جَمَعْتُ بَيْنَ الْحُسْنَيَيْن: الثّقافة والرّياضة
مازِلْتُ أذْكُرُ، وأنا طفْلٌ
صغيرٌ، لَمْ أتجاوزْ التّاسِعةَ مِنْ عُمْري، كنّا نَتَحَلّقُ حَوْلَ المِدْفأةِ
في لَيْلة شتايئّة قارسةٍ، ونَحْتَسي كُئوسَ الشّاي السّاخِنِ، عِنْدَما هزَّ
والدي رأسَهُ، والْتَفَت إلى والدَتي باسِماً:
- هَلْ تَعْرفينَ في ماذا كُنْتُ أفَكِّرُ؟
وما كادتْ أُمّي تُجيبُهُ، حتّى
أرْدفَ قائلاً:
- كُنْتُ أفكِّرُ في مُسْتقْبَلِ
وَلَدنا أرْنِسْت... وسَكَتَ لَحْظةً، قَبْل أنْ يُفْصحَ عن رَأيِهِ:
- أريدُ أنْ يُصْبِحَ صَيّاداً
ماهِراً، يَأتينا بالْحمامِ والسُّمانى والْحَجلِ والأرانبِ السَّمينةِ..!
قاطَعَتْهُ والِدتي على
الْفَوْرِ:
- لا، لا أتّفِقُ مَعَكَ إطْلاقا!
الصَّيدُ هوايةٌ، ولَيْسَ حِرْفةً!.. أنا أريدُ أنْ يُصْبِحَ ابْنُنا موسيقيّاً
كبيراً، يَمْلأ دُنيانا نَغَماً عَذْباً!
وكَأنّ أبي أرادَ أنْ يَحْسِمَ
الأمْرَ بَيْنَهُما، فسألني مُرَبِّتاً على رأسي:
- أُحْكُمْ بَيْنَنَا، يا
أرْنِسْت: هَلْ تَخْتارُ الصّيْدَ أم الموسيقى؟
أطْرَقْتُ أُفكِّرُ قليلاً،
ثُمَّ رَفَعْتُ رأسي، وقُلْتُ لَهما باشّاً:
- لا هذا ولا تِلْكَ، أي لا
صَيْدَ أريدُ ولا موسيقى!
- أنتَ، يا أبي، طَبيبٌ ورياضيٌّ،
تَهْوى الصَّيْدَ. وأنْتِ، يا أمّي، تَهْوَيْنَ الموسيقى.. أمّا أنا فَلنْ أكونَ
مِثْلَكُما أبَداً أبَدا..!
سألْتني أمي في دَهْشةٍ:
- لا صَيْدَ ولا موسيقى تُفَضِّل،
فأيَّةَ مِهْنةِ تَخْتارُ، يا وَلَدي؟!
أجًبْتُها مُتلَعْثماً:
- أريدُ.. أنْ.. أصبِحَ صحَفيّاً..
أنْقُلُ أخبارَ الْحَرْبِ وأخْطارَها، ليَكْرَهَها النّاسُ، وأدْعو إلى الحُبِّ
والتّسامُحِ والسّلامِ والْعَيْشِ في أمْنٍ وأمانٍ..!
قال أبي مُتَعَجّباً:
- يالَكَ مِنْ نبيهٍ!.. لا تَنْسَ
أنّكَ ستُعَرِّضُ حياتَكَ للْخَطَرِ!.. ولا تظُنَّ أنّ هذه المُهِمّة سَهْلةٌ.
لَنْ يَرْحَمَكَ العدُوُّ، ولَوْ برَصاصةٍ طائشةٍ..!
قُلْتُ بحَماسةٍ:
- لكِنّني سأنْشُرُ القِيَمَ
الإنْسانية الجميلةَ. وإلاّ لماذا تَذوبُ الشّمعةُ؟ أَلَيْسَ لِتُضيء الطّريقَ
للآخرينَ؟..
ولماذا يَحْتَرِقُ هذا
الْحَطَبُ في الْمِدْفأةِ؟.. ألَيْسَ ليُدْفِئَنا، ويَحْمينا مِنَ الْبَرْدِ
القارِسِ؟
ابْتَسَمَتْ أمي قائلةَ:
- وأنتَ تُريدُ أنْ تكونَ مثْلَ
تِلْكَ الشَّمْعَة وذاكَ الْحَطَبِ.. ألَيْسَ كذلكَ؟
- طَبْعا، يا أُمي!
في 21 يوليو من سنة 1899
فَتَحْتُ عَيْنيَّ الصَّغيرتَيْنِ على (أوك بارك) بضاحيِةِ (شيكاغو).
ولمْ أكَدْ أبْلُغُ العاشِرةَ،
حَتّى سَلَّمَني أبي بُنْدقيّةً وشِصّاً.
وَبَدأ يأخُذُني مَعَهُ في
الْعُطَلِ المدْرَسيّةِ إلى الصَّيْدِ البَرّي والْبَحْري.
ولهذا تَجدونَ قِصصي ورِواياتي،
إلاّ الْقَليلَ منها، تَجْري أحْداثُها إمّا في الغابة أو في الْبَحْرِ، أو هما
مَعًا!
وقبلَ أنْ أبْلُغَ ثمانية عشر،
ربيعاً، اشْتَغَلْتُ صَحفيا في مدينة (كنساس) ثُمَّ رَحَلْتُ إلى فرنْسا مُتطوعّا
لأسْعِفَ الْجَرْحى وأساعِدَ الْمَنكوبينَ في الْحَرْبِ العالَميّة الأولى.
وأثْناء عَمَلي، أصابَتْني
أكْثَرُ مِنْ مائتَيْ شَظيّة في ساقَيَّ.
وهُنا تَذَكَّرْت ما قالَهُ لي
أبي في طُفولتي:
- لا تَنْسَ أنّكَ ستُعَرِّضُ
حَياتَكَ للْخَطَرِ!
لكنّني لمْ أهْرُبْ مِنْ ساحةِ
الحَرْبِ، كما يَفْعَلُ الجُبَناءُ..
صَمَدْتُ طويلاً في جَبْهة
الْقِتالِ، أعالِجُ الْجَرْحى وأساعِدُ الأطْفالَ الأيْتام، والْمَشرَّدينَ.
وأرْسِلُ إلى الْجَرائِدِ والْمَجَلاّتِ مقالاتٍ ناريّةً تُصَوِّرُ الْمَعارِكِ
الطّاحِنَةَ، وما تُخَلِّلُهُ مِنْ قَتْلٍ ودَمارٍ، وجَرْحى وجَوْعى ومَنْكوبينَ.
ولَمّا فُزْت بوسامِ
(الْبَسالةِ الحَرْبي) عُدْتُ إلى وَطَني، مَرْفوعَ الرَّأسِ، مُطَمَئنَّ
النَّفْسِ.
وكَتَبْتُ هذه التَّجْربةَ
الْقاسيّةَ في روايتي (ودَاعاً يا سِلاحُ)!
ستَسْتَغْرِبونَ إذا قلْتُ
لَكُم إنّ الْكُتّاب والموسيقيينَ والْمُمَثّلينَ والرّسامينَ، كانوا ومازالوا
يَتَّصفونَ بالرّقة والْوداعةِ، وأحْياناً، بـ (النّحافةِ) رُبَّما لأنَّهُمْ
يُفكِّرون كثيراً ويَأكلون قليلاً، تصِلُ قامَتي مائةً وثمانينَ سَنْتيمتَراً،
ورأسي كبير كرأس الأسد، وَصَدْري بارِز كصَدْرِ الحصانِ..!
هَلْ تَعْرفون لماذا؟
قولوا، قولوا، لا تَتَرَدّدوا!
حَسنَاً، سأقولُ لكُمُ السِّرَّ:
إنّني لَمْ أكُنْ كاتبا فَقَطُّ،
ولا قنّاصاً فَقَطُّ، ولا صَياد سَمَكِ فَقَطُّ، وإنّما كُنْتُ ملاكِماً أيْضا،
ومُصارعاً أيضاً.
كنْتُ أعْطي دُروساً في
المُلاكمَةِ، وأخوضُ غِمارَ مُبارياتها بكُلِّ حماسةٍ وشَجاعةٍ.
وكنْتُ مُصارِعاً بارِعاً
للثيرانِ، أتَنقَّلُ بَيْنَ فرنْسا وإسبانْيا لأمارِسَ هذه اللُّعْبة أوِ الرياضةَ
الخطِرةَ، وأشاهِدَها في الْحَلَبةِ.
وهلْ تَعْرفونَ أنّني متُّ
مَرَّتَيْن؟!.. طبعاً، لَنْ تُصدِّقوني أبَداً، وأنا أيْضا لَن أصدِّق نَفْسي،
فلَيْس هُناكَ مَنْ يموتُ مَرَّتَيْن أو ثلاثاً!.. لا، لا، يا أصدِقائي، فمَنْ
يموتُ، لا يَحْيا ثانيةً وثالِثةً.. هذه بَديهيّةٌ، يَعْرفُها الْكَبيرُ
والصَّغيرُ، الْعالمُ والْجاهِلُ!
لكِنْ، هذا ما حَصَل لي تَماما.
لَقَدْ مُتْتُّ وعِشْت مَرَّتَيْنِ اثِنْتَيْنِ، وأنا في رحْلةِ قَنْصٍ مع زَوْجتي
بغابات إفْريقْيا الشّاسِعةِ.
بيْنَما نَحْنُ عائدان،
فَرحَيْنِ بما صِدْنا مِنْ حيواناتِ، إذا بالطّائرة الّتي تَقلُّنا تَميلُ بنا
شَيْئا فَشَيْئا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أنْ توَقّفَ مُحَرّكُها، فَتسْقطَ في نَهْرِ
النّيل..!
وهَكذا نُشرَ خَبَرُ وَفاتي
بالْجَرائدِ الصّباحيّة بعَناوينَ بارِزَةٍ: (الطّائرةُ تَتَحَطَّمُ بالكاتِب
الكبير أرْنِسْت هِمِنجْوايْ).
"كاتِبُ
(وَداعا يا سلاحُ) يَلْقى حتَفَهُ". "مَصْرَعُ هِمِنِجْوايْ في
تَحَطُّمِ طائرةٍ"، غَيْرَ أنّ الجَرائدَ الْمَسائية ستَنْشُرُ خَبَرا سارّاَ،
تُبشِّرُ فيه أهلي وأصْدقائي وقُرائي: "نَجاةُ هِمِنجْوايْ مِنْ مَوْت
مُحقّقٍ". "هِمِنجْوايْ يَنْجو من الْمَوْتِ بأعْجوبة"!
- كَيْفَ حَدَثَ كُلُّ هذا؟!
- صَبْراً، صَبْراً، سأجيبكُمْ:
عِنْدَما سَقَطَتْ بنا الطّائرةُ في النّيل، كما قُلْتُ لَكُمْ مِنْ قبْلُ، لَمْ
نَخَفْ أو نَيْأسْ. تماسَكْنا وضَبَطْنا أنْفُسُنا، نُفكّرُ فيما يَنْبغي أنْ
نَفْعَلَ، كأنَّ شَيْئا لَمْ يحْصُلْ!
حَبَوْنا على أيدينا وأرْجُلنا،
مِنْ هُنا إلى هُناكَ، منْ هنا إلى هناكَ، حتّى عَثرْنا على مَنْفذٍ ضيّقٍ،
تسَلَّلْنا مِنْهُ بالْكادِ..!
لكنْ، كَيْفَ نَتَخَلَّصُ منّ
النَّهْرِ الْعَظيمِ؟!
الْمِياهُ تَجْري بسُرْعةٍ
فائقةٍ، وضِفّتاه مُتباعِدَتانِ..!
في تِلْك اللّحْظة، لَمْ
نشْعُرْ إلاّ وأيْدي السّباحينَ تَمْتدّ من زوْرق لتُنْقذنا من الغَرَقِ.
وهُنا تذَكّرْتُ نصيحةَ أبي
وأنا صغيرُ، كما تَذكّرتُ تطوّعي في الْحَرْب العالَميّة الأولى. أنا أنْقَذْتُ
الجنودَ، وهؤلاءِ أَنْقَذوني..!
مَنْ يَعْمَلْ خيْراً يَجدْ
خيراً!
هذه هيَ المَوْتة الأولى،
فأيْنَ الثّانيةُ؟!
بَيْنما نحْنُ في الزَّورَقِ،
نَتَلَقَّى الإسْعافاتِ ونُغيّرُ ثِيابَنا الْمُبَلّلةَ، إذا بطائرة الإنْقاذٍ
تَظْهرُ.. ويبْدو أنها كانتْ تَبْحثُ عنّا، في هذه النّاحية وتِلْكَ..
صَعِدْنا السُّلّمَ
الْمُتَدَلّي، ورَكِبْنا الطائرة فَرحَيْنِ بنَجاتِنا.
وما كادَتْ تُحلّقُ بنا عالياً،
حتّى مالَتْ بنا شَيْئاً فشيْئاً، ووَقَعَتْ هيَ الأخْرى، والنّارُ تُدَلّي ألْسِنَتَها
منها..!
يا لَحَظّنا التْعسِ!
لمْ نعْرفْ مِنْ أين تَأتينا
الْمَصائبُ؟!
وهكَذا نُشِرَ خَبَرُ وفاتي في
الْجَرائدِ الصَّباحيةِ بعناوينَ كبيرة:
"كاتِبُنا
الْكَبيرُ.. وَداعاً"!
"أرْنسْت
هِمِنِجْوايْ يَرْحلُ عنّا".
غَيْرَ أنّ خبراً سارّا
سيُنْشرُ في الجرائدِ الْمَسائية، يُبَشّرُ أقْربائي وأصدقائي وقُرّائي بنجاتي
مِنَ الْمَوْتِ والحريقِ الَّذي أضُرمَ في الطّائرة:
"هِمِنِجْوايْ
ما زالَ حيّا!"
كَيْفَ حَصَلَ ذلكَ؟!
مَهْلاً مَهْلاً، سأكْملُ
لَكُمُ الْحادثةَ: كانتِ النّارُ الْمُشْتَعِلة تَلْفَحُنا بحَرّها الشّديد،
تَلْسعُ أجْسامَنا بلا رَحْمة، وتَمُدُّ ألسنَتَها الطّويلة لتَلْتهِمنَا لُقْمةً
سائغةً.
وكَعادتنا لَمْ نَخَفْ أو
نَتَراجَعْ!.. خَطَرَ ببالي أن أحَطّمَ الْبابَ الْخَلْفيَّ للطّائرة، كيْلا
نَحْترق أو نَخْتنقَ.
وبما أنّني مُلاكمٌ قويٌّ، لَمْ
يَسَعْني إلاّ أنْ أنْهالَ على الْبابِ باللّكماتِ، اللّكْمة تِلْوَ اللّكْمة،
اللّكْمَة تِلْوَ اللّكْمة، بِيَدٍ كأنّها مِطْرقةٌ، حَتّى تَحَطّمَ، وخَرَجنا
سالمينَ فَرحينَ بنَجاتِنا..!
تنَفَّسْتُ الصُّعداء، وأنا
أقولُ في نَفْسي:
- إنّ الْرِياضَة تُنَشّطُ
الجِسْمَ والْعَقل وتُقوّيهِما، وتُفيدُ صاحِبَها ساعةَ الْخَطَرِ..!
أَلَيْس كذلكَ، يا أصدقائي؟
والآن، قولوا: هَلْ مُتُّ
وعِشْتُ مَرّتيْن أمْ لا؟
كُنْتُ في حَياتي التي تَمْتدّ
اثْنَتَينِ وستّينَ عاماً، هادئاً هانِئاً، أقْصدُ الْغابَة أو الْبَحْرَ، فأصيخُ
سَمْعي لشقْشقةِ الطُّيورِ، وزَقْزَقةِ العَصافيرِ، وهَديل الْحَمامِ، وَضَحِكِ
الْقُرودِ، ونعيقِ الغِرْبانِ. كما أصْغي إلى النّاس جميعاً، أغٌنياء كانوا أو
فُقَراءً، أقْوياء أو ضُعفاءً، أصْدقاء أو أعْداءً.. لا فَرْقَ عندي بَيْن هذا
وذاك..!
وأسْلوبي - أيْ طريقَتي - في
الْكتابةِ، كان بَسيطًا، وكَلماتي سهْلة، خاليةً من الْغموضِ، كأنّها عصيرٌ حُلْوٌ
لذيذٌ، تَشْربُهُ بسُرْعةٍ ولّهْفة. لكنّ الأحداثَ كانتْ أحْيانًا مُتشابهةَ
وتتكرّر...
وهذا سرّ حُصولي على جائزة نوبل
للآداب سنة 1954 عن روايتي (العجوز والْبَحْرُ) الّتي تحْكي قصّة صَياد عَجوز فقير
يصْطاد سَمَكة ضَخْمة نَهَشَتْها الْحيتانُ.
وإذا أرَدْتمْ أنْ تتَعَرّفوا
عَلَيَّ أكْثر، فاقْرأوا رواياتي وقصصي التالية:
- جَنّة عَدَنَ
- لِمَنْ تُدَقُّ الأجْراسُ؟
- الشّمس تُشْرِقُ كذلكَ
- سُيولُ الرّبيعِ
- تِلالُ إفريقيا الْخَضْراءُ
- الّرابحُ لا يأخذ شيئا
- لهُ ولَيْس له.
وغَيْرُ هذه الرّوايات كثيرٌ
كثيرٌ..!
ماذا يُمْكنني أن أقول في نهاية
قصّتي؟
لقدْ كنتُ سعيدَ الحظّ، لأنّني
جَمَعْتُ بَيْنَ الْحُسْنَيَيْن: الثّقافة والرّياضة، ونَجَوْتُ منَ المَوْتِ
مرّتين.. هذا الموْتُ الذي كان يَتَعَقَّبُني ويَتَصيّدني بَيْنَ الْحين والآخرِ،
مِثْلما كُنْتُ أتعقّبُ وأتصيّد الْحَمامَ والْحَجَلَ والسّماني والأرانبَ
السّمينةَ في الْغابة، والسّمَكَ في البَحْر والنّهر..!
العربي بن جلون
المصدر: 1
https://alarabi.nccal.gov.kw/Little/Article/12095
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق