هل العلّة في الشعر أم أنها في المتلقي؟!
مسألة فهم الشعر أو عدم فهمه ليست جديدة في الشعر العربي، بل هي قديمة. وجواب الشاعر أبي تمّام على مَن سأله: «لماذا لا تقول ما يُفهم»؟ كان بسؤال يوجّه إلى القارئ أو السامع وهو: «لماذا لا تفهم ما يُقال؟!»، يدلّ على قِدم هذه المشكلة وعلى الجدل أو الغبار الذي أُثير ولا يزال يُثار حولها؛ أي: هل العلّة في الشعر أم أنها في المتلقي؟!
منذ ظهور المدرســــة السُرياليّة في فرنسا سنة 1924 في أعقاب نظريات فرويد 1856/1939 التي كشفت خفايا النفس البشرية، والدعوة قائمة إلى الحلم والغموض والهذيان المحموم واللاوعي والصور المفكَّكة في حقلي الفن والأدب، والتي تركّز على تشويه الواقع والقول بتداعي الأفكار، إلى ظهور قصيدة النثر.
الغموض في الشعر مرغوب فيه؛ لأنه يتيح للقارئ مشاركة الشاعر في عملية الخلق والإبداع، حيث يستطيع أحياناً أن يرى أشياء لم يرها الشاعر، أو أن يكتشف في النص الشعري أشياء جديدة لم يقصدها الشاعر، فيذهب أبعد منه.
فالسهولة في الشعر مرفوضة إذا كانت تجعل من الشعر كلاماً مسطّحاً لا يقول شيئاً، أو أنَّ ما يقوله ليس ذا قيمة؛ كمثل قول الشاعر القديم:
كأننا والماءُ من حولنَا قومٌ جلوسٌ حولَهُمْ ماءُ
أو قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وكلُّ مسافرٍ سيعودُ يوماً إذا رُزقَ السلامةَ والإيابا
فهذا الشعر لا يقول شيئاً؛ لأنه واضح، بل شديد الوضوح، فيصحّ أن نقول عن الشاعر: وفسّرَ الماءَ بعد الجُهدِ بالماءِ! ولكن يجب أن نميّز بين الغموض والإبهام.
كلمات أصبحت غريبة
الصعوبة في فهم الشعر العربي القديم؛ أي: الشعر الجاهلي خاصة، كامنة في فهم معاني الكلمات؛ لأن هذه الكلمات لم تعد مستعملة في يومنا، أي إنها أصبحت غريبة وحوشيّة وغير مألوفة، لذلك يجب شرح معاني مفردات هذا الشعر لكي نستطيع أن نفهمه: ففي الصفحة غالباً بيتان أو ثلاثة أبيات من الشعر، وبقية الصفحة شرح هذين البيتين أو الأبيات الثلاثة، فإذا أخذنا شرح المعلقات السبع للزوزني مثلاً، نجد أن الحيّز الأكبر من الصفحة مكرّس لشرح معاني مفردات الأبيات.
أما في الشعر الحديث فالمشكلة ليست في معاني المفردات، لأن معانيها مألوفة وواضحة، بل هي في ماذا يريد أن يقوله الشاعر من خلال هذه الكلمات المألوفة المعاني؛ أي: ماذا يريد أن يوصله إلى القارئ؟
يقول الشاعر محمود درويش 1941/2008، وهو أحد كبار الشعراء العرب المعاصرين: «المعنى الوحيد للشعر هو ألا يكون للشعر معنى»! هذا كلام خطير إذا أخذناه بحرفيَّته. فكيف يكون الشعر شعراً إذا فرغ من المعنى؟! وإذا كان الشعر من غير معنى، فما الفائدة من نظمه؟
في فن الرسم يستطيع الرسام أن يرسم خطوطاً بألوان مختلفة ويدّعي أنه يرسم «لوحة فنية» قد لا تقول شيئاً، ولكنها تبدو للعين على أنها توحي بشيء من الجمال. ولكن في الشعر الذي مادته «الكلمة»، فإن رمي كلمات متنافرة وغير مترابطة لا يجمع فيما بينها معنى، يكون ضرباً من الهذيان والأحاجي والهلوسة.
صعوبة الحفظ
إن بعض ما يُسوَّق اليوم على أنه «شعر حديث» من المتعذَّر أن يحفظ المرء «بيتاً» منه يستطيع أن يستشهد به عند الضرورة، أو أن يجد فيه شيئاً يرسخ في الذهن فكأنه يملأ الفراغ بمثله!
يقول المتنبي في قصيدته في سيف الدولة التي مطلعها: «الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ» يصف شدّة القتال:
في جَحْفلٍ سَتَرَ العيونَ غبارُه فكأنما يُبْصِرنَ بالآذانِ
فجعل الأُذن، وهي أداة السَّمع، تحلّ محلّ العين أداة النظر! فإذا تعذرت الرؤية بسبب غبار المعركة، فإن الأُذن تستطيع أن «تشاهد» صخب القتال وضراوته وصيحات الرجال وصهيل الخيول وقرقعة السلاح. وهذا ما تقوله الرمزية في اختلاط الحواس.
يرى البعض أن الغموض في الشعر ناجم عن عدم رويّة القارئ أو مرده إلى نقص في مؤهلاته، أو إلى عدم اعتياده هذا النوع الصعب من الأدب. وفئة أخرى ترى أن الغموض يرجع إلى أن معنى القصيدة يتحول بحسب الزمن والظروف؛ لأن الشعر في رسالته يحمل حالة نفسية، لا يستوعبها القارئ إلا في برهة معينة مواتية.والذين يقولون بالغموض يرون أن الوضوح قد يؤدي إلى المَلَل. ولأن التفسير والشرح ليسا من رسالة الشعر، بل الإيماء والإشارة. وأن مهمة الشعر أن يضعك في الحالة الشعرية، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري 1871/1945. هنا يأتي دور الإيحاء؛ أي أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل المعاني المحددة، بل وسيلة للإيحاء؛ أي أن تنقل حالة الشاعر إلى القارئ.
القصيدة الرمزية
لعلَّ قصيدة بشر فارس 1907 /1963 «إلى زائرة»، التي نُشرت في أربعينيات القرن العشرين، والتي وُضعت جائزة لمن يفسّرها خير دليل على غموض القصيدة.
وبِشر فارس لبناني عاش في مصر وكان رمزيّاً. وهذه القصيدة من ثمانية أبيات، وهي غامضة؛ لأن الشاعر لم يُفصح عمّن هي «الزائرة» التي يتكلم عنها في القصيدة. فقيل في تفسيرها: إنه يتحدث عن امرأة عرفها في شبابه، وكانت على قدرٍ من الجمال، ولكنه لما عاد والتقاها وجدها قد أصبحت عجوزاً وقد زال جمالها، فنفر منها.
وهناك من رأى أنه يقصد بـ «الزائرة» القصيدة الرمزية التي تهبط على وجدان الشاعر، وإليك القصيدة:
لو كنتِ ناصعةَ الجبين
ما روعةُ اللفظِ المُبين
ظِلٌ على وهجِ الحنين
خطٌ تساقطَ كالحزين
ماذا بوَجدِ المُحْصَنين
غيَّبتِ في العَجبِ الدفين
دُرًّا يفوتُ الناظمين
خطواتُ وسواسٍ رزين
هيهاتِ تنقضني الزيارة
السحرُ من وحي العبارة
رسمته معجزةُ الإشارة
أرخى على العزمِ انكساره
صوتٌ شَجٍ خلفَ الستارة
معنىً براعته البكارة
ونهضتِ تُهديني بِحاره
وَهبٌ تعمّيه الطهارة
فالشاعر يقول: لو كانت القصيدة واضحة لما أثارت اهتمامه، فالكلام الواضح لا يثير الدهشة. الشاعر لا يشرح أو يوضح ما يرمي إليه، ويترك للقارئ أن يجتهد في فهم المعاني التي يرمي إليها.
والستارة هنا ترمز إلى «الحجاب» الذي يحجب المعنى ولا يظهره بوضوح. المهم أن يكون المعنى مبتكراً وغير مألوف، وليس مكرّراً أو مُجتراً. والمعنى كالدر كامن في أعماق البحار يجب على الشاعر أن يغوص لاكتشافه، فهو ليس معنى مسطحاً واضحاً يمكن فهمه من دون بذل أي جهد.
وهكذا يبدو لنا أن غياب الموضوع وغياب المعنى الذي يرمــــي إليــــه الشاعـــر يؤديان بالقارئ إلى الضياع وإلـــــى طـــــرح السؤال: ماذا يريد أن يقول؟ بحيث تصبح لغة النص الشعري معزولة عـــن الســــياق الموضــــوعي، فيصـــــبح على القارئ أو المتلقي أن يجتهد في تأويل الكلام.
الغموض في شعر أدونيس
الشاعر أدونيس من الشعراء العرب المعاصرين الأكثر ثقافة والأكثر إثارة للجدل، وقد اختلف فيه الناس. ولنضرب مثلاً على الغموض في شعر أدونيس قصيدته «الوقت» التي نُشرت للمرة الأولى في مجلة «مواقف» التي يُشرف عليها، في عدد 45 شتاء سنة 1983، ثم نُشرت مع بعض التغيير في مجموعته «كتاب الحصار» يونيو 1982، يونيو 1985. وهو يقول عن هذه القصيدة، وهي الأولى في المجموعة، وقصيدة «إسماعيل»، الأخيرة فيها، إنهما الأصعب فيما نظم من شعر. والقصيدتان صعبتان دون شك، بل فيهما غموض كثير واستخدام غريب للكلمات.
تبدأ قصيدة «الوقت» بــ:
حاضِناً سنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:
ما الدّمُ الضّاربُ في الرّملِ، وما هذا الأفولُ؟
قُلْ لنا، يا لَهَبَ الحاضرِ، ماذا سنقولُ؟
مِزَقُ التاريخِ في حنجرتي
وعلى وجهي أَماراتُ الضحيّة
ما أمَرَّ اللغة الآنَ وما أضيقَ بابَ الأبجديّة.
ولمّا كنت أُدرِّس هذه القصيدة، ذهبت إلى أدونيس أسأله عما يريد أن يقول فيها؟ فكان جوابه: «أنا لا أُحسن أن أفسّر شعري». قلت له: ماذا تقصد بـ «سنبلة الوقت»؟ ولماذا لا تضع كلمة أخرى تؤلّف قرينة مع كلمة «وقت»، كأن تقول «طاحونة الوقت»، أو «منفضة الوقت»، أو «طنجرة الوقت» – أقصد – ما يُعرف «بطنجرة الضغط»، أو أي شيء غير ذلك؟! فكان جوابه أنه أراد أن يدل على «الهشاشة» هشاشة الوقت و«السنبلة» خير ما يعبّر عن ذلك. ولكن ماذا يجمع بين «السنبلة» و«الوقت»؟
في قصيدة «الوقت» يتحدث أدونيس عن سنوات الحرب التي عاشها في بيروت أو عاش قسماً كبيراً منها، ويتناول فيها ثلاثة محاور: الله – الموت – الزمن.
همّ أدونيس الأســـاس أن يُغيّر لغة الكتابة وأفق الكتابة لكي يأتي النص الشعري اختراقاً.
إن بعض ما يُسوّق ويُروَّج على أنه «شعر» إنما هو شعر خالٍ من الشعر، هو شعر مسحوب منه الشعر، مثل «الحليب المجفف»، الخالي من الدسم.
وبعد، الشعر عمل جادٌ مضنٍ وهو رأس الفنون كلها، وهو الفن الوحيد الذي يُدرك بالحاستين الأهم عند الإنسان هما: النظر والسمع، لأنك تستطيع أن تقرأ الشعر بعينيك وتسمعه بأُذنيك، وهذا لا يصح على أي فن آخر؛ كالرسم والنحت والرقص، التي تدرك بالنظر فقط، والموسيقى التي تدرك بالسمع وحده.
فبتنا نسمع بـــ «قصيدة النثر» و«قصيدة البياض»، وشعر الصمت الذي لا يقول شيئاً، و«تفجير اللغة» و«اختراقها» و«تحطيمها» إذا شئتم!
فالشعر شعر والنثر نثر. لماذا هذا الخداع والتزوير، ولماذا هذا الهجين الذي نسميه «قصيدة النثر»؟ هناك نثر أجمل من الشعر؛ كنثر الجاحظ وأمين نخلة وسواهما.
نعود لنطرح هذا السؤال من جديد: لماذا ينظم الشاعر شعره إذا لم يكن يريد أن يقول شيئاً؟ وإذا أراد أن يقول ما يقوله لماذا لا يقوله من غير إبهام؟ وإذا كان الشاعر يخاطب الناس، فيجب أن يخاطبهـــــم بلغة قــــادرين على فهمها.
فهل المطلوب أن يصبح الشعر مجرد كلمات لا رابط معنوياً يجمعهـــا؟ أم هل المطلوب أن يكون النص الشعري لغزاً مغلقاً؟ اللغة هي العنصر المكوّن للشعر، كما أن اللون هو العنصر المكوّن للرسم، فكيف إذن للشعر أن ينهض من دون لغة ذات دلالة؛ أي: تحمل معنى يفهمــــه الناس؟
اللغة والشاعر الحديث
واللغة قد تُؤوّل أو تخضع للمجاز، أو تدل على رموز أو توحي بمعانٍ قد لا تكون متطابقة عند جميع الناس، ولكن كيف يستطيع أحد أن يقول إنه يخلق لغة جديدة؟! فللكلمات معانيها ومدلولاتها، وكل كلمة تحمل معنى محدوداً أو معاني محدّدة، وإلا حصلت الفوضى في المفاهيم.
قد يرى البعض أن اللغة القديمة لم تعد قادرة على استيعاب رؤى الشاعر الحديث وأفكاره وخواطره المضطربة.
ولكن هل نفهــــم من ذلــــك الدعـــوة إلى إقامة علاقات فريــدة وصـــادمة وغـــــير مألـــوفــــة بيـــــــن مفــــردات اللــــغة؟ وهل يــــؤدي ذلـــك بالضــــرورة إلى خلق معانٍ جديدة؟ هل من الممكن ذلك؟!
فإذا بالشاعر الذي يدّعي الحداثة يأتي بكلمات لا رابط بينها، وجُملٍ ومقاطع متنافرة بحيث لا نعرف عمَّا يتكلم. وهل المقصود من الشعر أن يكون مجرد كلام لا رابط بينه وألفاظ لا توضح شيئاً. وهل يكفي أن نجيب بأن المعنى في قلب الشاعر؟!
ولكن يبقى السؤال: هل في ذلك كله «شعر» أم «صرعة» من الصرعات؟
وللذين يسمون أنفسهم بأنهم «شعراء طليعيون» نقول: إن كلمة «طليعية» التي استخدمها الشاعر الفرنسي الكبيـــر شارل بودلير 1821/1867، أحد كبار شعراء الرمزية، للمرة الأولى سنة 1864 تطبّق عموماً على الحركات التي برزت في بداية القرن العشرين في مختلف أنحاء أوربا: التكعيبية في فرنسا، التعبيرية في ألمانيا، التصويرية في بريطانيا، المستقبلية في إيطاليا، ومن ثم في روسيا، وصولاً إلى الدادائية والسوريالية، جميعها طليعيات أوقعت الثقافة التقليدية في أزمة، إذ لم تعد هذه قادرة على تمثيل الواقع الراهن الذي تغيّر إلى حد بعيد إثر الغزو الصناعي والمديني للفضاء المجتمعي، فضلاً عن ظهور أنظمة سياسية وقيم أخلاقية وأيديولوجية جديدة.
يُروى عن الجنرال شارل ديغول 1890/1970 عندما كان رئيساً للجمهورية الفرنسية أن وزير الثقافة في عهده أندريه مالرو 1901/1976 قال في إحدى جلسات مجلس الوزراء الفرنسي مخاطباً ديغول:
«سيدي الجنرال، إن شاعــرنا سان جون برس 1887/1975 – حائز جائــــزة نوبـــــل سنة 1960 – وهو شاعر ذو شـــهرة عالمــــية، ويستحق وساماً رفيعاً من أوسمـــة الدولة، لاسيما أن شعره قد ترجم إلى العديد من لغات العالم».
فابتسم الجنرال ديغول وقال لمالرو: «ما تقوله صحيح، ولكن متى يترجم شعر سان - جون برس إلى اللغة الفرنسية»؟!
فمتى يترجم شعر هؤلاء الشعراء الذين يدّعون الحداثة عندنا إلى «العربية»؟
وبعد... ليست هـــــناك وصفــــة طبيّة للحداثة وللشعر الحديث. الإبداع وحده هو سرّ البقاء!
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًاقصة
اسم المولود الجديد... كيف تختارينه
الوالدان وضرورة الانتباه لاستخدام الأطفال للإنترنت
تأثير الثقافة الرقمية في المنظومة التربوية
8 عادات غريبة عن الأطفال حول العالم
تقليل استخدام الهواتف الذكية أفضل للصحة العقلية
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق