڤنسنت الكثيرة إلى تيو (نحو 650 بإمضاء “الـمُحب ڤنسنت”) سِجلٌّ شبه يومي لحياته
وشؤُونها وأَرائه في الحب والحياة وشجونه وأُسلُوبه التقْنيّ في الرسم.
تيو
أَدخل شقيقه إِلى الوسط الفني في پاريس، وأَمَّن له مدَدًا ماليًّا يُغْنيه عن
أَيِّ عمل آخر سوى الرسم، فيما عائلته كانت تخلَّت عنه. وفي پاريس اكتشف ڤنسنت
للمرة الأُولى الفن الانطباعي وأَحب براعة النور والظل في أَعمال الانطباعيين.
والتقى عددًا من أَعلامهم: هنري تولوز لوتريك (1864 – 1901)، پول غوغان (1848 –
1903)، وعرَّفه تيو بآخرين مثل كميل پــيسارُّو (1830 – 1903) وجورج سورا (1859 – 1891).
ولكن…
مع هذا الاكتشاف المصيري لم يكُن باقيًا لڤان غوخ سوى 10 سنوات من العمر (1880-1890).
النضج فالأسلوب الخاص
سنة
1881 راح يدرس الرسم فترة قصيرة في أَكاديميا بروكسيل، لكنه عاد في لسنة ذاتها
إِلى أَرضه الأُم، شاعرًا بحاجته إِلى التعمُّق أَكثر لدى فنانين ذوي خبرة ناضجة،
فعمِلَ فترة لدى زوج نسيبته آريــيـت: الرسام الهولندي أَنطون موڤ (1838 – 1888)،
تركيزًا على الرسم الزيتي والمائي، حتى إِذا امتلكَ تقْنيتهُما انتقل إِلى مدينة
دْرِنْتِه (ناحية نائية في شمال هولندا) كي يعمل وحده في الطبيعة.
في
تلك الفترة وما بعدها، تَمَكَّن من ريشته، وأَنتج عددًا كبيرًا من لوحات الطبيعة
الصامتة والمناظر الطبيعية والوجوه. وفي تلك الحقبة رسم بعض أَبرز روائعه:
“الحائك” (1884)، “آكلو البطاطا” (1885)، إلى مجموعة أَعمال عن حياة الفلاحين في
الأَرياف.
لكن
نضجه الفني سيظهر لاحقًا في فرنسا ويُنتج بغزارة، إِنما... لن يتبقى له سوى عشْر
سنوات من العُمر، فماذا جرى في
پاريس؟
من الطبيعة إِلى النتاج الغزير
لعلَّ
فترة إِقامته في آرْلْ كانت الأَكثر خصوبة في إِنتاجه فترتئذٍ، مُشْبَعًا بشمس
الجنوب، مرتاحًا إِلى الرسم منسرحًا في حضن الطبيعة. رسم أَشجار الزيتون، دوار
الشمس، حقول القمح، المقاهي، وروائعَ شبيهةً في تلك الحقبة الخصيبة.
إِبَّان
تلك الفترة في آرْلْ، وافاه الرسام الفرنسي پول غوغان (1848 – 1903)، وسكَن معه في
البيت الأَصفر. رسَما معًا في الطبيعة، مع أَن تلك الـ”مَعًا” أَصابها أَكثر من
شَرخٍ بسبب مزاج ڤان غوخ الغريب المتقلِّب، وتدهوُر صحته الجسدية والنفسية وانحصار
مورده المالي بشقيقه تِيُو (1857 – 1891) حتى أَنه كان يمضي أَيامًا بائسة من
الجوع بدون طعام حتى تأْتيه إِعانة تيو.
من الشجار إِلى المأْوى
نحو
نهاية 1888 كان شِجار بين غوغان وڤان غوخ أَدَّى إِلى انهيار هذا الأَخير في لحظة
غضَب مجنون وشَطْب القسم الأَسفل من أُذنه اليسرى بشفْرة حادَّة، ما أَدَّى بغوغان
إِلى مغادرة آرْلْ والعودة إِلى پاريس، وبڤان غوخ إِلى تلَقّي معالجة طبية لدى
مصحٍّ للأَمراض النفسية والعقلية (في “سان ريمي دو پروڤانس”، قريبًا من آرْلْ)
أَمضى فيه 12 شهرًا مُهَلْوِسًا رعبًا من شعوره بإِمكان العودة إِلى فورات الجنون
واليأْس والإِحباط والانتحار.
حيال
ضآلة المشاهد والمناظر والمواضيع حوله في المأْوى، راح يستمدُّ مواضيعَ يتخيَّلُها
من ذاكرته ليرسم، فكانت لوحاتُه فترتئذٍ كئيبةً هادئة ذاتَ مسحةٍ حزينة، عكْسَ ما
كانت عليه لوحاته السابقة من زهْو وحركة. ومن تلك الفترة لوحات “الليلة ذات
النجوم” (1889)، “حديقة الـمَأْوى” (1889)، “أَشجار الزيتون” (مجموعة من 15 لوحة –
1889)، تلال “الأَلــپــيَّـات” (1990)، “أَشجار السَرو” (1890)، وجوه أَطباء،
تآليف تشكيلية من وحي رامبرانت ودولاكْرْوَى ومـيــيِّـــيــه (1890).
منى اليأْس إِلى الانتحار
اشتاق
ڤِنْسِنْت إِلى شقيقه الأَصغر تِيُو فانتقل من جنوب فرنسا إِلى پاريس في
أَيار/مايو 1890. لكنه عاد فانتقل للسكَن لدى الطبيب الفنان پول فردينان غاشيه في
قرية أُوڤير سُورْوَاز حيث البيئة الطبيعية شجَّعَتْهُ على الرسم بكثرةٍ فوضع
لوحات عن حقول الذرة والأَكواخ ووادي النهر وكنيسة القرية.
لكنه،
بالرغم من نتاجه الغزير، أَغرَق أَكثر فأَكثر في الغَمِّ واليأْس والإِحباط
والوحدة والعزلة، فأَطلق النار على بطنه لسببٍ لا يزال مجهولًا، وتُوفي في 29
تموز/يوليو 1890 ولَمَّا يُكملْ ربيعَه السابع والثلاثين.
من الوفاة مغمورًا إِلى الانتشار مشهورًا
بعد
وفاته بفترة، وبدْء انتشار أَعماله بفضْل جُوانَّا زوجة شقيقه تِيُو، أَخذَت
لوحاته تلْفت بأُسلوبها ودقَّة ريشتها، حتى بلَغ لاحقًا أَن اعتبره النقادُ
“أَهمَّ رسَّام أَلماني في جميع العصور”، خصوصًا في أَعمال السنوات الثلاث
الأَخيرة من حياته. مع أَنه لم يَــبِعْ في حياته سوى لوحة واحدة وكان مجهولًا حتى
وفاته، كان لأَعماله تأْثيرٌ على الرسم الحديث في مطالع القرن العشرين.
وفي
غياب تأْريخٍ دقيقٍ موثَّقٍ لأَعماله، شابَ بعضَها لغْطٌ لاحقٌ في منتصف القرن
الماضي، كاعتبار إِحدى أَهم لوحاته “غربان فوق حقول القمح” (1890) آخرَ لوحةٍ
رسمَها قبل انتحاره وأَنَّ فيها ملامحَ احتضاره قبل نفَسه الأَخير، فيما هي ليست
كذلك بل هو أَنجزَها في أَحد الأَسابيع الأَخيرة من حياته، وأَنجزَ بعدها أَعمالًا
لاحقة.
اليوم
تُعتبَر لوحات ڤان غوخ بين أَغلى اللوحات في العالم وفْق شركات البَيع بالمزاد.
وهو تفرَّد فيها بأَلوانه الوَضَّاءة ورُقشاته الخاصة، ولو في لوحات بسيطة
المواضيع كــ”صحن البصَل” (1889)، و”جُذُور الشجرة” (1890) أَو “المقهى الليلي”
(1888)، لكنَّ أَعماله لا يُمكن اختزالُها بانعكاس نفسيَّته فقط، مع أَنَّ معظمَها
هو كذلك، إِنما تلْزم مقاربتها خارج حالته النفسية أَو الجسدية. صحيح أَنَّ ظروف
حياته كانت بائسة مضطربة، لكنه عَلَا فوق شخصية الفنان المجنون ليحلِّق في فضاء
الفنان المشغول بفَنه انغماسًا كليًّا، والمدمن على الريشة في إِقبالٍ لا يَني. من
هنا أَن أُسطورة هالته تتعدَّى زمانها وأَمكنة ولادة لوحاته، لتستقرَّ في الذاكرة
الجماعية العالمية صورةَ فنانٍ خالدٍ ما زالت أَعمالُه نابضةً كأَنْ حديثة الولادة.
من كشف المعارض إِلى اكتشاف الرسائل
بعد
وفاته أُقيمت معارضُ استعاديةٌ لأَعماله في پاريس وبروكسيل ولاهاي وأَنڤيرسْ
(بلجيكا)، وأَخذَت شهرتُه تتمدَّد طيلة القرن العشرين والقرن الحالي، مع ما رافقها
تَوَازيًا من انتشار ملامحَ بيِّنةٍ بين حالات البؤْس والعزلة وشخصيته
المتأَلِّـمة طيلة حقبات حياته.
ومع
صُدُور رسائله إِلى شقيقه تِيُو (نحو 650 رسالة) سنة 1914 في پاريس، اتضحَت الصورة
عنه أَكثر فأَكثر. وكان لتلك الرسائل، وما فيها من كتابة أَدبية عالية، أَثرٌ
كبيرٌ كذلك في اتساع شُهرة ڤان غوخ ريشة وقَلمًا معًا.
ماذا
في تلك الرسائل؟ وكيف تظهر فيها آراء ڤان غوخ الخلَّاقة في الفن والأَدب؟
تَوَازيًا
مع ثروته الفنية (879 عملًا بين لوحات ورُسُوم) ترك ڤان غوخ ثروةً أُخرى: رسائله
(800 رسالة، منها 652 إِلى شقيقه تِيُو) لا تقلُّ إِبداعًا عن لوحاته، يَظهر فيها
عُمْقُ تفكيره ونُضجُ رؤْيته الفنية ودُربَتُهُ في الكتابة بأُسلوب أَدبي عميق،
وهذا بعض مما جاء في رسائله.
من تِــيُــو إِلى جُوَانَّا
بين
الرسالة الأُولى إِلى تِيُو من لاهاي (آب/أُغسطس 1872، وكان في التاسعة عشْرة ولا
تفكيرَ لديه بعدُ في امتهان الرسم)، والرسالة الأَخيرة (لم يُنْهِهَا فبقيَتْ في
جيبه يوم انتحر في 27 تموز/يوليو 1890)، سحابة 18 سنة ملأَها ڤنسنْت بنتاج ريشته
وكان خلالها يكتب لتِيُو رسائل شبه يومية يعبّر له فيه عن شجونه وأَحزانه
ومشاهداته وآرائه وطرق تفكيره وترجمة هذا التفكير بالريشة والأَلوان والتخطيطات،
حتى باتت رسائله جُزءًا أَساسيًّا وضروريًّا لقراءة لوحاته ظُرُوفًا وأُسلوبًا
وتطوُّرًا تشكيليًّا بدا واضحًا بين أَسطر رسائله.
سنة
1914 نشرَت جُوَانَّا40 رسالة من ڤنسنْت إِلى زوجها شقيقِه الأَصغر تِيُو، ملاكه
الراعي وحاميه ومقدِّر فنِّه وداعمه ماليًّا ومعنويًّا حتى وفاته. صدَّرتْها
جُوانَّا بمقدمة بيوغرافية وترجمَت 13 منها إِلى الإِنكليزية، فكان لصدورها أَثّرٌ
بيِّنٌ على فهم سيرته ومسيرته، واكتشفَ فيه متابعوه، إِلى براعة أُسلوبه رسَّامًا،
أُسلوبًا أَخَّاذًا في الكتابة أَيضًا، يتَّضح منه جانبٌ من شخصيته ومزاجه وطبيعته
المتقلِّبة. واتضَح لاحقًا أَنه كان يُحرق كلَّ رسالةٍ تَصِلُهُ من تِيُو أَو من
سواه.
تفاصيل وشكاوى
كان
يَكتب لشقيقه عن كلِّ شيء في تفاصيل حياته اليومية، ويُرسل له كلَّ لوحة يرسمُها.
من هنا أَهمية الرسائل أَنّ فيها حكاياتِه وشكاواه وتذمُّرَه وحميمياته ونداءات
استغاثته، ما يساعد في الكشف عن مشاعر هذا الرجل الذي بات اليوم أُسطورة في تاريخ
الفن التشكيلي، فيَتّضح أَنه لم يكُن مجنونًا – كما نَعَتَهُ نقَّادٌ لاحقًا –
إِنما كان إِنسانًا مرهَفًا، قَلِقًا، مستوحِدًا، ممزَّقَ العواطف، مريضًا هزيل
البُنْيَة، يعوِّض عن كل ذلك بالرسم المحموم حتى آخر لحظة من حياته، وبالكتابة
المحمومة التي تنكشف فيه نفسيتُه وشخصيتُه.
وبلغ
تعلُّقُ ڤنسنْت (1853-1890) بشقيقه تِيُو الذي يصغره بأَربع سنوات (1857)
وتُوُفِّيَ بعده بستة أَشهُر (1891)، أَن تساءل النقاد عما كان مصير ڤنسنْت لولا
عناية شقيقه به. فكلما جمحَت به موجة يأْس أَو انهيار، كان تِيُو إِلى جانبه يدعمه
ويشدِّد من معنوياته. وهنا أَهمية تلك الرسائل التي يَظهر فيها، كما في لوحاته،
مرةً كئيبًا، مرةً زاهيًا، ما يجعل نصوصَه عاكسةً تمامًا مزاجه في لوحاته.
ماذا
في رسائله؟
هنا نماذجُ من رسائله إِلى تِيُو:
“ما الرسم؟ وكيف نبلُغُه؟ إِنه شَقُّ
فُتحةٍ في جدارٍ حديديٍّ غير مرئيٍّ، ناشبٍ بين ما نُـحسُّه وما نَستطيعه. فكيف
نجتاز هذا الجدار، ولا يفيد أَن نضرب عليه بقُوّة؟ الأَقرب أَن نحفره بالـمبرد، في
تُؤَدَة، ببطْءٍ وصبر ومثابرة طويلة بدون تَوَقُّف” (الرسالة رقم 237 –
نيسان/أَبريل 1882).
“...
كلُّ ما حولي جميلٌ كما أُحبُّه... سلامٌ هُنا،
وهُدُوء... حين يَنهمر المغيب، يَتهامس الصمتُ ويَنبسط السلام… تخيَّلْ معي هذه
اللحظة، وانظُرْ إِلى مـمرٍّ تحرسه أَشجار الحَور العالية، أَرضُهُ مبلَّلةٌ
بالمطر، نهايتُه ممتدَّةٌ طويلة، تتراءى فيها من البعيد خيالات أَكواخ مثلَّثة
السُقوف، تتلأْلأُ من نوافذها شراراتُ حمراء تتفلَّتُ من المواقد. تخيَّلْ معي
المنظر، عند انحناء المساء بفضاء أَبيض يتغلْغل في سواد الليل الآتي” (الرسالة رقم
340 – تشرين الثاني 1883).
“...
هذا النهار مـرَّ بي كأَنْ في حلم. انغمسْتُ طواله
كليًّا في موسيقاه العذبة حتى نسيتُ المأْكل والمشرَب.تناولتُ حفنة خُبزٍ من
فلَّاح عابر، ورشفةَ قهوةٍ في ذاك النزْل الذي رسمْتُ فيه امرأَة خلْفَ دولاب
المغزال. هكذا انسحب نهاري من فجره حتى المغيب، من طرف الليل السابق إلى أَول
الليل الجديد، وأَحسسْتُني مغمورًا بالنشْوة، تَــيَّاهًا في هذه السمفونيا
الساحرة” (من الرسالة 340 ذاتها).
يا صغيري...
“إذا بقينا بإِخلاص على حُب من
يستحقُّون أَن نُحبَّهم، وأَلَّا نُضيِّع وقتنا معهم في أُمور صغيرة تافهة،
نستمدُّ منهم نُورًا يُعينُنا على إِنتاجٍ أَجملَ وأَبقى. قصيرةٌ هي الحياة، يا
الحبيب تِيُو، والعمرُ يهرع أَمامنا وعلينا أَن ندركه، وأَن نركِّز على دُربة واحدة
في الحياة فنتقِنَها، وهي تُرشدنا إِلى ما حولها من صالح ومفيد. ولا تنس، يا
صغيري، ما أُكرره لك دومًا: مَن يعرف كيف يسمع صوتَه الداخليّ، وهو صوت الضمير،
يجد فيه صديقًا فلا يعود يشعر أَنه وحيد ولا مستوحد”. (الرسالة رقم 121 – 3
نيسان/أَبريل 1873).
“...
نحن الآن في الرُبع الأَخير من قرنٍ أُحسُّه سينتهي
بثورة كبرى قد لا نعيش أَنت وأَنا لنَشهد نتائجها. قد تقطفها الأَجيال بعدنا،
وستغْنَم منها. لذا لا بدَّ من العمل بسرعةٍ ودأْبٍ وهدوء: أَنا في حاجةِ أَن
أَقول لك رغبتي لو تأْذن لي بالمجيْءِ إِلى پاريس عندك، حاملًا علبة أَلواني
وريشاتي فأَرسُم وأَرسُم وأَرسُم ما يُطلَبُ مني أَوَّلًا بأَوَّل، وبسرعة، وأَذهب
فأَرسُم في اللوڤر أَو في معهد الفنون الجميلة، فهل ستَأْذن لي”؟ (الرسالة رقم 452
– شباط/فبراير 1886).
الرسالة الأَخيرة ( الرقم 652 – لم يُنْهِها لأَنه انتحر)
“يا تِيُو الحبيب، شكرًا على رسالتك
الأَخير والـ50 فرنكًا. وأُؤَكِّد لك أَيضًا وأَيضًا أَنك، ولو تعمل تاجر لوحات في
مؤَسسة تجارية، ستكون لك حصة مستقلَّة من بَيع لوحاتي، وهذا ما سينقذني من أَزمة
دائمة أَعيشها بعدم إِيجاد من يشتري لوحاتي، أَو بين مَن يفضِّل شراء لوحات من
فنان ميت على شراء أُخرى من فنان ما زال حيًّا. لوحاتي أَنا أُغامر بها، وأَسأَلُك
أَن تغامر معي بها وتعرضها على الشارين، فربَّما...”.
ولم
يُنْهِ الرسالة لأَنه أَنهى حياتَه بطلْقة من مسدَّسه على خاصرته، تُوُفِّيَ بعدها
ببضع ساعات، ووجدها تِيُو في جيبه بعد وفاته.
الشاعر
هنري زغيب
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ
أيضًا
كيفية التغلب على الخوف من الفشل
منافع التعليم الوجاهي مقارنة بالإلكتروني
11 علامة تحذيرية لانتكاس الاكتئاب
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية
البشرية وتطوير الذات
أيضاً
وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل
العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين
والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق