بعد
مرور خمسة قرون كاملة لا تزال رحلة كولمبس تثير المزيد من الأسئلة؟ أسئلة حول
أهمية الرحلة، وأخرى حول الرجل الذي قام بالرحلة. هل كانت فتحا جديدا من فتوح
البشرية أم دمارا مؤكدا لحضارة نقية عاشت وتطورت بعيدا عن آفات العالم القديم؟
وهل
كان الرجل بطلا ومكتشفا باهرا، أم وغدا وسفاحا لا يقل هولا عن بقية السفاحين الذين
عرفتهم البشرية؟
كانت
الرحلة نهاية زمن، وبداية زمن جديد في نفس العام سقطت آخر قلاع المسلمين في غرناطة
وبدأ عصر الأفول العربي المرير. استولت عليها نفس الملكة التي مولت رحلة كولمبس
وباركتها. بدأت مرثية الغروب للحضارة العربية، وأعلنت الحضارة الغربية انتصارها
المدوي، سواء في العالم القديم عندما حاصرت كل طرق التجارة التقليدية باكتشافها
لطرق بحرية جديدة وتنامت قوتها العسكرية العدوانية ضد كل رفاق الحضارة القديمة، أو
في العالم الجديد عندما اقتحمت مجاهل الأطلنطي حتى تكتشف قارة كاملة.
وهكذا
تصبح ذكرى كولمبس مناسبة إنسانية أكثر منها مناسبة تهم أمريكا أو أوربا وحدها.
ولكن ماذا عنا؟.. كيف ننظر إلى هذه المناسبة نحن الذين عانينا طويلا من تفوق
الحضارة الغربية وخيلائها؟ نحن الذين دفعنا ثمنا داميا مثل الذي دفعه سكان أمريكا
الأصليون هل نستطيع أن ننظر إليها بعين من التجرد والموضوعية؟
33
يوما
غيرت العالم
لم
تستغرق الرحلة التي قام بها كريستوفر كولمبس بحثا عن طريق جديد للشرق سوى 33 يوما
ولكنها كانت كافية كي يتغير وجه العالم القديم، تغيرت الخرائط، وعلاقات القوى
وصراع الحضارات، ودخلت البشرية مرحلة جديدة مازلنا نعيش آثارها حتى اليوم.
كان
المسلمون قد طووا آخر البيارق التي رفعوها فوق أرض الأندلس، وبدأوا عملية الرحيل
الضخمة رغما عنهم. تسلمت الملكة الكاثوليكية المتعصبة ايزابيلادي كاستيلا مفاتيح
المدينة ووقعت على معاهدة احترام الأديان، وسرعان ما نقضتها وقامت بتمويل رحلة
المغامر الإيطالي. وليس صحيحا- كما تقول الروايات- أنها رهنت مجوهراتها كي تدبر
تكاليف هذه الرحلة، فمن المؤكد أنها قبضت الثمن مرتين، مرة عندما دفعت أوربا
تكاليف حربها مع غرناطة، والمرة الثانية عندما استولت على ثروة المدينة كي تمول
منها الرحلة ويأتي لها ذهب العالم الجديد صافيا.
لم
يكن كريستوفر كولمبس بحارا حالما كما يحلو للبعض أن يصوره، ولكنه كان على معرفة
عميقة بكل أحوال البحر والطقس وتقلبات المد والجزر. بدأ حياته كأعظم بحار عرفته
البشرية مبكرا. ففي العشرين من عمره اهتدى إلى إحدى الجزر اليونانية اعتمادا على
حاسة الشم لديه. كان اسم الجزيرة "ميريفولوس" وتعني جزيرة الألف عبير.
وكان أيضا يتمتع بحدة السمع والإبصار. ففي عام 1498 خلال رحلته الثالثة عبر
الأطلنطي أصيب بالتهاب في عينيه بعد أن أمضى 27 يوما خلال شهر يوليو على ظهر
السفينة محدقا في الشمس الساطعة.
لقد
نشأت خطة كولمبس من خلال الرغبة العارمة التي كانت تسود أوربا في هذا الوقت من
القرن الخامس عشر من أجل الوصول إلى الشرق الساحر المليء بالذهب والبهار. وكانت
الروايات المبكرة التي قدمها المستكشف الإيطالي ماركو بولو والتي اختلط فيها
الواقع بالخيال قد فعلت فعلها في إثارة كل هذه الرغبات وألهبت خيال كل مغامري
أوربا وأفاقيها.
في
هذا القرن كانت معلومات أوربا عن العالم بالغة الضآلة. لم تكن تتعدى تقريبا حدود
شواطئ البحر المتوسط والساحل الإفريقي. وظلت الهند والصين بقاعا بعيدة وخيالية،
ومع اعتماد أوربا المتزايد على تجارة البهار والحرير أصبحت هناك حالة محمومة للبحث
عن طريق جديد، وقوى من هذه الرغبة ارتفاع ثمن البضائع إلى أسعار خيالية، فقد
ازدادت قوة الأتراك بعد استيلائهم على مدينة القسطنطينية، وأخذوا يفرضون الضرائب
والمكوس الباهظة. كذلك ازداد جشع تجار جنوا وفلورنسا الذين كانوا يشترون البضائع
من التجار العرب ويعيدون بيعها للغرب بأسعار مضاعفة.
في
هذا الوقت استطاع البحارة البرتغاليون والمتخرجون في مدرسة الملك هنري للملاحة أن
يصمموا السفن ذات الأشرعة الثلاثة القادرة على الحركة والمناورة. كذلك تطورت أدوات
رصد النجوم واستخدام البوصلة، وكانت فكرة أن الأرض كروية معروفة لدى العديد من
البحارة، ولكنها لم تجد الإثبات العملي لها. وهكذا كان عرض كريستوفر على الملكة
إيزابيلا نابعا من رغبة قوية كانت سائدة في هذا الوقت.
كانت
إحدى مميزات كولمبس الأخرى أنه كان رساما بارعا للخرائط. فقد اكتسب خبرة رائعة
باستخدام خطوط الطول والعرض من خلال العديد من المدارس التي كانت مقامة على أرصفه
ميناء جنوا. وسافر إلى البرتغال حيث درس أسرار المحيط الأطلنطي واكتسب معرفة
بتيارات المد والجزر. وقضى مدة أخرى في الأندلس حيث قام بدراسة نظرية واسعة كانت
هي الأساس لحياته العملية فيما بعد، فقد استطاع تجميع نصوص الكتب من كل العصور
ووضع من خلالها تصورا للعالم كما يجب أن يكون. ولم يكن باقيا أمامه إلا أن يواجه
لغز الأطلنطي الغامض.
أمير
البحار
على
حد تصورات اليونان والرومان كان المحيط الأطلنطي هو نهاية العالم. كانت هناك ذات
يوم قارة مجهولة في وسطه "ولكنها غرقت نهائيا. ولم يبق بعد أعمدة هرقل
الرابضة عند مضيق جبل طارق إلا مساحات شاسعة ولا نهائية من البحار المظلمة. ولكن
كولمبس كان يؤمن بأن هذا هو الطريق القصير إلى شواطئ الهند والصين، ولم يجد من
يتبنى فكرته غير الملكة إيزابيلا التي كانت في العادة منغلقة الذهن أمام أي فكرة
جديدة ولكن بعض المؤرخين يلمحون في خبث إلى أن موافقتها على هذه الرحلة الخيالية
كانت تعبيرا عن عشقها لهذا المغامر الإيطالي.
في
أحد أيام أكتوبر عام 1492 أبحر كولمبس على ظهر السفينة "سانتا ماريا"-
وبصحبته سفينتان أصغر حجما هما "اليذنا" و "البيذتا" وبصحبته
120 رجلا- إلى المحيط المجهول. وكان بذلك أول من أبحر فوق الأمواج العالية دون
معرفة واقعية بتقلبات الريح ولا بدوامات الأمواج. وقد ظهرت عبقرية كولمبس الحقيقية
وهو يوجه سفنه الثلاث وسط طرق لم تسر فيها أي سفينة من قبل. وعندما وصل إلى أول
الجزر التي اكتشفها وهي "جوانا هاني" من جزر البهاما كان صراخ البحارة
عاليا بالأرض الموعودة التي حسبوها أول شواطئ الهند. و لكن عبقرية كولمبس الخاصة
بدت في هذه اللحظة. لقد رفض أن يرسو على الشاطئ في الحال واعتمد على حدسه الخاص
كبحار. لقد أدرك أن التسرع في الرسو يمكن أن يعرضه لخطر داهم. كان يواجه الشعاب
المرجانية المختفية تحت سطح الماء والتي يمكن أن تحطم السفن. ورأى هو الرذاذ
الأبيض وهو يرتفع عاليا، والطيور البيضاء وهي تحلق بعيدا، ففضل الانتظار حتى بزوغ
فجر اليوم التالي، وظل يبحث عن فتحة آمنة حتى اهتدى إليها بسفنه.
قام
كولمبس بأربع رحلات إلى الأرض الجديدة من عام 1492 حتى عام 1502، سار خلالها بحذاء
شواطئ فنزويلا وهندوراس والسلفادور، وهو يبحث عبثا عن قناة مائية تقوده إلى محيط
آخر ينفذ من خلاله إلى شواطئ الهند. وظل طوال هذه الفترة يعتقد أنه بالقرب من
شواطئ الصين، وأن بكين ترقد خلف الجبال التي تلوح له. ورغم كل كميات الذهب والنحاس
التي حصل عليها فقد مات وهو يحلم بالبهار.
دخل
كولمبس التاريخ من هذه اللحظة، وأصبح واحدا من أهم أمراء البحار. وتبارى الفنانون
في رسم صورته. ولدينا الآن حوالي 80 صورة جانبية تمثله، ولكن لا توجد واحدة منها
تؤكد أن هذا هو وجهه الحقيقي. وقد كتب فرناندو كولمبس كتابا عن والده ذكر فيه
أوصافه الجسدية، "كان رجلا جيد الصنع. لم يكن سمينا ولا نحيفا. أنفه معقوف
وعيناه لامعتان، كان أشقر، ولكن ما أن بلغ الثلاثين من العمر حتى ابيض شعره تماما".
كان
رجلا ذا خيال عظيم. سيطر عليه حلم لا يمكن الوقوف أمامه، واكتشف طريقا بحريا جديدا
مازال هو الطريق المألوف حتى الآن، ومازالت الأماكن التي رسا عليها بسفنه خلال
رحلاته الأربع هي نفس المواني، ولكن البشر قد تغيروا. والثقافات قد انمحت. وبدأت
خلطة جديدة تأخذ مجراها في تاريخ البشرية. مات وهو مازال يعتقد أنه اكتشف سواحل
الهند. وتعامل مع سكانها من الهنود. ولم يعرف العالم أنها أرض جديدة إلا على يد
التاجر الإيطالي أميرجو فيزبتشي الذي طاف بالأرض، ومسح حوالي 1600 كيلو متر من
شواطئ الكاريبي، ووضع أول خريطة لهذا العالم الجديد كي تأخذ دورها في حدود العالم
المعروف، بل وأخذت هذه الأراضي الجديدة اسمه ولم تأخذ اسم كولمبس مكتشفها الأول.
ولكن..
ماذا كان في هذه الأرض؟.. هل كانت بلا تاريخ؟، أم أن الأوربيين طمسوا تاريخها
وغيروا مسارها وأصابوها بالتعاسة أكثر مما نقلوا إليها السعادة؟
قبلة
الموت
المفكر
الفرنسي الكبير كلود ليفي شتراوس كان متنبها لهذه المناسبة. وكان كتابه الشهير عن
أمريكا قبل عام 1492 هو مرثية طويلة لتلك الحضارات الزاهرة التي عاشت على هذه
الأرض قبل أن يوقعها حظها بين براثن أوربا، حضارة الأزتيك والأنكا والمايا. لقد
استوطن الإنسان هذه الأرض منذ حوالي 12 ألف عام، عندما عبرت أقوام من آسيا الطريق
الصخري الذي كان موجودا بين القارات في ذلك الحين. وقد وجد تشابه كبير في الرسوم
الموجودة على جدران الكهوف في أمريكا والكهوف الأخرى الموجودة في سيبريا
السوفييتية. واتسع استيطان هذه القبائل كي يشمل القارتين. ومازالت آثار حضارات
المايا والأزتيك والأنكا تمثل شواهد مؤكدة على وجود هذه الجماعات، التي زرعت أكثر
من مائة محصول من بينها محاصيل جديدة لم يكن العالم القديم يعرف عنها شيئا.
يؤكد
شتراوس أن جناية أوربا على الحضارة الأمريكية هي نفس جنايتها على الحضارة
الإفريقية. ولكن الشيء الجديد الذي يرصده شتراوس هو تصورات الهنود عن الرجل الأبيض
وعن إمكان قدومه. كأنهم كانوا في حالة انتظار دائمة لهذا الوصول. كانوا في الأساطير
والحكايات الدينية يؤمنون بقدوم هؤلاء الغزاة من ناحية الشرق، بل كانوا بشكل أو
بآخر يعطونهم أشكال آلهتهم المعبودة. وقد نشأت هذه الفكرة من إيمانهم العميق بأن
لكل لون توأمه الذي يحمل لونا مغايرا. وهو جزء من التصور "الميثولوجي"
العام لازدواجية الكون حيث يوجد باستمرار نوع من التضاد والتناقض الذي يحفظ للعالم
توازنه. وقد تم اكتشاف العديد من الأساطير بهذا المعنى وسط الجماعات التي ظلت
منعزلة نسبيا بعيدا عن طوفان الغزو الأوربي. ووجدت ما لا يقل عن 13 أسطورة تتحدث
كلها عن لحظة قدوم الرجل الأبيض. وتؤكد كلها أن الرب عندما أنزل الهنود إلى الأرض
قد وضع معهم ما يعارضهم. بمعنى أن هناك غير هندي في مقابل كل ما هو هندي. ولذلك
فقد كان من الطبيعي عندما ظهر الرجل الأبيض على شواطئهم- رغم أنه يلبس خوذة ويمسك
رمحا- أن يصيحوا في فرح "لقد جاء.. أخيرا جاء.." حتى إنه حين وصل الغازي
الإسباني كورتيز إلى شواطئ المكسيك بادر إمبراطور الأزتيك في هذا الوقت وهو
الإمبراطور مونتزوما بإرسال كل الحلي المقدسة التي كانت مرصودة للآلهة إلى الضيف
الأبيض شبيه الآلهة.
كان
هذا هو الاستقبال الحار الذي فوجئ به كريستوفر كولمبس في جزر البهاما. وفوجى به أيضا
جاك كارنيه في كندا. لقد فتح لهما الهنود أذرعتهم، ولكن نوايا البيض كانت معاكسة
تماما. لقد جاءوا كغزاة ومحتلين لا يقبلون سوى الخضوع التام والاستنزاف الكامل،
وكانت ثمرة هذا اللقاء قاسية ومدمرة، فقد أبيدت أقوام ودمرت ثقافات واختفت لغات.
لقد كانت "قبلة الموت" من حضارة لأخرى. كان الغرب مقتنعا بأنه يملك
الحقيقة الوحيدة المؤكدة، ولم ينظروا للهنود أبدا على أنهم شركاء في نفس الحضارة،
وعلى نفس الدرجة من الإنسانية.
ضد
الكولمبية
ولكن
ماذا يحدث الآن، والعالم يستعد للاحتفال في أكتوبر القادم بمرور خمسة قرون على هذا
الاكتشاف. هل تغيرت صورة البطل؟، أم تغيرت النظرة إليه؟. وهل بقيت نفس الأحلام
التي علقتها البشرية على هذا الاكتشاف، حين أدركت أن هناك أرضا بكرا يمكن أن
تستوعب كل مشاعر الحرية للذين يعانون من كبت وحرمان العالم القديم؟
إن
الشكوك الكبيرة تلقي بظلالها الآن على هذا البطل المتفرد، بل وقد نشأت داخل البلاد
التي اكتشفها نزعة يمكن أن نطلق عليها "معاداة الكولمبية".
في
جمهورية الدومنيكان، ومنذ حوالي 100 عام تجري إقامة مشروع لبناء منارة خاصة تشرف
على مدينة سان دمينجو تخليدا لذكرى وصول كولمبس إلى شواطئ القارة الجديدة، وقد
صممت أضواؤها بحيث تنير مساحة قدرها 900 ميل من ليل البحر الكاريبي، بينما تشهد
المنطقة المحيطة بالمنارة- شأنها في ذلك شأن بقية البلاد- انقطاعا متواصلا في
الكهرباء يستمر لمدة 20 ساعة كل يوم. لذلك تبدو المنارة مثل شاهد بالغ الشذوذ وسط
مظاهر البؤس الشديد الذي يخيم على المدينة. إنه التناقض بين الأضواء الاحتفالية
للرحلة والظلام الإجباري الذي حل على الناس الذين كانوا ضحايا الرحلة.
لقد
مثلت رحلة كولمبس الخطوة الأولى في مسار عملية طويلة أدت في النهاية إلى ظهور أكبر
قوة في عالمنا المعاصر ونعني بها الولايات المتحدة الأمريكية. على أن الثورة التي
صاحبت رحلات كولمبس كانت أبعد أثرا من هذا، لقد غيرت جغرافية العالم والمقولات
الفلسفية وأساليب الزراعة ومفاهيم الدين والأخلاق ونظم الحكم، أو بالتحديد هي ثورة
أثرت على كل نواحي الحياة الغربية.
ولكن
ماذا بالنسبة للعالم الجديد. العالم الذي فقد كل صفاته القديمة عندما هبط إليه
الأوربيون بتعجرفهم وقوتهم العسكرية وأمراضهم المعدية. كانت هدية كولمبس للذين
استقبلوه بالترحاب هي الذبح أو العبودية. وبدأت مع وصوله عملية تدمير لا تعرف
الرحمة مازالت مستمرة حتى اليوم، وتغيرت النظرة إلى رحلة كولمبس من نصر للتقدم
الإنساني نحو الكمال إلى نوع من الاغتصاب لنصف كامل من الكرة الأرضية.
في
الولايات المتحدة ينظر جيدا إلى الجانب الدعائي من المناسبة، بل ويرونها فرصة
جذابة للاستغلال التجاري والترويج السياحي. وهكذا بدأ إنتاج آلاف القمصان والهدايا
التذكارية والساعات، وكلها تحمل صورة كولمبس. وسوف يعرض فيلم تسجيلي ضخم بعنوان
"كولمبس وعصر الاكتشافات"، كذلك سوف يقام في إسبانيا- وخاصة في ميناء
"سافيل" الذي خرجت منه سفن الاستكشاف الثلاث- معرض تاريخي، وسوف تبحر
سفينة صممت على غرار "سانتا ماريا" من الميناء في الثاني عشر من أكتوبر
وتسير في نفس مسار رحلة كولمبس الأولى، كما أن هناك سفينة أخرى سوف تخرج من مدينة
كولمبس في ولاية أوهايو لتسير في نهر سكيوتو. وتجهز مدينة أخرى تحمل اسم كولمبس في
ولاية ويسكونسن تمثالا ضخما من الفيبرجلاس ارتفاعه خمسة أمتار يمثل كولمبس. أما في
جنوا مسقط رأس المكتشف فيتوقع سكانها وصول حوالي مليوني سائح لحضور برنامجها
الاحتفالي "الرجل والسفينة والبحر".
ولكن
كل هذا التدافع الكبير من أجل تكريم كولمبس وذكراه لا يساوي شيئا بالمقارنة بعاصفة
الغضب التي أثارتها فكرة الاحتفال بمرور هذه القرون الخمسة. لقد تكونت جماعة مضادة
لكل ما يمثله كولمبس والحضارة الغربية، وهي منظمة الشعوب الأصلية لحوض الأمازون.
يقول إيفارستو نوجكواك "إن احتفالنا الحقيقي بهذه الذكرى هو أن نعارض كل هذه
الاحتفالات"، وسوف يجتمع حوالي ألف من أعضاء هذه الجماعة في جواتيمالا مع
أعضاء 24 دولة أخرى لاتينية في مواجهة قارية لوضع استراتيجية بهدف مواجهة احتفالات
كولمبس لهذا العام، بما في ذلك إنشاء مدينة "سافيل" بديلة في المكسيك
يتم من خلالها طرد سفن كل الغزاة الذين جاءوا إلى القارة. ويؤكد
"إيفارستو" إننا نريد أن نستعيد تاريخنا المفقود ونؤكد هويتنا لنحرز
استقلالا حقيقيا عن الاستغلال والعدوان ولنلعب دورا في تحديد مستقبلنا.
إن
هناك حركة احتجاج ترتفع إلى درجة الغليان لكل ما يمثله كولمبس بالنسبة للسكان
الأصليين. ففي جامعة فلوريدا تسبب معرض للتاريخ الطبيعي أقيم منذ عامين عن
الاكتشافات الإسبانية في الكاريبي في قيام مظاهرات صاخبة، وتعالت الهتافات التي
تندد بذلك الرجل الذي قتل قارة كاملة، وكان بالنسبة لها أسوأ من هتلر وهولاكو.
والواقع
أن هذه التهمة المتمثلة في وصول كولمبس للأرض الجديدة- مما أثار عمليات الإبادة
الجماعية ضد السكان الأصليين- قد أصبحت سلاحا رئيسيا لكل الذين يعادون الكولومبية.
يقول جورج تينكر وهو أحد السكان الأصليين ويعمل أستاذا بجامعة دنفر: وفي هذه الاحتفالات
نتحدث عن الفائدة الكبرى التي جناها بعض الناس من جراء قتل أناس آخرين" وكتب
المؤرخ المعروف "هانز كوينج" كتابا لاذعا عن سيرة مكتشف أمريكا بعنوان
"كولمبس ومشروعه" قال فيه إنه من المخجل أن نحتفل برجل مثل كولمبس يمثل
ما أنجزه سجلا كاملا من الرعب. ومن وجهة النظر الهندية فإن هذا الرجل هو أسوأ من
"أتيلا" زعيم التتار.
صدام
بين حضارتين
وهذا
الجدل الدائر الآن لا يرتبط في مجمله بما حدث عام 1492 بقدر ما يرتبط بعناصر
العالم الذي نعيش فيه ومشكلاته. الآن في عام 1992 تمرد شعوب العالم الجديد بمرحلة
جديدة تحاول فيها إعادة اكتشاف نفسها في إطار مشروع ثقافي متكامل يحاول أن يستبعد
أخطاء الماضي ويشكل المستقبل وفق معايير جديدة. وقضية كولمبس تأخذ طرفا مهما في
هذا الموضوع. فالمكانة التي يحتلها في التاريخ الأمريكي خضعت دوما لتغيرات في
المزاج القومي.
قبل
حرب الاستقلال التي خاضها المستوطنون الأمريكيون ضد الإنجليز عام 1812 لم يكن
كريستوفر كولمبس يحظى بمكانة كبيرة في المخيلة الأمريكية، ولكن بعد انتهاء الحرب
وحصولهم على الاستقلال شعر الأمريكيون بحاجتهم إلى ربط القضية الوطنية بأبطال غير
بريطانيين، أي أن العالم الجديد احتاج إلى أسلاف جدد. وظهر كتاب المؤرخ الشهير
واشنطن إيرفنج "تاريخ حياة كريستوفر كولمبس ورحلاته" مجد فيه تلك
الشخصية الإيطالية التي تبحر تحت علم إسباني، مجسدا بذلك كل المزايا والفضائل التي
يمكن أن تجتمع في رجل يجمع بين الثقافات المتعددة. أي أنه كان بشكل أو بآخر يرمز
إلى التعددية الموجودة في المجتمع الأمريكي.
ولكن
التركيبة السكانية التي كان يغلب عليها الطابع الأوربي قد أخذت في التراجع بعد
ذلك، وبدأ الأمريكيون الأصليون في التضامن مع رفاقهم من مواطني أمريكا اللاتينية
من أجل اتخاذ موقف مشترك ضد هذا الضيف الذي جاء دون دعوة في الماضي البعيد. وتضامن
معهم أيضا الأفارقة الذين حشر أجدادهم في سفن العبيد وأرسلوا كي يعملوا أذلاء في
الأرض الجديدة.
وحتى
ما أنجزه كولمبس فعليا بإحضاره أوربا إلى العالم الجديد أصبح يعاد تقييمه مرة أخرى.
لقد جرى نوع من التصادم بين عالمين. وكان من المعتاد ألا يذكر شيء عن تاريخ هذا
العالم قبل الغزو، كأن غزو أوربا لهم كان بداية التاريخ، ولكن تقدم الدراسات التي
قام بها علماء الآثار والأنثربولجيا أعطى صورة حية ومختلفة لهذه الأرض قبل أن
يطأها كولمبس. وهكذا تغير الحافز من الاحتفال بكولمبس كانتصار للحضارة الأوربية
إلى موضوع جديد هو: من هم الناس الأصليون. كيف عاشوا وكيف بنوا حضارتهم؟ وبدلا من
الدراسات الكلاسيكية التي كانت تركز على كيف "دجن" أو أباد المستعمر
السكان الأصليين، وكيف أعاد تأهيل الأرض بالسكان طبقا للنمط الأوربي، بدأت صورة
جديدة لهذه الحضارة ترسم في الذهن الأوربي نوعا من الإثارة العقلية، وتلك المسحة
الغرائبية خاصة حين اكتشفوا أن هذا العالم قد زود أوربا بأنماط من العادات
والأغذية ظل الأوربيون يزرعونها لآلاف السنين دون أن يسمعوا عنها، مثل الفلفل
والبطاطس والذرة والطماطم والقطن.
وسوف
يتوافر قدر أعمق من الفهم لهذا الانتقال للمعرفة من العالم الجديد إلى العالم
القديم من خلال معرض "بذور التغيير" الذي يعد أكبر معرض على الإطلاق
يقام في المتحف الوطني للتاريخ بواشنطن. ويخصص هذا المعرض الذي سيتم افتتاحه في 11
أكتوبر عام 1992 لخمسة عناصر طبيعية: السكر، الذرة، البطاطس، الحصان، الأمراض، وهي
العناصر التي أدى تبادلها إلى تغير بعيد المدى في كل من العالمين الجديد والقديم.
إن هذا المعرض بالإضافة إلى جهود التنقيب والأبحاث العلمية، كل ذلك يسير في اتجاه
مضاد للمواقف المتطرفة التي يتخذها هؤلاء الذين يكرهون أو يحبون ما حدث منذ خمسمائة
سنة، لعلنا نجد قاسما مشتركا بين كل تلك المفاهيم المتصارعة عن الحضارة، الإبادة
الجماعية، والتقدم، والانسجام الدوري للفصول، السيطرة على الأرض، أو العيش على
ماتهبه الطبيعة من تلقاء نفسها.
ولعل
مرجع الاستحالة هو أن كل هذه التجريدات تنتمي إلى عالم التمثيليات الأخلاقية أكثر
من انتمائها إلى واقع التاريخ كما حدثت بالفعل. ويمهد الكم الهائل من المعلومات
الجديدة التي تم اكتشافها عن العالم الجديد- سواء تم ذلك في عام 1492 أو بعده-
الطريق أمام فهم متسق اتساقا حقيقيا للحظة الحاضرة، وكيف تم الوصول إليها. ولعل
مناسبة مرور هذه القرون الخمسة هي سر ذلك النشاط والاهتمام المتزايد. والمشكلة هي
أن هذا الخلاف قد يؤدي إذا تزايدت حدته إلى حجب رصيدنا من المعرفة خلف مباراة من
التصايح بالشعارات المستهلكة.
هل
كان حقا فردوسا مفقودا؟
وإذا
كان هناك كتاب يمكن القول عنه إنه يجمع بين دفتيه كل أحاسيس اللحظة الراهنة بكل ما
فيها من حماس وغضب فهو الكتاب الذي ألفه المؤرخ كيركباتريك سيل تحت عنوان
"غزو الفردوس" الذي صدر في العام الماضي وعيناه على هذه المناسبة. فهو
مثل كتاب كلود ليفي شتراوس يروي تاريخ شعوب هذه المنطقة، وهو دعوة لكل مناهضي
الكولمبية لأن يحملوا سلاحهم. وبالتأكيد فإن أنصار كولمبس التقليديين يكنون أشد
الكراهية لمثل هذا الكتاب.
وكيركباتريك
سيل مؤرخ اجتماعي كتب العديد من الدراسات المتميزة حول حياة كولمبس ورحلاته، وحول
العالم الذي عاصر رحلة المكتشف، وهو يصف بأسلوب مؤثر شعور ذلك المكتشف حين يعثر
مصادفة على عالم غير متخيل. تسكنه- كما يذكر المؤلف- قبيلة عرفت باسم
"تاينوس" وهو اسم أوربي سموا به، وتم اشتقاقه من الكلمة الوحيدة في
لغتهم والتي تعني كلمة"طيب".
كانت
حياة "التاينوس" رعوية في أساسها، وسط الطبيعة المفتوحة. كانوا جيدي
التغذية ومساكنهم صالحة دون فقر ودون أمراض معدية. وكانوا يستمتعون بقدر كبير من
"وقت الفراغ" يقضونه في الرقص والغناء وألعاب الكرة وممارسة الجنس.
ويعبرون عن أنفسهم فنيا من خلال مناعة السلال والمشغولات الخشبية وصناعة الفخار والحلي
ويعيشون في انسجام شامل دون جشع أو شهوة أو سرقة.
والمشكلة
الأساسية في رواية سيل- بغض النظر عن تصوره لهؤلاء الناس وكأنهم في إجازة دائمة-
على أحد الشواطئ- هي أن العديد من الدراسات التي توصل إليها علماء الأنثربولوجيا
تؤكد أن هذا المجتمع لم يكن فردوسا خالصا. ولكن كان يخضع لنوع من التسلسل
الاجتماعي يبدأ بالسادة وينتهي بفئة العبيد. وهكذا فإن سيل يحاول أن يضع صورة
مثالية للسكان الأصليين الذين اتخذ مصيرهم مسارا مأساويا بعد وصول المكتشف، وهو
بهذه الصورة يسبب لهم نوعا آخر من الأذى والخسارة، لأن المفهوم الذي يضعه عن الجنس
النقي سوف يؤدي إلى نفي المشاركة بينهم وبقية أجناس البشرية. لقد أكد شتراوس أن
هناك تشابها بين مسارات الحضارة الأمريكية والحضارات الإفريقية، واستنتج من ذلك أن
الذهن البشري يسلك أحيانا نفس الدروب حتى وإن تباعدت المسافات.
وقد
أثارت الكنيسة الأرثوذكسية في أمريكا هذا الموضوع على لسان الأب ليونيد كيشكوفسكي
الذي ترأس اجتماع المجلس القومي للكنائس وشهد جدلا وخلافا حول سؤال محدد: هل كان
الشر بالفعل شيئا كليا مستوردا من أوربا؟ ويعلق الأب على هذا قائلا: كما لو أن
هؤلاء السكان لم يكن لهم تاريخ، تاريخ يتضمن حضارة وحروبا وإمبراطوريات وأعمالا
وحشية قبل أن يصل البيض إلى أراضيهم.
وتكمن
وراء حجج "سيل" والعديد من المنتقدين المتشددين تلك الأسطورة المتعلقة
بالخطيئة الأولى، فالعالم الذي كان يوما نقيا لم يعد كذلك. لذلك فلابد. أن أحدا ما
أو شيئا ما قد أفسده. وتحتوي العديد من الثقافات على شكل من أشكال هذه الأسطورة،
وتأخذ بعدها الديني أيضا في قصة آدم وحواء.
وفي
القرن الثامن عشر قدم المفكر الفرنسي جان جاك روسو تصورا لرواية جنة عدن المقدسة
بكتاباته عن البدائي النبيل، ويكمن جزء من استلهامه لهذا المفهوم في المعلومات
التي ذكرها الرحالة الأول عن العالم الجديد.
إن
الأسطورة نسق مغلق، تدور داخل دوائر محكمة التصورات كي تعزز مقولاتها الأساسية،
بينما التاريخ الذي بدأ في عام 1492 وما تلاه من أحداث هو مستوى من مستويات الوعي
بالوجود مختلف تماما. وهنا تصبح أسئلة مثل: "هل كان البدائيون نبلاء أم
متوحشين؟ " أسئلة بلا معنى ولا يمكن البرهنة عليها. لقد أضفت الأسطورة
الأمريكية- لفترة طويلة- الطابع الشيطاني على السكان الأصليين الذين وجدهم كولمبس
أو تجاهلهم. فهل يتعين أن تستبدل بهذه الأسطورة الزائفة أسطورة أخرى تضفي الطابع
الشيطاني على كولمبس والأوربيين هذه المرة؟ من السهل أن يستطيب الضحايا السابقون
دورهم كأبطال، ولكن إذا مرت مثل هذه المناسبة فإن فرصة الاكتشاف الحقيقي للذات
تكون قد ضاعت.
يؤكد
ليفي شتراوس في نهاية كتابه عن حقبة الاكتشافات أن اكتشاف أمريكا كان أهم بكثير من
اكتشاف القمر. فقد كان القمر مجرد كوكب، ولكن اكتشاف أمريكا أسفر عن صراع استمر
طويلا، فيه خاسرون ورابحون، وأنتج خليطا من الأجناس والأعراف والعادات لم يشهدها
العالم من قبل. ولعل هذه المناسبة تجعل البشر ينظرون بشكل أفضل إلى كل قضايا
الصراع الحضاري لعلهم يوفرون للبشرية نوعا أفضل من التفاهم.
مجلة
العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق