من التأثيرية إلى السيريالية
رفض
الطفل "بابلو بيكاسو" أن يتنفس عند خروجه إلى الحياة، فاضطر عمه الطبيب
أن ينفث في وجهه حتى تحرك الجسد الميت.. وعلا صوته.. وأجهش بالبكاء.
كانت
شخبطاته الأولى تملأ آلاف الأوراق، حتى لفتت أنظار الأب، فالإصرار كامل من جانب
بيكاسو لرسم الأشياء المحيطة به، وكان أولها "الحمام"، فلا كان من الأب
أمام هذا الإصرار إلا أن بدأ بكل ثقة تدريب هذه المعجزة الصغيرة، ثم تحولت رؤيته
لرسم الحيوانات التي يشاهدها في شوارع مدينته، وكان يبدأ الرسم بخط واحد من أي
نقطة وينتهي منه بخطوط تثير الدهشة والإعجاب.
ومن
فرط إعجاب الأب بالحمام وإطلاقه في غرف المنزل، تحولت "الحمامة" إلى
عنصر هام في لوحات الابن "بابلو بيكاسو" وظلت تلازمه طوال حياته حتى
رسمها داخل تصميم شعار السلام الشهير الذي ذاع صيته في الخمسينيات رمزا لحركة
السلام العالمي.
وفي
عام 1890 انتقلت العائلة من مدينة "مالاجا" مسقط رأسه إلى
"برشلونة"، ملتقى الطريق بين الشرق والغرب منذ العصور الوسطى، والتي
تتمتع برواج اقتصادي وثقافة مزدهرة، حيث التحق بيكاسو بمعهد الفنون الجميلة دارسا،
فكان مطلوبا منه رسم جسم رجل عار بالفحم، فأتمه بيكاسو في أسبوع واحد، في حين كان
يحتاج إلى شهر على الأقل، وأمام هذا التقدم والنجاح اللذين حققهما بيكاسو قرر الأب
والعم إيفاده إلى العاصمة مدريد للالتحاق بأكاديمية "سان فرناندو" أعلى
مستوى للدراسة الفنية في إسبانيا وقتذاك، حيث تدرس هناك تعاليم "جويا"
الفنان الإسباني الذي كان موجها ومعلما فيها منذ قرن مضى، لكنه قرر العودة مرة
أخرى إلى برشلونة بعد أن قضى بها أربعة أعوام، حينما بدأ يتعرف على أسلوب
"تولوز لوتريك".
نجاح وقلق ووحدة
ولقد
كانت باريس منذ صباه هي المرفأ الأمين الذي يرتكن عليه بحنين الابن لأمه، فمنذ أن
وطئت قدماه هذه المدينة الساحرة، اتجه مباشرة إلى حي الفنانين، الذي يتكون من
حارات ضيقة يخيم عليها الجو البوهيمي الفقير، فشعر بالألفة، وراحت إلى الأبد من
ذهنه فكرة السفر إلى إنجلترا. ظل بيكاسو يعيش بين صغار العمال ولاعبي السيرك،
والأفاقين الهاربين من أعين الشرطة، وبدأت لوحاته تحمل ما يحسه من الأسى والأحزان؟
الألوان الزرقاء، والنغمات الباردة، والتعبيرات المأساوية، ووجد بيكاسو في هذا
الحي الفقير المقهى الرخيص، والملاهي التي يجد في داخلها ما يملأ البطن ويدفئ
الجسم ويمتع العين. ومكث في هذا المكان ثلاث سنوات بعد انتحار صديقه
"كاساجماس" وحيدا لا يفارق غرفته الصغيرة الموحشة، لا يرى في المدينة
سوى الضائعين والغرباء الذين تحولوا إلى أبطال لوحات مرحلته الزرقاء، فكان يشعر
بأن الألوان الزرقاء هي أصدق ترجمة لحالاتهم النفسية ومشاعرهم الخاصة.
وفي
إحدى ليالي هذا الحي الفقير جاءت "فيرناند أوليفييه" ابنة بائع الزهور
الصناعية، صغيرة السن، أخاذة تعيش بجوار مسكنه، فأصبحت حبه الأول الذي سيحلق به
بعيدا، فكان عليها أن تقوم بإعداد الطعام له ولأصدقائه وأذاب شعاع الحب قتامة الألوان
الزرقاء لتتحول إلى المرحلة الوردية التي تلتها مرحلة أخرى قصيرة لم تدم سوى ستة
شهور، سجل فيها حياة لاعبي السيرك والعقلة والأكروبات وحاملي الأثقال، غير أنه لا
يمكن إنكار فضل الشاعر "أبولونير" عليه، فقد رافقت رسومه أشعار
أبولونير، فكان لشعره فضل انتشار رسومه بين المثقفين في عصره.
اللوحة الأولى في القرن العشرين
وأقبلت
الدنيا على بيكاسو، وأصبح مرسمه مزارا لكل النقاد والمعجبين والمثقفين، وكانت
تجارة اللوحات قد بدأت تأخذ شهرتها كرأسمال ذي عائد، فوضع "فولار" تاجر
الصور الشهير وقتذاك كل إمكاناته تحت تصرفه، فكل ما ينتجه بيكاسو سلعة مضمونة
البيع، لكنه كان كثير التغيير، مرحلة تلو الأخرى، فهو يكره التكرار، لذلك قام برسم
لوحة "فتيات أفينون" التي كسر فيها كل قواعد الفن المتعارف عليها، وأجمع
نقاد الفن على أن هذه اللوحة تعتبر من الأعمال القليلة في العالم، فأطلقوا عليها
اللوحة الأولى في القرن العشرين".
وعندما
بدأت المدرسة التكعيبية تفرض نفسها على باريس عام 1911 سافر بيكاسو مع
"فيرناند" و "براك" في رحلة إلى مدينة "سيريت" على
الجانب الفرنسي لجبال "البيرنيز" وانكب بيكاسو وبراك على العمل لتوثيق
مرحلة النظريات التكعيبية.
وبعد
أن توفي والده، أظلمت الدنيا في وجهه، وأصبحت الحياة لا تطاق، ونشبت الحرب عام
1914 وتفرق جميع أصدقائه، فذهبوا جميعا إلى التجنيد ومضى يتحسس سعادته، إلا أنه
سرعان ما خيم عليه حزن مفاجئ عندما علم بنبأ وفاة صديقه الشاعر أبولونير.
وعندما
دمرت قنابل سلاح الطيران الألماني سوق قرية "جورنيكا" الواقع في إقليم
"باسك" شمال إسبانيا في أبريل عام 1937، نزل الخبر على بيكاسو ككابوس
ثقيل، وبدأ يخط تخطيطاته على أوراق صغيرة زرقاء، ومع توتر اللحظات الأولى لعملية
الخلق الفني المختلط بانفعال الحدث، قام برسم أكثر من مائة وخمسة وعشرين اسكتشا
للثيران والخيول القتيلة مع نساء يصرخن من النوافذ، ولقد أعطاه هذا الحادث الأليم
- تماما كما أعطت الحرب السابقة لجويا - الوعي الناضج بعبقرية الخلق من الناحية
التصويرية والشاعرية، وبدأ بيكاسو في تنفيذ لوحته الكبرى المعروفة بالجورنيكا التي
اعتبرها النقاد أعظم وثيقة تدين العدوان على مدى التاريخ.
وقد
اتسمت حياة بيكاسو الطويلة بتلخيص لكل الانتفاضات الفنية التي عاصرها بحرفية
الرسام، فاستوعب كل المدارس الفنية الحديثة، التأثيرية فالتكعيبية فالحوشية، ثم
المستقبلية، وحتى السيريالية، وأصبحت زيارة مرسمه في باريس حتى لبسطاء الناس هي
لحظة السعادة التي يقتنصها زوار باريس.
صانع الفن الحديث
إن
بابلو بيكاسو هو الاسم الذي يطلق على الفن الحديث في التصوير، وبعده لم يظهر رجل
آخر مثله.
إنه
ذلك الإسباني الحاد الذي استوعب كل عشق التراث الفرنسي للحرية والحب، يعمل وكأنه
يسابق الزمن، يصل ثمن إنتاجه إلى عدة ملايين، قد تساوي محتويات متاحف عدة دول
بأكملها، لكنه كما هو الذي يحب جميع الأشياء الغريبة، لا يؤرقه شيء إلا أن تعبث في
مجموعاته الفريدة التي ينسقها ويضعها في أماكن لا يريد أن تتزحزح قيد أنملة، ولا
يسمح لأي إنسان غيره بتنظيمها أو لمسها.
ومنذ
ولادته حتى وفاته عام 1973، مرورا بمشوار حافل من النضج والإبداع الفني العبقري،
خلف إنتاجا يقدر بأكثر من خمسين مليونا من الجنيهات بالإضافة إلى ما تزخر به متاحف
العالم.
وقبل
وفاته بسنوات قليلة، أقام في صومعته في قصر "نوتردام دفييه" في فرنسا،
والذي تحيط به حديقة مليئة بأشجار الصنوبر تطل على "كان" بجنوب فرنسا،
قضى هذه السنوات في عزلة كاملة عن الناس. أذعن لأوامر الأطباء، فلا تدخين، ولا
طعام شهيا، فقد أضنته الحياة بمشاكلها من خلال الزوجات وفضول الصحفيين.
عادل
ثابت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق