لم تحظ فتاة بمكانة متميزة في تاريخ أوربا عامة وتاريخ فرنسا خاصة، كالتي حظيت بها الفتاة الريفية الفرنسية جان دارك، ويشهد على ذلك العدد الضخم من المؤلفات التي كتبت عنها، منذ إعدامها حرقاً في مدينة روان، بمقاطعة نورمانديا الفرنسية، عام 1431م، حتى الآن.
فالمكتبة الوطنية الفرنسية تحتـوي حالياً على ما يزيد
على عشرين ألف كتاب عن جان دارك، فقد كتب عنها المؤرخون، العلمانيون منهم وغير
العلمانيين، المعاصرون منـهم والمحدثون، كما تناولهاالأدباء والشـعراء والفنانون
كل في ميدان اهتمامه، وظهرت عنها أروع الأفلام السينمائية، على أيدي أمهر المخرجين،
في أوربا وأمريكا، فقـد كتـب عنـهـا، على سبيل المثال لا الحصر، الفيلسوف الفرنسي
فولتير والأديب الإنجليزي شكسبير والأديب الألماني شيلر، والناقد الإنجليزي دي
كوينسي، والكاتب الأمريكي مارك توين، والأديب الألماني برخت، والأديب الإنجليزي
برناردشو. ومنذ بدايات القرن العشرين أخذت الأفلام عنها تتوالى، مثل فيلم (آلام
جان دارك) الذي أخرجه الدانماركي كارل دبير، ولعبت فيه الممثلة الإيطاليا ماريا
فالكونتي دور جان دارك. وقبل نهاية القرن نفسه ظهر عنها فيلمان من أروع الأفلام
الأمريكية، فمَن هي جان دارك؟ وما قصتها؟ وما مكانتها التاريخية؟
في
الواقع لا نستطيع أن نتعرّف على جان دارك إلا إذا اطلعنا على الإطار التاريخي الذي
ظهرت فيه، والظروف التي أحاطت بها وببلادها، لأن سيرتها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً
بأخطر حدثين اجتاحا أوربا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهما حرب المائة عام
التي اندلعت بين فرنسا وإنجلترا، ما بين عامي 1337و1453م، والانشقاق الأكبر الذي
وقع في الكنيسة الغربية الكاثوليكية (البابوية) ما بين عامي 1378و 1417م. فهذان
الحدثان انعكسا بشكل مباشر على حياة جان دارك، بل لا نبالغ إذا قلنا إنهما أسهما
إسهاماً مباشراً في صياغة قصة حياتها ومماتها على السواء.
أما
بالنسبة إلى حرب المائة عام، فإنها تعود في جذورها إلى المشكلات التي أفرزتها
المصاهرات بين الأسرتين المالكتين في كل من فرنسا وإنجلترا. ففي عام 1328 مات
الملك الفرنسي شارل الرابع، وهو آخر الذكور من أبناء الملك فيليب الرابع (ت 1314)،
بحيث لم يبق على قيد الحياة من ذرية الأخير سوى ابنته إيزابيلا التي تزوجت الملك الإنجليزي
إدوارد الثاني. وظهر عندئذ اثنان ادعى كل منهما حقه في العرش الفرنسي، الأول هو
الأمير فيليب فالوا وهو ابن أخ فيليب الرابع، والثاني هو إدوارد الثالث ابن
إيزابيلا. ودعم الشعب الفرنسي حق فيليب في العرش وتم تتويجه ملكاً على فرنساً عام
1328 لقطع الطريق على مزاعم الإنجليز في العرش الفرنسي. ولم يكتف فيليب بذلك وإنما
قام عام 1337 بمصادرة دوقية غاسكوني الفرنسية التي كان يعتبرها الإنجليز من
أملاكهم في القارة، فأعلن إدوارد الثالث الحرب على فيليب في العام نفسه (1337)،
وبذلك اندلعت حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا.
وإذا
كان المجال لا يسعنا للإفاضة بتفاصيل هذه الحرب ومراحلها، إلا أنه ينبغي أن نشير
إلى أن الإنجليز حققوا انتصارات مذهلة على الفرنسيين واستولوا على أجزاء كبيرة من
بلادهم، ويهمنا أن نذكر هنا أنه بعد انتصار الإنجليز في معركة أجينكورت عام 1415،
فرضوا على الفرنسيين معاهدة تروى المشهورة (عام 1420)، والتي وقعت بين الملك
الفرنسي شارل السادس الذي كان مصاباً بمس، والملك الإنجليزي هنري الخامس، وقد
تضمنت، فيما تضمنت، أن يتزوج الأخير كاترين ابنة شارل السادس، وأن يكون ابنهما
القادم (وهو هنري السادس) وريث العرش الفرنسي، أي ملكاً على فرنسا وإنجلترا معاً،
وهذا يعني حرمان الأمير شارل السابع، وهو الابن الوحيد لشارل السادس، من حقه في
العرش الفرنسي وانتقال هذا الحق إلى ابن أخته كاترين. ومما زاد في خطورة الأزمة أن
والدة شارل السابع أباحت سراً آنذاك وهو أن الأخير ليس من صلب زوجها شارل السادس.
وشكّل هذا النبأ فضيحة بل كارثة على شارل السابع والشعب الفرنسي فضلاً عن الدوائر
الكنسية. وفي عام 1422م مات كل من شارل السادس وهنري الخامس. ووفقاً لمعاهدة تروى
غدا هنري السادس، البالغ من العمر سنة واحدة، ملكا على إنجلترا وفرنسا معاً.
في بوتقة الضياع
ونود
أن نؤكد على أنه خلال هذه الحرب، التي دامت أكثر من مائة عام، استباح الإنجليز
وحلفاؤهم الفرنسيون، أمثال البورجنديين، فرنسا وقاموا بأبشع ما يمكن أن يقوم به
المحتلون من أعمال سلب وقتل وتدمير واغتصاب، بل جاءت عصابات من كل أرجاء أوربا إلى
فرنسا للإفادة من هذه الحرب وما يرافقها من فوضى، والعمل كمرتزقة عند الفرنسيين
والإنجليز على السواء، وكانت هذه العصابات تقوم بأعمال السلب والنهب في الأرياف
والمدن، أثناء توقف القتال، لأن الدولتين المتحاربتين لا تدفعان لهم الأجور
الكافية.
أما
الحدث الثاني الذي أسهم في صياغة حياة جان دارك ووجدانها، فهو الانشقاق الأكبر،
الذي وقع في الكنيسة الغربية ما بين 1387و1417، وما ترتب عليه من نتائج بالغة
الخطورة، ولاسيما فيما يتعلق بثقة شعوب الغرب آنذاك، بالكنيسة ورجالها. فمن
المعروف أن البابوات انتقلوا من مقر إقامتهم التاريخي، وهو روما، إلى مدينة أفينون
الفرنسية، وعاشوا فيها أشبه بالأسرى لدى ملوك فرنسا، من عام 1305 إلى عام 1377م.
وعلى
الرغم من عودة البابا إلى روما عام 1378 فإنه سرعان ما انتُخب بابا آخر في مدينة
أفينون، وغدا هناك اثنان من البابوات، أحدهما يقيم في روما والآخر في أفينون، وكل
منهما يدّعي أنه البابا الشرعي وأنه القائد الوحيد للكنيسة الغربية. وعندما ولدت
جان دارك عام 1412م كان هناك ثلاثة يتنافسون على المنصب البابوي، فبالإضافة إلى
بابا روما وبابا أفينون ظهر بابا جديد في بيزا منذ عام 1409. ولم تستقر الأمور
وينتهي الانشقاق إلا في مجمع كونستانس عام 1417 بانتخاب البابا مارتن الخامس.
ويهمّنا أن نؤكد على أنه خلال هذا الانشقاق كان الملوك الإنجليز يدعمون بابا روما
في حين كان ملوك فرنسا يدعمون بابا أفينون. وقام كل من البابوين بحرمان البابا
الآخر ومن كان يقف معه من ملوك وأمراء ورجال دين. وكان الإنجليز عندما يحتلون
مدينة في فرنسا، أثناء حرب المائة عام، يقومون بعزل الأساقفة المناصرين لبابا
أفينون، ويعينون آخرين يناصرون بابا روما. وكذلك قام الفرنسيون بعزل من كان
موالياً لبابا روما والإنجليز. ويتفق الباحثون على أن الانشقاق الكنسي أدى إلى
نتائج بالغة الأهمية من الناحية الدينية، بل ربما تفوق في خطورتها ما أدت إليه
الحرب من نتائج سياسية واقتصادية وبشرية، فقد اضطربت الحياة الدينية في الغرب
اضطراباً عميقاً، وغدت شعوب الغرب لا تعرف من هو البابا الحقيقي أو الشرعي، وفقد
البابوات مكانتهم وفقدت الشعوب ثقتها بها.
ولهذا
عندما ظهرت جان دارك على مسرح الأحداث كانت فرنسا ترتعد فرائصها، وهي تطفو فوق بحر
من الرعب والدمار والقتل والاغتصاب والحرمان... إلخ، وغدت هذه الأمور جزءاً من
الحياة اليومية، وباختصار، فقد دمرت هذه المحن، على امتداد قرن من الزمن، روح
فرنسا ووجدانها، ومزّقت أرضها وشعبها، وأخذت الآمال والأحلام في الخلاص تراود كل
الفرنسيين، ولاسيما الأتقياء منهم والمخلصين لوطنهم ودينهم. ومن هذه النقطة يجب أن
نبدأ قصة جان دارك.
ولدت
جان دارك عام 1412 في قرية دومرمي الواقعة قرب حدود فرنسا مع اللورين، على الحدود
الشرقية من المملكة الفرنسية. وتألفت أسرتها من ستة أفراد هم: والدها واسمه جاك
دارك ووالدتها واسمها إيزابيلا، وولدان وابنتان، وكانت جان، التي عرفت في صغرها
باسم جانيت، هي الابنة الصغرى. ومع أن جان دارك كانت أمية، لا تعرف القراءة أو
الكتابة، إلا أنها تعلمت في بيت أهلها الخياطة وغزل الصوف، كما رعت الغنم لأسرتها
في ضواحي القرية مثلها مثل فتيات جيلها في الريف الفرنسي، ولكنها اشتهرت عنهن بما
تميّزت به من أخلاق حميدة وتقوى، وقد اعتادت منذ نعومة أظفارها بتأثير والدتها،
على الصلاة وعلى سماع قصص الأولياء والقدّيسين.
عندما
كانت جان دارك في الثالثة عشرة من عمرها (أي عام 1425) اجتاحت قريتها عصابات من
البورجنديين، حلفاء الإنجليز في الحرب الدائرة، وعانى الفلاحون العزل الكثير من
أعمال السلب والقتل والاغتصاب، بل لم تتورع تلك العصابات عن إحراق كنيسة القرية
بعد نهب محتوياتها، ويبدو أن هذه الأحداث تكررت كثيراً، حتى أن عشرات من أسر
الفلاحين، بما فيها أسرة جان دارك، اضطرت إلى النزوح إلى القرى والمدن المجاورة،
ولانبالغ إذا قلنا إن جان دارك نشأت وعقلها قد امتلأ بسير القدّيسين والأولياء
الصالحين من ناحية وبقصص الفظائع التي كان يرتكبها الإنجليز وحلفاؤهم البورجنديون
في فرنسا من ناحية أخرى. ولهذا فقد كان طبيعياً أن تترعرع هذه الفتاة وقد تشرّبت
آلام أبناء أمتها وآمالهم في الخلاص من هذه المحن.
إرادة تتحدى العواصف
يروي
المؤرخون أنه عندما بلغت جان دارك الثالثة عشرة من عمرها، أي في العام نفسه الذي
اجتاحت فيه عصابات البورجنديين قريتها، ادّعت أنها سمعت أصوات بعض القدّيسين
تبلغها أنها مكلفة مهمة التوجه إلى مدينة أورليان لتخليصها من الحصار الإنجليزي
المفروض عليها. ومن ثم عليها اصطحاب الأمير شارل السابع إلى مدينة ريمس لتتويجه
ملكاً على فرنسا لأنه الابن الحقيقي للملك شارل السادس والوريث الشرعي للعرش
الفرنسي.
والواقع
أن ظاهرة جان دارك لم تكن جديدة في ذلك العصر، لأن الأصوات والرؤى والأحلام غدت
شائعة في فرنسا آنذاك، ولاسيما بين النساء، وكانت توجه لهن تهمة ممارسة السحر
أوالشعوذة أو الجنون أو كلها مجتمعة، وهذا الأمر يفسر لنا الصعوبات التي واجهتها
جان دارك، في البداية، لإقناع من حولها بمهمتها. وعلى أي حال، فقد تعددت آراء
الباحثين، ولازالت، حول حقيقة ما ذهبت إليه جان دارك. هل هو انعكاس لأحاسيس عامة
كانت سائدة بين الفرنسيين؟ أو تعبير عمّا يدور في اللاشعور عند جان دارك؟ هل هو
إسقاط لرغبات وآمال عميقة لا يجرؤ المرء على البوح بها إلا بتلك الصيغة؟ هل هي
الحاسّة السادسة (الباراسيكولوجية)؟ هل هي... إلخ، ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا
هنا هو رصد بعض ما ترتب على ظاهرة جان دارك من نتائج.
وقابلت
جان دارك الحاكم العسكري المحلي، ملتمسة منه المساعدة للوصول إلى بلاط شارل السابع
القابع مكتئباً في قلعة بمدينة شينون. وبعد تردد استجاب لطلبها، وزوّدها بالأسلحة
والدروع وعدد من الحرّاس لمرفقتها، وفي فبراير من عام 1429م، انطلقت جان دارك في
مهمتها وهي تركب جواداً وترتدي ملابس الفرسان، وبعد أحد عشر يوماً، كان شارل
السابع في استقبالها، ويقول المؤرخون المعنيون بهذا الموضوع إن شارل أخفى نفسه بين
عشرات من رجالات بلاطه الذين احتشدوا لرؤيتها، إلا أنها نجحت في التعرّف عليه دون
كل الحضور وأمام ذهول الجميع ودهشتهم، وأخبرت جان دارك شارل السابع أنها (أداة
لتنفيذ إرادة الله) في تخليص أورليان وتتويجه لأنه الملك الشرعي لفرنسا. وعلى
الرغم من أن شارل قد دُهش واغتبط في آن واحد لما سمعه إلا أنه كان يشك فيما كانت
تقوله هذه الفتاة التي ترتدي ملابس الرجال، ولهذا بعثها برفقة عدد من كبار رجال
بلاطه إلى مدينة بواتييه لتخضع إلى فحص من قبل هيئة دينية بغية التأكد من سلامة
عقيدتها وأخلاقها، وبالفعل، قامت لجنة مؤلفة من ثمانية عشر عضواً، كان من بينهم
رئيس أساقفة ريمس، بالمهمة على أحسن وجه. وجاءت النتائج لصالح جان دارك إذ تبين أن
الفتاة في غاية التقوى والورع وأنها تؤمن إيماناً عميقاً بأن كل ما تقوله (هو
تنفيذ لمشيئة الله). وأكدت اللجنة أنها لم تجد في كل ما قالته الفتاة أي أثر
لهرطقة أو سحر أو شعوذة، ولهذا كله فهي تنصح شارل بالإصغاء لها والعبرة في
النتائج. وفي ضوء ذلك كله سمح لها شارل بقيادة جيشه لتخليص أورليان من الحصار
الإنجليزي.
قبل
أن تنطلق جان دارك إلى أورليان كان قد ذاع صيتها في أرجاء فرنسا حتى أنه لم يصل إلى
مسامع الفرنسيين فحسب، وإنما إلى مسامع الإنجليز المحتلين وحلفائهم أيضاً. وبحكم
سيكولوجية انتشار الإشاعات، وبخاصة في مثل ذلك العصر، فقد نسب إلى جان دارك أنها
تصنع الكثير من (المعجزات). ويبدو أنه في هذه الفترة أملت جان دارك رسالة موجهة
إلى المقيم الإنجليزي في فرنسا وقادته تتضمن التهديد والوعيد، وتبلغهم بأنها مكلفة
مهمة طردهم من فرنسا وتطلب منهم المغادرة بالتي هي أحسن وإلا فعليهم أن يتحملوا
مسئولية ما اقترفت أيديهم من آثام بحق بلادها وشعبها. وإذا كنا لا نعرف بالدقة ما
كان لهذه الرسالة من تأثير على الإنجليز إلا أننا على يقين من أنها أسهمت في رفع
روح الصمود والاستبسال في أوساط الفرنسيين الذين كانوا يعانون من الحصار في
أورليان.
كان
الإنجليز قد فرضوا الحصار على أورليان منذ أكتوبر عام 1428، وكان حاكمها الفرنسي
في الأسر الإنجليزي منذ معركة أجينكورت التي وقعت عام 1415. وتعد هذه المدينة
جسراً مهماً بين شمال فرنسا وجنوبها. وخلال ذلك الحصار تلقى الطرفان الإنجليز
المحاصِرون والفرنسيون المحاصَرون، تعزيزات كثيرة، ولكن كان يبدو واضحاً أن ميزان
القوى كان يميل إلى صالح الإنجليز بحيث يمكن أن تسقط المدينة أمام أي هجوم إنجليزي
قوي.
من الانتصارات إلى المزاد
بعد
عودة جان دارك من بواتييه، كما أشرنا، أمر شارل السابع بتجهيزها بكل ما تحتاج إليه
من أسلحة ودروع وأعلام، كما زوّدها بجيش قدّر بثمانية آلاف محارب، ضم خيرة قادة
فرنسا وفرسانها، واتجه هذا الجيش إلى أورليان، وفي الثامن من مايو عام 1429م نجحت
جان دارك في رفع الحصار عن أورليان وتحريرها من خطر الإنجليز، بعد أن دام حصارهم
لها تسعين يوماً. ونظر الفرنسيون، وعلى رأسهم شارل السابع ورجال بلاطه إلى تحرير
أورليان على أنه برهان على أن جان دارك قد أنجزت المهمة الأولى في برنامجها،
وبالتالي فإن تصديق وعودها غداً من الناحية النفسية تحصيل حاصل.
بعد
رفع الحصار عن أورليان كانت الخطوة التالية في مهمة جان دارك هي تتويج شارل السابع
ملكاً على فرنسا في مدينة ريمس وهو المكان الذي يتوج فيه ملوك فرنسا منذ تتويج
كلوفيس ملكاً على الفرنجة عام 496م. ولذا أخذت جان دارك تشق طريقها، على رأس
القوات الفرنسية من أورليان إلى ريمس، واشتبكت مع الإنجليز في عدد من المواقع،
وحققت انتصارات باهرة، ولعل أهمها انتصارها في معركة باتاي التي قتل فيها مالا يقل
عن ألفي جندي إنجليزي، وبهذه الانتصارات استطاعت جان أن تنظف وادي اللور من
الإنجليز والبورجنديين، ومهّدت بذلك الطريق أمام شارل السابع للوصول إلى ريمس دون
التعرّض للخطر. وفي 16يوليو عام 1429 دخلت القوات الفرنسية، وعلى رأسها شارل
السابع وجان دارك مدينة ريمس دخول الفاتحين. وفي اليوم التالي (17 يوليو) تم
الاحتفال رسمياً بكتدرائية المدينة بتتويج شارل السابع ملكاً على فرنسا وفقاً
للطقوس الكنسية التقليدية. وقد وقفت جان دارك أثناء مراسم التتويج إلى جانبه وهي
ترتدي درعها وتمسك برايتها. وبعد التتويج أعلنت الكثير من المدن الفرنسية ولاءها
له.
منذ
تتويج الملك شارل السابع ملكاً في ريمس بدأ نجم جان دارك بالأفول. وعلى الرغم من
أنها أعلنت، بعد التتويج، أن (مهمتها) قد انتهت، وأنه يتعين عليها العودة إلى
قريتها لمساعدة أهلها، إلا أنها سرعان ما غيرت موقفها وقررت مواصلة الحرب لاسترداد
باريس من الإنجليز. وربما تعرضت في هذه المرحلة إلى ضغط من رفاقها في السلاح
للبقاء في خدمة قضية تحرير فرنسا. أما شارل السابع فقد أخذ يتبع معها من الآن
فصاعداً سياسة المراوغة ولم يستثمر الحماس القومي الذي أعلت فتيله في طول البلاد
وعرضها. فقد عارض رغبتها في تحرير باريس أشد المعارضة، وقال إن العمل السياسي في
هذه المرحلة أكثر مضاء من السيف. وأنه إذا تمكن من كسب أمير بورجنديا، وغيره من
أمراء فرنسا، إلى صفه فإن الإنجليز سيخسرون الحرب. وعلى الرغم من ذلك كله، فقد
انطلقت جان دارك على رأس قوات قليلة نحو باريس التي كان الإنجليز قد حشدوا معظم
قواتهم حولها. وبعد معارك طاحنة حول الأسوار، فشلت جان دارك في فتحها وتراجعت إلى
مدينة كومبين، حيث وقعت أسيرة عند أسوارها بيد البورجنديين أثناء القتال. وعلى
الأرجح أن أسرها قد تم وفق خطة مدبّرة وليس بمحض الصدفة، وكان ذلك يوم 23 مايو عام
1430. وقد باع البورجنديون جان دارك إلى الإنجليز مقابل عشرة آلاف قطعة ذهبية.
نقلت
جان دارك وهي مقيّدة بالسلاسل إلى مدينة روان (مقاطعة نورمانديا) ،وهي المكان الذي
قرر الإنجليز محاكمتها فيه، حيث وصلتها في 24 ديسمبر من العام نفسه (1430)، أي بعد
سبعة أشهر من وقوعها في الأسر. وتجدر الإشارة إلى أن شريعة الحرب كانت في ذلك
العصر تقتضي معاملة الأسرى باحترام وتقدير إذا كان هؤلاء من طبقة النبلاء. في حين
تسمح بمعاملة الأسرى من الجنود المرتزقة والفلاحين الذين يعيشون في أراضي العدو
معاملة وحشية. ولهذا فقد لقيت جان دارك من الجنود الإنجليز معاملة يندى لها الجبين
من وحشيتها، منذ أن سلّمت لهم إلى لحظة إعدامها.
تهم ملفقة والإعدام حرقاً
وقد
أوكل الإنجليز مسألة محاكمة جان دارك إلى (محكمة التفتيش)، وهي محكمة كنسية متخصصة
بمقاضاة ومعاقبة الزنادقة، وقد ضمت المحكمة اثني عشر عضواً برئاسة الأسقف بيير
كوشون، فضلاً عن عدد من الأساقفة الإنجليز وممثل عن الحكومة الإنجليزية. وتمت
المحاكمة تحت حراسة قوات إنجليزية مسلحة. واستمرت نحو خمسة أشهر من يناير 1431 إلى
مايو من العام نفسه، وقد حاول المحققون، كما يقول المؤرخون، الإيقاع بجان دارك
لأنهم كانوا قد اتخذوا قراراً مسبقاً بناء على طلب الإنجليز بإدانتها، ولهذا كانت
جهودهم تتركز على استدراج الفتاة بالحيلة والخداع والتضليل والمكر، كما كانوا
يلوّنون أسئلتهم وأجوبتها بطريقة تخدم هدفهم وهو إدانتها.
وكانت
التهم التي وُجهت إلى جان دارك ذات طابع ديني، ومنها على سبيل المثال ممارسة
(السحر) وقد ركز الإنجليز كثيراً على هذه التهمة لأنها تبرر هزائمهم أمامها، كما
اتهمت بـ(الزندقة) لأنها كانت تصر على أن كل ما قامت به هو (بأمر الله) وقد وقف
المحققون كثيراً عند هذه التهمة وحاولوا إقناعها أن كل ما فعلته هو من وساوس
الشياطين، كما أخذ عليها أشياء كثيرة منها ارتداء ملابس الرجال وقص شعرها على منوالهم،
وأنها هاجمت باريس في أحد أيام الأعياد الدينية، وأخيراً نجح كوشون في إقناع جان
دارك بالتوقيع على وثيقة تمت صياغتها على لسانها، وتتضمن اعترافاً بكل التهم التي
وجهت إليها وإقراراً واضحاً بأنها تتبرأ من كل ما قالته وفعلته. وتجدر الإشارة إلى
أن جان دارك لم توافق على مضمون الوثيقة إلا بعد أن وعدها كوشون بإطلاق سراحها،
ولكن على الرغم من ذلك كله، فوجئت جان دارك بقرار المحكمة بإيداعها بالسجن المؤبد،
وعندئذ استجمعت شجاعتها وأعلنت في قاعة المحكمة رفضها كل ما وقّعت عليه وهاجمت
رجال المحكمة بقسوة وأعلنت أنها تتمسك بأقوالها وأفعالها السابقة ولن تتراجع عنها
أبداً. وفي ضوء ما تقدم، أصدرت المحكمة قرارها بإعدام جان حرقاً بالنار.
يميل
الكثير من الباحثين إلى أن كوشون كان المخطط البارع لإعدام جان دارك، فقد كان
سياسياً بارعاً وأداة بيد الحاكم الإنجليزي في فرنسا، وأن الإنجليز كانوا يذكّرونه
أثناء المحاكمة أن مهمته هي إعدام جان حرقاً. وعندما كان يُظهر كوشون أي تردد في
قيادة فصول المحاكمة إلى تلك النتيجة كانوا يذكّرونه بمهمته بعنف أحيانا حتى لا
ينسى.
وفي
30 مايو عام 1431 قاد الجنود الإنجليز جان دارك إلى السوق العامة وهي مكبّلة
بالسلاسل، وقد احتشدت جموع الناس على جانبي الطريق الذي سلكته تعلن غضبها وسخطها
على إعدامها. وتم ربطها إلى عمود على منصة في قلب المحرقة، ثم أضرمت النيران فيها.
وهكذا أعدمت جان دارك حرقاً وكانت عندئذ في التاسعة عشرة من عمرها.
وجّه
المؤرخون انتقادات لاذعة للملك شارل السابع لأنه تقاعس عن إنقاذ جان دارك، سواء
أثناء أسرها أو خلال محاكمتها، ولم نعثر في المراجع المعنية بهذه المسألة على
أسباب مقنعة لموقفه هذا، في الوقت الذي ازدادت فيه عواطف الفرنسيين وعقولهم تعلقاً
بها وبخاصة بعد إعدامها. فقد كان بإمكان الملك أن يفعل الكثير لإنقاذها، فقد كان
بإمكانه - مثلاً - أن يدفع للبورجنديين أموالاً كافية ويحررها من الأسر قبل أن
يبيعها هؤلاء للإنجليز. كما كان بإمكانه مبادلتها بعدد من الأسرى الإنجليز
الموجودين في سجونه، هذا فضلاً عن أنه كان بإمكانه القيام بتظاهرة عسكرية ضد بعض
المواقع التي يحتلها الإنجليز لإجبارهم على إطلاق سراحها مقابل هدنة أو اتفاقية ما،
ولكن شارل لم يفعل شيئاً من ذلك كله.
وعلى
أي حال لم يمض عام على إعدام جان دارك حتى بدأ ميزان القوى، في الحرب الدائرة،
يميل لصالح الفرنسيين. فقد عادت الوحدة إلى زعماء فرنسا ولاسيّما بين الملك وأمير
بورجنديا الذي تخلى عن تحالفه مع الإنجليز. وتمكن الفرنسيون من استرداد باريس عام
1436. وأدرك الملك شارل السابع أخيراً أنه من المعيب، بل من غير المشرّف، أن يُعزى
الفضل في تتويجه إلى فتاة حكم عليها بالزندقة والسحر، ولهذا اتخذ خطوة مهمة لصالح
جان دارك من حيث الشكل ولكنها كانت لصالحه من حيث المضمون، حيث طلب من البابا
إعادة محاكمة جان دارك. وبالفعل وافق البابا وبدأت المحكمة أعمالها عام 1455
برئاسة مندوب بابوي، وبعد أن استجوبت المحكمة نحو مائة وخمسة عشر شاهداً، كان
معظمهم متورّطاً في المحاكمة السابقة التي أدينت بها جان دارك عام 1431.
وأصدرت
المحكمة الجديدة قرارها عام 1456 بأن المحاكمة السابقة غير قانونية وبالتالي فهي
ملغاة شكلاً ومضموناً، وأن جان دارك بريئة من كل التهم التي سبق أن أدينت بها. وفي
عام 1920 أعلنت البابوية تطويب جان دارك التي غدت تعرف بـ(القديسة جان دارك).
حقيقة
لقد نظر بعـض المفـكرين المعاصرين إلى جـان دارك علـى أنهـا كانت أداة في يد
الملكية الفرنسية، فدعمها للملك شارل السابع، بهذه الصيغة، إنما هو إضفاء للطابع
المقدس على حكمه وتعزيز للاستـبداد الذي لم يكن يقلّ خطورة عن الاستبداد الكنسي
الذي كان سائداً آنذاك، فذاك يدمّر الحياة السياسية وهذا يدمّر الحياة الدينية.
والواقع
أن معظم الباحثين يؤكدون على أهمية الدور المعنوي الذي نهضت به جان دارك، ولاسيما
في أوساط المحاربين الفرنسيين. وعلى الرغم من أنها أعدمت فإن رفاقها في السلاح،
قادة وجنوداً، هم الذين ظلوا يجاهدون ضد الاحتلال الإنجليزي. كما لعبت جان دارك
دوراً مهماً في حفز (المقاومة الشعبية) ضد الغزاة، لأنها نجحت في جعل قضية فرنسا
الهمّ الأول في كل بيت فرنسي، وبالتالي فإن الروح الوطنية التي أشعلتها، سواء في
أوساط الجيش أو في أوساط الشعب، لم تنطفئ نارها بعد إعدامها، فالذين حققوا النصر
النهائي وطردوا الإنجليز من فرنسا عام 1453 هم أولئك الذين رافقوها والذين تبنّوا
القضايا الوطنية التي ذهبت ضحيتها. ومن ناحية أخرى ينظر الكثير من الباحثين إلى
جان دارك على أنها كانت تمثّل تمرّداً ضد تسلّط الكنيسة في الغرب آنذاك، وقد ظهر
ذلك واضحاً أثناء استجوابها في محكمة التفتيش. وتُعدّ جان دارك، نموذجاً للمرأة
الثائرة ضد الفساد والظلم، ومؤشراً على بعض ما يمكن أن تنهض به المرأة دفاعاً عن
قضايا وطنها.
والواقع
لقد امتزجت قصة جان دارك بوجدان الغرب وعقله منذ إعدامها، ودخلت تاريخه: قديسـة،
وبطلة قومية، ورمزاً للتضحية من أجل الحرية.
المصدر: 1
مواضيع تهم
الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
كيف تتخلّص من الملل بخطوات واضحة
كيف تطوِّر السلوك الإيجابي عندك
كيف تشغل أوقات فراغك بالأمور المفيدة
القراءة السريعة: كيف تتعلم القراءة السريعة
الكريبتوفيزيا اللغة الخفية التي يتواصل بها التوائم
كيف تصبح شخصاً هادئاً وبارداً جداً
كيف تزيد وزن الأطفال وتتغلب على نحافتهم
كيف تنجح في مقابلات الوظيفة والعمل
للمزيد
معالجة
المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون:
مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع
حول التنمية
البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل
العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين
والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق