الأربعاء، 20 نوفمبر 2024

• النزوع الإنساني لدى الشعراء الصعاليك

الصعاليك 

عندما أعود إلى مراجعة الشعر الجاهلي بين الفينة والأخرى، كثيرًا ما يلفت انتباهي جانب الرحمة والشفقة والحدب على الضعفاء وذوي العوز والمسغبة، أي الجانب الإنساني، لدى الشعراء الصعاليك وبخاصة لدى زعمائهم البارزين؛ وليس من ريب في أن هذا الجانب قمينٌ بالبحث والتتبع والدراسة وتسليط الأضواء الكاشفة عليه، قصد تجليته للقراء والباحثين، والوقوف على أهم دوافعه، ومدى صلته بالقيم العربية المتجذّرة في التركيبة النفسية العربية الأصيلة.

الصعلقة المفهوم والدلالة 

 عرَّف معجم لسان العرب لابن منظور لفظ الصُّعلوك بأنه: الفقير الذي لا مال له، ويقول الدكتور شوقي ضيف «الصُّعلوك: الفقير الذي لا يملك من المال ما يُعينه على أعباء الحياة، ولم تقف هذه اللفظة عند دلالتها اللغوية الخالصة، فقد أخذت تدل على مَن يتجرّدون للغارات وقطع الطرق» (شوقي ضيف  تاريخ الأدب العربي، ج1، ص 325). 

وفي المفهوم الاصطلاحي: الصُّعلوك والصّعاليك هم اؤلئك الذين يسهرون الليل في الإغارة والغزو والنهب في سبيل الحصول على الرزق، أي أنهم نفر أو جماعة تجاورت مجموعة خصالٍ وصفات في إهابهم، يأتي في مقدمتها الفقر والشجاعة، ما جعلهم أصحاب مذهب خاص أو منزع بعينه في الحياة، يمتزج فيه الإملاق والاحتياج والتشرّد مع الإقدام والتمرد والاحتجاج على الأعراف السائدة في القبيلة وَفق نمط خاص أو أسلوب متفرد.

الصعاليك والقيم الإنسانية

قد يتبادر إلى بعض الأذهان سؤال جوهري محدّد حول مصدر القيم الإنسانية لدى الشعراء الصعاليك، وهو لا ريب تساؤل منطقي وجيه له ما يبرره، خاصة عندما ننظر إلى مقادير القسوة والفظاظة والغلظة والهمجية، التي تتجلى في ممارسات بعض الصعاليك إبان الغارة على أملاك الغير، وما قد يصاحب ذلك من قتال وسفك للدماء وتعد على الحرمات وتجاوز لحدود المروءة، والجواب على ذلك أنّ هؤلاء الصعاليك المتمردين على نظام القبيلة لم يظهروا فجأة أو على حين غرة في مجتمعهم، بل تشربوا الكثير من القيم والتوجيهات الأخلاقية إبان النشأة الأولى التي نشأوا عليها، فمما لا شكّ فيه «أنّ الشعراء الصعاليك قد مرّت بهم في حياتهم فترات عاشوا فيها مع قبائلهم حياةً قبلية متوافقة توافقًا اجتماعيًا، وهي تلك الفترات التي سبقت حياتهم المتصعلكة، إذ ليس مما يمكن تصوّره أن يبدأ هؤلاء الصعاليك حياتهم المتصعلكة منذ أن ترى أعينهم نور الحياة، وإنما الذي يمكن تصوره أنهم عاشوا فترة من حياتهم قصرت أو طالت مع قبائلهم، فليس التصعلك بالظاهرة الوراثية، وإنما هو ظاهرة تعمل فيها عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية» يوسف خليف « الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي»، (ص154).

وهذا استنباط في محله، لأنّ نزوع الصعاليك نحو اتجاه السلب والغارة لم يتوارثوه، بل طفح لديهم من واقع مرير شعروا فيه بالحرمان والغبن، والعيش على الهامش، وفقدان المنزلة الاجتماعية القمينة بإنسانية الإنسان، ما أدى بهم إلى مراودة أسباب الثراء والكسب تطلعًا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولعلّ تأويل مواقفهم ومسالكهم إزاء الفقراء وعطفهم عليهم وتقسيم طعامهم معهم، يؤكد سلامة هذا الاستنباط ومدى وجاهته.

صور من الرحمة الإنسانية لدى الصعاليك 

تعدّدت مواقف وصور العطف والحنان والرحمة في مسالك الشعراء الصعاليك والإصرار على إشراك الفقراء طعامهم وشرابهم حتى في أحرج الأوقات وأشدّها إلى الطعام، وأفضل صورة نلقاها في هذا الباب الإنساني ما أودعه زعيم الصعاليك عروة بن الورد العبسي قصيدته المشهورة «إني امرؤ عافي إنائي شركة» التي يقول في بعض أبياتها: 

إني امرؤٌ عافي إنائي شِركةٌ

وأنتَ امرؤٌ عافي إنائك واحدُ

أتهزأُ مني أنْ سَمِنتَ وأنْ ترى

بوجهي شُحوبَ الحقّ والحقُّ جاهدُ 

أُقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ

وأحسو قَراحَ الماءِ والماءُ باردُ

 فهذا التعبير المجازي البديع، الذي كنّى فيه عروة عن تقسيم الغذاء الذي يحوزه بواسطة السطو والنهب والغارة، بتقسيم جسمه، بلغ فيه منتهى البلاغة، إذ إنّ الغذاء أداة تنمية الجسم، وعليه فإن مَن يُقسّم غذاءه على من حوله كأنما يُقسم جسمه عليهم، كما أنه تعبيرٌ ينطوي على أبعاد إنسانية غاية في الشهامة والمروءة والنبل ويقظة الضمير، ويبدو أنّ هذه الأبيات قالها عروة في فصل الشتاء لأنه ذكر بأنه قد يوزع كلّ ما يحوزه من طعام حتى لو لم يبق معه إلا الماء البارد، والماء البارد في ذلك الوقت إنما يكون في فصل الشتاء؛ كما يظهر أنّ هذه الأبيات جاءت في سياق الرد والعتب على أحد المستهزئين بالشاعر الذي داهمته أمارات وعلامات الترهّل والنحافة والشحوب، لأنه كان يُشرك معه في طعامه الفقراء وأهل المسغبة والاحتياج. وعروة يرد على هذا المستهزئ البخيل بقوة وعنفوان وشموخ أيضًا، ويبيّن له بأنه يختلف عنه كلّ الاختلاف، فهو يفسح المجال للعافي (جمع عُفاة) أي الضيف أو الوارد على الطعام أو كل طالب معروف، حتى ليؤثره على نفسه بما في إنائه من طعام، فلا غرو ولا عجب بعدئذ إذا سمن هذا المستهزئ البخيل، وشحب وهزل وجهُ عروة، فإن جلائل الأمور مرتبطة دومًا بالمكاره، لكنه في النهاية هو الأحق بالمجد والذكر الحسن لأنه انسجم وتماهى في مسلكه مع مقتضيات المروءة والكرم والأخلاق العربية الأثيلة الباذخة المترعة بالشرف.

فعلًا فإنّ التاريخ خلّد عروة بن الورد وأهمل ذلك المستهزئ البخيل الذي يؤثر نفسه على الفقراء والمحتاجين والعُفاة، حتى إنّ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان كان يردد في معرض حديثه عن الكرم قائلًا:  «مَن زعم أن حاتمًا (حاتم الطائي) (أسمح) أكرم الناس فقد ظلم عروة بن الورد»، وقبل عبد الملك كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان يقول «لو كان لعروة بن الورد ولدٌ لأحببتُ أن أتزوج إليهم».

 مثل هذه الأقوال المأثورة عن بعض الخلفاء المسلمين تعكس منزلة عروة بن الورد وخلوده في الضمائر التي توقّر القيم الأخلاقية والإنسانية النبيلة.

 أما الشاعر تأبط شرًا ثابت بن جابر فيقول في أبيات تنضح رقةً وعطفًا وإنسانيةً:

تقولُ أهلكْتَ مالًا لو قنِعْتَ به 

    من ثوبِ صدقٍ ومن بَزٍّ وأعلاقِ 

عاذِلتي إنّ بعضَ اللوم مَعنَفَةٌ 

    وهل مَتاعٌ وإنْ أَبقيتُهُ باقٍ 

إني زعيمٌ لئن لم تتركوا عَذَلي 

      أن يسأل الحيُّ عني أهلَ آفاقِ 

أن يسأل القومُ عني أهلَ معرفةٍ 

    فلا يُخبرهم عن ثابتٍ لاقِ

إنّ تأبط شرًا يرد عتاب ولوم زوجته ويؤكد لها بعقلانية وواقعية متوازنة بأن المتاع الحسي زائل لا محالة مهما بالغنا في الحرص عليه وعلى بقائه، ويوضّح لها بأنّ شرف المرء لا يتمثل في إحرازه المال والثروة المادية، بقدر ما يتمثل في تخفيفه لوطأة الفقر والمسغبة عن الفقراء والمحتاجين والعُفاة، فتلك هي المزية والصفة التي تجعل صاحبها ذا مكانة مرموقة بين الناس وذا سمعة حسنة بعد مفارقته لهذه الحياة. والمرء يعجب لعلو همة هذا الشاعر الإنساني الذي يفكر في مصيره وفي سمعته، حتى إنه يخشى أن لا يُذكر بخير بين مَن يسألون عن سيرته بعد موته.

ومن الناحية البيانية فإنّ تأبط شرًا بلغ ذروة البلاغة في قوله «أهلكتَ مالًا لو قنعتَ به» فهو لم يستعمل لفظة «أسرفتَ» بل استعمل لفظة «أهلكتَ»، بمعنى أنه لم يترك شيئًا له ولعياله من متاع الحياة، فهو قد أتى في كرمه وإنفاقه على الرخيص «بزّ» وهو نوع من اللباس؛ والثمين «أعلاق» وهو ضرب من السيوف عالية القيمة، والذي يظهر أنّ الدافع الذي قاد الشاعر إلى هذا السلوك يتمثل في نزوع إنساني راسخ متأصل في نفسه، إلى جانب تفكير عميق في السمعة والذكر الحسن بعد انقضاء الحياة الدنيا.

 ومن الشعراء الصعاليك أيضًا أبو خراش الهذلي «خُويلدة بن مرة» الذي أدرك مجيء الإسلام وأسلم فنحن نلمحه ينتفض كالطود الشامخ أمام مصاعب الحياة ولأوائها، وفي مقدمتها الجوع، الذي يدفعه ويردّه بإرادة الصبر والتحمّل والرضا بأقل القليل الذي يحفظ الأود والرمق فحسب، فيقول:

إنّي لأُثوي الجوعَ حتى يملّني 

فيذهبَ لم يدنَس ثيابي ولا جِرمي

وأغتبقُ الماءَ القَرَاحَ فأنتهي

إذا الزادَ أمسى للمزلّجِ ذا طعمِ

أردُّ شجاعَ البطن قد تعلمينَهُ

وأُؤثرُ غيري من عيالكِ بالطّعمِ

مخافةَ أن أحيا برَغْمٍ وذِلّةٍ

ولَلْموتُ خيرٌ من حياةٍ على رغمِ

 إن الجوع الشديد الذي يواري لسعته ويكتم وطأته الشاعر أبو خراش الهذلي، حتى ليشعر بخفوته وذهابه رويدًا رويدًا دون أن يدنّس لا ثيابه ولا جسده، فالجِرْم هو الجسد، وفي هذه المدافعة البطولية للجوع التي ينهزم فيها الجوع يؤثر الشاعر عياله وأقرباءه وكل من يفد عليه من عابري السبيل بما يحصل عليه من الطعام، وهو يفعل ذلك كما يصرّح بدافع إنساني، يُحتّم عليه الشعور بالتسامي والتعالي على الهوان والمذلة، لا لشيء سوى لأن نفسه شريفة مرتبطة بالمعالي من القيم الرفيعة السامية.

وأبو خراش في هذا الموقف يشبه عروة بن الورد تمامًا، فهو يقارع الطوى بأنفة وصبر وعفة، وقد يكتفي عند الضرورة بالماء البارد، حتى ليستحيل عنده الزاد «المزلّج» أي القليل التافه المقتّر، إلى طَعْم أي إلى كفاية وشبع، فالطَّعم في أحد معانيه الشبع، كما في قوله تعالى فإذا طعِمْتُمْ فانْتشِروا «سورة الأحزاب الآية: 53» فأيّ نفس هذه التي سكنت أعماق هذا الشاعر النبيل؟ 

هذه بعض الأمثلة عن النزوع الإنساني النبيل لدى نفر من الشعراء الجاهليين، ولا شكّ أن مثلها كثير لدى هؤلاء الشعراء، أو لدى غيرهم ممن عاشوا حياة التشرد والنأي عن القبيلة نتيجة شعور مرير سكن أفئدتهم، يتلخص في هوان منزلتهم الاجتماعية وشدة وطأة الفقر والحرمان على واقع حياتهم.

مثال حديث من الصعلكة الرحيمة

وكنتٌ أخال بأن هذا المعنى من الصعلكة الرحيمة إذا جاز التعبير اقتصر وجوده على الشعراء الصعاليك قديمًا، إلى أن طالعت قصة الأديب الباكستاني «مرزا أديب» الذي كتب عن حادثة وقعت له ملخصها ما يلي:

ذهبت الى دلهي في الستينيات للعمل وفي أحد الأيام نزلتُ من الحافلة ؛ ثم فتشتُ جيوبي ففوجئت بأنّ أحدهم قد سرقني، وما كان في جيبي حين نُهبتُ سوى تسع روبيات ورسالة في ظرف، كنت قد كتبتها إلى أمي قلتُ فيها: أمي لقد فُصِلتُ من عملي، فلا أستطيع أن أرسل لكِ هذا الشهر مبلغ الخمسين روبية كما تعودتُ.

وكنت قد وضعت رسالتي هذه في جيبي منذ ثلاثة أيام على أمل أن أرسلها في وقت لاحق بما يتوافر لي من روبيات، وبالرغم من أن الروبيات التسع التي سُرقت لا تساوي شيئًا؛ لكنها بالنسبة لمن فُصل من عمله ؛ وسُرق ماله تساوي في نظره الكثير!!

مضت أيام بعد ذلك، وصلتني رسالة من أمي توجّستُ منها، وقلت في نفسي،  لا بدّ أنها طلبت المبلغ الذي اعتدتُ إرساله إليها، لكني عندما قرأتُ الرسالة احترت كونها تحمل شكرها ودعواتها لي، قائلة «وصلتني خمسون روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائع يا بني، ترسل لي المبلغ في وقته ولا تتأخر بتاتًا، رغم أنهم فصلوك من عملك، أدعو لك بالتوفيق وسعة الرزق».

وقد عشت مترددًا محتارًا لأيام... مَنْ يا ترى الذي أرسل هذا المبلغ إلى أمي؟!!  وبعد أيام وصلتني رسالة أخرى كَتب فيها صاحبها هذه الكلمات:

«حصلتُ على عنوانك من ظرف الرسالة، وقد أضفتُ إلى روبياتك التسعة، إحدى وأربعين روبية كنتُ قد جمعتها سابقًا، وأرسلتها حوالة مالية إلى أمك حسب العنوان المدوّن على ظرف رسالتك. وبصراحة فإني قد فكرتُ في أمك، وقلتُ في نفسي: لماذا تبيت أمك أيامها طاوية على الجوع وأتحمل ذنبك وذنبها؟ تحياتي لك، أنا صاحبك الذي سرق روبياتك في الحافلة فسامحني»!

إن هذه الحادثة تبين لنا بأن النزوع الإنساني الرحيم جبلّة ونحيزة لا تكاد تنفكّ عن أغوار النفس البشرية، فهي طبيعة موصولة مستمرة في كينونة الإنسان مهما تباينت ظروف الحياة وتشعّبت، فهي ليست مقتصرة على الشعراء الصعاليك ولا على عصر دون عصر، وقد عبر عنها الأديب والفيلسوف الروسي الكبير تولستوي بطريقة بديعة في قوله «إذا شعرتَ بالألم فأنت على قيد الحياة، أما إذا شعرتَ بألم الآخرين فأنت إنسان».

المصدر: 1

 إقرأ أيضاً:

عبارات تجنبيها في حديثك مع ابنتك المراهقة

القيم الأخلاقية وأثرها في بناء شخصية الأطفال

خطوات عملية للتعامل مع الطفل المصاب بالتوحد

خطوات لتنمية المهارات الاجتماعية لطفلك منذ الصغر

طرق وأساليب عقاب الأطفال

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق