القاعدة 30 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين
الحكمة:
عليك أن تُظهر إنجازاتك وكأنها تلقائية ووليدة موهبةٍ طبيعية، وأن تُخفي كل ما بذلتَ من الكدح والتدريب والتحايل لتحقيق ما تريد. اجعل الآخرين يرون أنك تُذَلِّل الصعاب بيُسرٍ وكأن في مقدورك أن تفعل أكثر من ذلك بكثير. قاوم إغراء أن تحكى للناس عن تعبك وتفانيك لأن ذلك يجعلهم يتشككون في مقدرتك، ولا تكشف لهم عن حِيَلِكَ وأساليبك لأن ذلك قد يُمَكِّنهم من استخدامها ضدك.
مراعاة
القاعدة:
كان
لطقوس الشاي اليابانية "شا
نو يو" (والتي تعني حرفياً إعداد الماء الساخن من أجل الشاي) جذورٌ في العصور
القديمة، ولكنها وصلت إلى ذروة إتقانها في القرن السادس عشر على يد أشهر من مارسها
وهو "صن نو ريکيو". لم يكن ريکيو سَليلَ عائلةٍ عريقة ولكنه استطاع أن
يصل إلى أعلى درجات السّطوة وأصبح مُعَلِّمَ الشاي المقرب من الإمبراطور هديوشي ومستشاره
في الأمور المالية بل وحتى السياسية. كان سِرُّ نجاح ريكيو هو أنه كان يظهر دائماً
بسيطاً وعلى طبيعته، ولم يجعل أبداً أحداً يراه وهو يجاهد أو يعاني في فعل شيء.
ذات
يوم ذهب ريكيو مع ابنه لزيارة أحد معارفه لإعداد طقوس الشاي، وأثناء دخولهم إلى
المنزل قال الابن «إن هذه البوابة توحي بالعزلة والكآبة»، فأجابه الأب: «بل يبدو
أن صاحب البيت قد أتى بها من أحد المعابد البعيدة في الجبال ولابد أن ذلك قد كلفه
الكثير». رأى ريکيو أن رجلاً يَتَكَلَّفُ هذا الجهد المفرط لإحضار بوابة سيبذل
جهداً مبالغا أيضاً في إعداد الشاي، وأَحَسَّ أنه لن يَتَحَمَّلَ ما سَيُظهره هذا
المضيف من التكلف والمعاناة، ولذلك غادر مبكراً.
في
مناسبة أخرى طلب الإمبراطور هديوشي أن يزور ريكيو في منزله للاستمتاع معاً بطقوس
الشاي، وفي الليلة التي سبقت الموعد تساقطت الثلوج. فَکَّرَ ريکيو وَوَضَعَ على
أحجار السلم الصاعد من الحديقة إلى منزله وسائد بنفس حجمها، واستيقظ قبل الفجر
ورأى أن الثلوج قد توقفت فأزال الوسائد بحرص. حين وصل هديوشي أذهله الجمال المادي
والبسيط للمكان والدوائر المتقنة الخالية من الثلج فوق أحجار السلم، ولم يرَ في
هذه اللفتة إظهاراً للمعاناة والتكلف بل الأدب والذوق.
تأثرت
طقوس إعداد الشاي كثيراً بأسلوب صن نو ريكيو حتى بعد وفاته. كان نوکو جاوا شوجن يورينوبو
ابن الإمبراطور العظيم إياسو دارساً لهذه التعاليم، وكان في حديقة منزله مشكاة من
الحجر صنعها حِرَفَيٌ شهير، وطلب منه السيد
تاداکاتسو أن يزوره ليرى المشكاة، فرحب يورينوبو، وأمر
البستانيين أن يقوموا بالترتيبات لاستقبال الزائر. لم يكن البستانيون على معرفة
بآداب صن نو ريکيو، ورأو أن المشكاة قبيحة وأن فتحاتها ضيقة ولا تناسب ذوق العصر،
فأحضروا عاملاً محليا وَسَّعَ الفتحات. قبل أيام من موعد الزيارة تَجَوَّلَ
بورينوبو ليتفقد ترتيبات الحديقة، وحين رأي الفتحات الجديدة كاد أن يغرس سيفه غضباً
في قلب الأحمق الذي شَوَّهَ جمالَ ورهافة المشكاة وأفسد سبب الزيارة.
حين
هدأ يورينوبو تَذَكَّرَ أنه كان قد اشترى مشكاةً أخرى وضعها في منزله في جزيرة
كيشو، واستطاع بتكلفة كبيرة أن يستأجر مركبَ صيدِ حيتان مع أفضل البحارة، وطلب
منهم أن يُحضروا المشكاة في أقل من يومين، وكان مطلباً على أقل التقديرات صعباً.
لكن البَحّارة واصلوا التجديف ليلاً ونهاراً، وواتتهم ريحٌ ساعدتهم على الوصول في
الموعد المحدد. فَرِحَ پورينوبو كثيراً أن يجد تلك المشكاة أروع كثيراً من الأولى،
لأنها ظلت في أيكة من الخيزران لم تمسسها يدٌ طوال عشرين عاماً، وكانت تغطيها طبقة
رقيقة من الطحالب وأعطاها ذلك مظهراً رائعاً بالقِدَم. حين وصل ساكاي في وقت لاحق
من نفس اليوم رَوَّعَهُ جمالُ المشكاة ورآها أجمل كثيراً مما تخيل، وأنها تتفق
بأناقة مرهفة مع عناصر المكان، والأهم أن عدم معرفته بالمعاناة والجهد المبذولين
منعت عنه ابتذال هذا المشهد المهيب.
التعليق:
كان
صن نو ريکيو يرى أن الرشاقة والأناقة التي تأتي طبيعياً دون تَصَنُّعٍ أو تَعَمُّدٍ
هي قمة الجمال، فهو جمال يبدو وكأنه يأتي طبيعياً دون جهد، ويفتنك دون تحضير أو
تحذير. لكن الإنسان لا يستطيع أن يصنع مثل هذا التأثير والجمال تلقائياً، وعليه أن
يبذل الكثير من الجهد لإتقانه، لكن لو إظهار الجهد المبذول يُفسد الجمال ويبتذله،
مثل البوابة التي أعلنت بوضوح عن أنها من مكان ناء بعيد.
غالباً
ما يكون عليك أن تلجأ للتحايل والبراعة لإتقان الإبداع أو المظهر الذي تريده، كأن
تأتي بالوسائد لتغطية أحجار السلم أو بالرجال الذي يجدفون طوال الليل، لكن لا تدع
الجمهور أبداً يشاهد ما تبذله من العرق والتعب. إن قَلَّدت الطبيعة بأن لا تُظهر
أبداً حِيَلك ووسائلك وتجعل أفعالك تبدو تلقائية ودون جهد تحصل على ما للطبيعة من
تأثير وسطوة في أعين الناس.
مراعاة
القاعدة 2:
كان
فَنّان فَكِّ الأقفال والهروب من الأصفاد الشهير هاري هوديني يصف أعماله بأنها
«القدرة على تحقيق المستحيل»، وبالفعل كان كل الذين يشاهدون عروضه يشعرون بأنه يَتَحَدّى
كل ما يتخيّلونه عن محدودية إمكانات البشر.
في
ليلة من عام 1904
احتشد 4000
متفرج في أحد مسارح لندن ليشاهدوا هوديني يواجه تَحَدِّياً صعباً: كان عليه أن
يهربَ من زوجٍ من أقوى ما تم ابتكاره من الأصفاد، كان لكل قَيدٍ ستة أزواج من
الأقفال، لكلٍ منها تسعُ سِکّات، قَضى أحدُ أَمهَرِ الحِرَفِيّين في برمنجهام خمس
سنوات لصنعها، وقال كلُّ من فَحَصَها أنهم لم يروا أبداً أصفاداً في مثل تعقيدها
وإتقانها، وأن من المستحيل أن يهرب منها أيُّ إنسان.
أَحكَمَ
الخُبراءُ إغلاقَ الأصفاد على رُسغي هوديني أمام الجمهور، وأدخلوا الفنان في خزانةٍ
سوداء فوق المسرح. مَرَّت الدقائقُ وكان كلما طال الوقت يتأكد الجمهور أن هذه
الإصفاد ستكون أول ما يهزم هوديني، خاصة أنه خرج بعدها يطلب أن يَحلّوا عنه
الأصفاد حتى يتمكن من خلع معطفه لأن الجَوّ حارّ للغاية داخل الخزانة. رفض
القائمون على التحدي ظناً منهم أن هوديني يتحايل لمعرفة الطريقة التي تعمل بها
الأقفال، لكن ذلك لم يُحبطه، ودون أن يستخدم يديه رفع المعطف إلى كتفيه وقلبه إلى
الخارج وأخرج مطواة من جيب قميصه الداخلي واستطاع بتحريك رأسه وأسنانه أن يقطع
المعطف عن ذراعيه ويتحرر منه ويعود إلى الخزانة وسط تصفيق وصيحات الجمهور المنبهر
ببراعة هوديني ورشاقته.
أخيراً
وبعد أن انتظر الجمهور وقتاً كافياً، خرج هوديني من الصندوق ولكن هذه المرة كانت يداه حرتين يرفع بها الأصفاد
علامة على الانتصار.
لم
يعرف أحدٌ إلى يومنا هذا كيف استطاع هوديني تحقيق ذلك، وعلى الرغم من أنه لم يحرر
نفسه إلا بعد ساعة كاملة إلا أنه لم يظهر عليه أبداً التردّد أو القلق، وأحسَّ
الجمهور أنه كان يؤجل خروجه ليؤجج فيهم التشويق والترقب، لأنهم لم يروا في أدائه
أي معاناة أو صعوبة، أَحَسّوا أَنَّ كل ما كان يفعله من الشكوى من الحر والانتظار
كان تمثيلاً، وأنه كان يتلاعب بهم طوال الوقت، وكأنه يقول لهم ما هذا التحدي؟ أنا
استطيع أن أُحَرِّرَ نفسي بسهولة من قيودٍ أَصعبٍ وفي وقت أقلّ إن أردتُ.
في
سنوات عَمَلِه استطاعَ هوديني أن يهربَ من جٌثَّةٍ مُحَنَّطَةٍ ومُقَيَّدَةٍ
بالسلاسل لِوَحشِ البحرِ الذي خَرَجَ على شواطئ بوسطون، وكان يُشبه مزيجاً من
الحوت والأخطبوط. مرة أخرى أغلقوا عليه داخلَ ظرفِ خطابٍ عملاق، فأخرجَ نفسه دون
أن يُمَزِّقَ الورق. واستطاع أن يمر من خلال جدارٍ من الطُّوب، وحَرَّرَ نفسَه من
قميصِ الأكتافِ وهو مُعَلَّقٌ بحبلٍ ويَتَدَلّى عاليا في الهواء، وقَفَزَ من جسرٍ
إلى مياهٍ ثَلجِيَّةٍ وهو مُقَيَّدُ اليدين والقدمين.
وجعلهم
مرةً يغمرونه وهو مُقَيَّدٌ داخل أحواضٍ من الزجاج مليئة بالمياه، وكان الجمهور
يراقبه وهو يخرج بعد ساعة دون أن يُتاحَ له الهواءُ للتنفس طوال هذا الوقت. في كل
مرة كان يواجه ما يبدو موتاً محققاً، ولكنه كان ينجو دائماً بثقةٍ وثباتٍ أعلى مما
يعرفه الجميع عن قدرات البشر. وفي كل ذلك لم يقل هوديني شيئاً لأحد عن وسائله ولا
كيف يُنَفِّذُ حِيَلَهُ، بل كان يترك للجمهور والمُعلقين أن يَتَفَكّروا ويُخَمِّنوا،
وكان جهدهم وفشلهم في فهم ما يفعله يزيد من شهرته وسطوته.
ولعل
كان أصعب إنجازاته على التفسير أنه استطاع أن يُخفي فيلاً وزنه عشرة آلاف رطل أمام
أعين الجمهور، وهو إنجازٌ ظَلَّ يكرره يومياً لمدة تسعة عشر أسبوعاً في قاعةٍ لا
يوجد بها أيُّ مكانٍ يكفي لإخفاء فيل.
هروب
هوديني السَّلِس والواثق جَعَلَ البعض يظنون أنه يُسَخِّرُ قوىً غَيبِيَّةً، وأن
لديه قدرات روحانية تجعله يتحكّم بشكل خارق في جسده، لكن فنان هروب ألماني هو
كليبيني ادعى أنه يعرف سر هوديني، وقال أنه ببساطة يستخدم آلات متقنة، وادّعى أيضاً
أنه هزم هوديني ذات مرة في تحدي أصفادٍ بهولندا.
لم
يكن هوديني يُعَلِّقُ على أيّ تفسيراتٍ لِطُرُقِهِ في الحرب، ولكنه لم يكن لِيَحتَمِل
مثل هذا الكذب الصفيق، ولذلك دعا کليبيني في عام 1902
لمباراة هروب من الأصفاد ووافق کليبيني. عرف کليبيني من خلال جاسوس کلمة سِرّ فَتْحِ
الأصفاد الفرنسية التي تعمل بالأقفال المُشَفَّرَة، والتي كان هوديني يحب أن
يستخدمها، وكانت خطته أن يختار هذه القيود للتحدي، ورأى أنه سوف يفضح هوديني لأنه
سوف يثبت أن «عبقريته» ليست أكثر من مجرد استخدام الآلات مُتقَنَة.
أَتَت
الأمور من البداية کما توقع کليبيني، فقد ترك له هوديني حق اختيار القيود
المستخدمة، فاختار الأصفاد الفرنسية المُشَفَّرة، بل أُتيحَ له أن يَتَخَفَّى وراءَ
سِتارٍ لِيَختَبِرَ الأقفال بسرعة، وعاد وهو واثق من النصر.
تَصَرَّفَ
هوديني کشخصٍ يرتابُ من أن الآخر يخدعه، ورفض أن يُغلق الأصفاد على كليبيني، بل وتَصاعد
النزاعُ بين الرجلين إلى شِجارٍ بالأيدي، وأخذ كلٌ منهما بِلَكم الآخر، وفي
النهاية استسلم هوديني، وأغلق وهو يبدي الغضب الأصفاد على رسغي كليبيني، بعدها حدث
شيء غريب، فمنذ دقائق كانت الأغلال تُفتَحُ بسهولة خلفَ السِّتار، لكنها الآن لم تَعُد
تعمل باستخدام نفس كلمة السر، وبدأ كليبيني يَتَعَرَّقُ ويُجهد ذهنه، ومَرَّت
الساعات، وغادر الجمهور، وفي النهاية استسلم كليبيني يائساً ومُهاناً، وطلب من
هوديني أن يفكَّ قيوده.
كانت
الأصفاد تعمل حين فَكَّها كليبيني خَلفَ السِّتارِ بكلمة
(CLEFS) أي «مفاتيح» بالفرنسية، ولكن
على المسرح لم تَعُد تعمل إلا بكلمة
(FRAUD) أي
«احتيال» بالإنجليزية، ولم يستطع کليبيني أبداً أن يعرف كيف أو متى استطاع هوديني
أن يحقق هذا الإنجاز الخارق.
التعليق:
بالرغم
من أن أحداً لم يعرف على وجه اليقين كيف كان هوديني يُحَقِّق هروباته المُتقنة،
إلا أن المؤكد هو أنه لم يكن السحر ولا الغيبيات هي التي تمنحه هذه السطوة، بل
العمل الشاق والتدريب المستمر، وهو ما لم يكن الناس يرونها منه أبداً. لم يكن هوديني يترك شيئاً للصدفة، بل كان
يدرس تصميم الأقفال ليلاً ونهاراً ويبحث عن حِيَلِ خِفّةٍ اليد القديمة والحديثة،
ويراجع كتب الميكانيكا عن الأدوات التي يمكنه أن يستعملها، وحين لم يكن يدرس كان
يدرب جسده ليجعله ليِّناً بشكلٍ خارق، فكان يتعلم كيف يتحكم بعضلاته ويضبط تنفسه.
في
فترة مبكرة من حياته تَعَلَّمَ هوديني من عارض ياباني كان يتجول معه إحدى الحِيَل
القديمة، وهي كيف يبتلع كرة من الزجاج ويجترها من معدته، وأخذ هوديني يتدرب على
هذه الحيلة بلا كَلَلٍ باستخدام قطعةٍ من البطاطس المقشرة، مربوطة بخيطٍ، وأخذ يُدَرِّبُ
عضلاته على جعلها تتحرك إلى أعلى أو إلى أسفل حسب إرادته وبعدها استطاع أن يحركها
دون استخدام الخيط. قبل العروض والتحديات كان المنظمون يفتشون هوديني بدقة ولكن
أحداً لم يبحث داخل بلعومه ليرى الأدوات الصغيرة التي تساعده في الخِفّة والحيلة،
وحتى مع هذا كان تفسير كليبيني خاطئاً، لأنه لم تكن الأدوات بل التدريب الشاق
والجهد هما الأساس الذي كان يمكن هوديني من النجاح في حِيَلِهِ..
كان
هوديني أذکي کثيراً من کليبيني، واستطاع أن يخطط بدقة للمشهد، فاستدرج كليبيني أن
يختار الأصفاد على المسرح وأثناء الصراع بينهما استطاع أن يغير الشفرة إلى (FRAUD)، والمؤكد
أنه ظل يتدرب على هذه الحيلة الأسابيع، لكن الجمهور لم يرَ أي شيء من العرق والجهد،
بل رأي هوديني ثابتاً وواثقاً، بينما كان كل من حوله متوترين. كان هوديني يتعمد
دائماً أن يُطيل وقت حِيَلِهِ ليزيد التشويق والتململ، وكانت الرشاقة والسهولة
التي ينجو بها دائماً من الموت تجعله يبدو خارقاً وأسطورياً.
إن
كنت تريد السطوة عليك أن لا تتوقف عن التدريب قبل أن تَظهر أمام جمهورك سواء
على المسرح أو على ساحات الحياة، ولا تُظهر لهم أبداً الجهدَ الذي أكسبك رشاقة
إنجازاتك. يظن البعض إن عرضهم لجهدهم يثبت اجتهادهم وتفانيهم، ولكن الحقيقة أن ذلك
يظهرهم ضعفاء، وأن أي شخصٍ بالجهد والتدريب يستطيع أن يحقق ما حققوه، أو أن
الوظيفة المكلفين بها تتجاوز قدراتهم وتُنهكهم. إن احتفظتَ بوسائلك وجهودك لنفسك
تبدو للآخرين خارقاً ورشيقاً كالطبيعة التي لا يرى أحدٌ أسرار سطوتها ولا يرون
منها إلا جمالها وروعتها.
بيتٌ
واحد من الشِّعر يحتاج لساعات من الجهد، ولكن إن لم يبدُ للسامع كخاطرة عفوية تضيع
كل هذه الجهود من النظم والمحو (لعنة آدم، وليام بتلر ييتس، 1895
– 1939)
مفاتيحُ
للسَّطوَة:
أَتَتْ
فكرةُ الناس عن السَّطوَة في أول الأمر من ملاحظاتهم البدائية للطبيعة، كانوا يرون
الصواعق والبرق في السماء، والفيضانات المفاجئة، وشراسة الحيوانات المفترسة على
الأرض، وهي جميعاً قِوىً تأتي دون تدبير أو تفكير، وتُبهرنا بظهورها المفاجئ
وتلقائيتها وسطوتها على الحياة والموت. تلك هي السطوة التي لا يزال علينا أن نُقلِّدها.
صحيحٌ أن العِلمَ مَكَّنَنَا من الإنجاز بسرعة وكفاءة تُحاكي الطبيعة، ولكن يظل
ينقصنا شيء؛ ذلك أن آلاتنا صاخبة ومزعجة، وتُظهر ما تبذله من جهد، وحتى أفضل
ابتكارات التقنية لا تثير فينا التَّأَثُّرَ والإعجاب كالأشياء الطبيعية التي
تتحرك برشاقة وجمال. وتعود قدرةُ الأطفال على إثارة مشاعرنا وتسخير إراداتنا
لصالحهم من قدرتهم على إغوائنا بعفويتهم وفِعل ما يريدون دون تفكير، وبالطبع لن
نستطيع أن نعود أطفالاً من جديد، لكن إن أظهرنا العفويةَ وتَصَرَّفنا وكأننا لم
نفكر أو نُجهِد أنفسنا فيما نفعل، يشعر الآخرون معنا بذلك الإحساس البدائي بالروعة
والتأثر الذي تستثيره الطبيعة في البشر.
أَولُّ
الأوروبيين الذي كتبوا عن هذا المبدأ أتى من وسطٍ هو الأبعد عن الطبيعة والعفوية،
وهو البلاط الملكي في عصر النهضة: ففي عمله المنشور عام 1028
کتاب لمجتمع الصَّفوَة وَصَفَ "بالتسار کاستليوني" التَّأَنُّق الشديد
والأساليب المُقَنَّنَة التي كان على أعضاء مجتمع الصفوة الالتزام بها، لكنه أضاف
أن عليهم أن يُنَفِّذوا هذه التصرفات بطريقة أَطلق عليها العفوية، أي جعل الصعبَ
يبدو سهلاً ويسيراً، ويؤكِّد على أن يُدَرِّبَ أبناءُ مجتمع الصفوة أنفسَهم على «التصرف
في كل أمور الحياة بثبات وتَرَفُّع وإخفاء التَّصَنُّع وجَعلِ كل ما يفعلونه يبدو
عفوياً ودون جهد». تُعجبنا جميعاً الإنجازات والانتصارات، ولكن إعجابنا بها يزدادُ
عشر مراتٍ إن تم تحقيقها بالموهبة والعفوية «لكن... إن رأينا شخصاً يكافحُ ويجهد
فيما يفعله... وينهکه إنجاز ما يريد، نشعر أنه غير كفء، ويجعل ذلك كل ما يفعله
مهما كان كبيراً يبدو لنا مُحتقراً وضئيلا».
تأتي
معظمُ فكرتِنا عن العفوية من عالم الفن، فكان جميع الرسامين العظام في عصر النهضة
يُغطّون أعمالهم ولا يُظهرونها للناس إلا بعد أن تَتَّخِذَ صورتها النهائية، وكان
مايكل أنجلو يمنع حتى البابا من رؤيةِ لوحاته قبل أن تكتمل. كان هؤلاء الفنانون يُغلقون
مراسمهم في وجه رُعاتهم وجمهورهم حين كانوا ينشغلون بأعمالٍ جديدة، ليس خوفاً من
التقليد، ولكن لأن رؤية الأعمال أثناء تَشَكُّلِها يُفقدها السِّحرَ والجمال
الطبيعي المُرادَيْنِ لها.
كان
فَنّانُ النهضةِ فاساري أول ناقدٍ فنّي، وقد سَخِرَ من لوحةٍ لباولو أوتشيلو لأنه
تَكَلَّفَ كثيراً في صناعةِ المنظورِ لدرجةٍ جعلت اللوحةَ تبدو قبيحةً ومُصطنعةً،
ونشعرُ نحن أيضاً بمثل هذا الشعور حين نرى ممثلاً مسرحياً يُجهِدُ ويَتَكَلَّفُ لِأَداءِ
دورَه. هذا التَّكَلُّفُ يَکسِرُ التَّوَهُّمَ ويجعلُنا نلحظُ الأداءَ ونَفصِلُ
بين الممثلِ والدور الذي يقوم به، وعلى عكس ذلك نشعر بالراحة والاستغراق مع
الممثلين المبدعين ونَتَوَهَّمُ أنّ الدَّورَ الذي يقومون به هو طبيعتهم، على
الرغم من أن عملهم يتطلّبُ منهم الكثير من التركيز والجهد.
العفويةُ
مُفيدةٌ لكل أشكالِ السَّطوَة، ذلك لأنّ السَّطوَةَ تعتمد على المظاهر وعلى ما
توهم به الآخرين، والأعمال الجماهيرية تشبه الأعمال الفنية: فيجب أن تفتنَ الأبصارَ وتَستَثير
الخيالَ والأحلام، بل يجب حتى أن تكون ممتعةً، وحين تُظهِر
جهودَك تَبتَذِل صورتَك وتبدو فانياً كالآخرين، لأن ما
نفهمُه لا يُرَوِّعنا بل يجعلنا نقول لأنفسنا أنه يمكننا أن نفعل مثل ذلك لو توفر
لنا المال أو الوقت. تَجَنَّب إغواء أن تُظهِرَ للآخرين مهاراتك، فالمهارة الحقيقية
هي أن تُخفي أسرارَ مهارتك.
أَدّى
استخدام تاليران لهذا المفهوم في كل تفاصيل حياته اليومية إلى أن تَتَكَوَّنَ حوله
هالةٌ ضخمة من السَّطوة والحضور. لم يبالغ تاليران أبداً في إجهاد نفسه لإنجاز
شيء؛ بل كان يجعل الآخرين يقومون عنه بما يريدُ من التَّجَسُّس والبحث والتحليل
المفصل للأحداث، وقد جعله ادخاره لجهوده يظهر وكأنه لا يصعب عليه فعل شيء، وكان
حين يخبره جواسيسه باقتراب حدوث شيء ما، كان يذكره أثناء الأحاديث الاجتماعية
وكأنه يتوقع حدوثه، وجعل ذلك الناس يظنون أن لديه القدرة على استبصار المستقبل.
كانت تعليقاته البليغة والطريفة والتي كانت دائماً تُلَخِّصُ المواقف بدقة، تبدو
وليدةَ اللحظة، لكن الحقيقة أنها كانت قائمة على الكثير من البحث والتأمل. كان
تاليران يبدو لكل من في الحكومة ومن بينهم نابليون نفسه رجلاً ذا سطوة واقتدار،
وكان أساس هذا الانطباع أنه لم يُظهر أبداً المعاناة في إنجاز أعماله الكبرى.
هناك
سببٌ آخر يجعلك تُخفي وسائلك وحِيَلَكَ: ذلك أن معرفةَ الناس بها قد يُمَكِّنهم من
استخدامها ضدّك، وتكسر حاجز الكتمان الذي كان يعطيك أفضليةً عليهم. نُحِبُّ جميعاً
أن نحكي للآخرين عن ما حققناه، ويُرضي غرورَنا إعجابُهم باجتهادنا ومهارتنا، بل ونَرغبُ
في اعترافهم وتعاطفهم مع ساعات العمل الشّاق التي بذلناها لتحقيق أعمالنا، لكن
عليك أن تقاومَ هذا الإغراءَ لأنه يأتي لك غالباً بعكس ما تريد. وتَذَكَّر دائماً
أنه كلما زادَ الغموضُ الذي تحيط به أعمالَك، تزدادُ روعتُها وتأثيرها، ويجعل
الناس يظنون أنك الوحيد الذي يستطيع فعل ما تفعل. اعتقاد الناس بأن لك موهبةً لا
يملكها أحدٌ يمنحُك سطوةً هائلة. وأخيراً فإنّ إظهارَك للآخرين أنك تُنجِزُ أعمالَك
بسهولةٍ وعفوية يجعلهم يحسبون أنه يمكنك أن تُحَقِّقَ المزيدَ إن بذلتَ جهداً
أكبر، وهذا لا يثير فيهم الإعجاب فحسب، بل الرهبة، لأنه لا أحد يعرف أقصى ما
تستطيع تحقيقه.
الصورة:
حصان السباق
عن
قُربٍ ترى تَوَتُّرَ جسدِه وتَسارع أنفاسَه والجهد الذي بذله الفارس للتحكم به،
لكن من بعيد لا ترى منه إلا رشاقته في اختراق الريح ومروره كالسهم. اجعل الناس على
مسافة منك حتى لا يروا فيك إلا رشاقتك
وسهولة حركاتك.
اقتباس
من معلم: أَيُّ فعلٍ مهما كانت تفاهته إن أَدَّيتَه
بثباتٍ ورباطةِ جَأشٍ يُظهر قدراتك ليس على حقيقتها ولكن أكثر بكثير، لأن ذلك يجعل
الناظر يظن أن من يُتقن ما يفعله بتلك السهولة تكون مهاراته أكبر بكثير مما يتطلبه
الموقف. (بالتسار کاستليوني، 1478
- 1529) .
عکس
القاعدة:
احرص
دائماً على عدم المبالغة في الطريقة التي تُخفي بها جهودك، لأن ذلك يجعل الآخرين
يستاءون منك ويظنون أنك مُصاب بالارتياب المرضي: لأنك تأخذ الأمور بجدية هزلية، كن
مثل هوديني في إخفائه لأسرار أعماله، ولا تبالغ فتصبح مثل الرسام بونتور مو الذي
قضى السنوات الأخيرة من عمره يبالغ في إخفاء جداريته عن أعين الجمهور مبالغة وصلت
إلى حد الجنون، ولذلك عليك أن تحافظ دائماً على القدرة على السخرية من نفسك.
هناك
أيضاً بعض الأوقات التي يفيدك فيها إظهار الجهد الذي بذلته لإنجاز أعمالك، ويعتمد
ذلك على طبيعة الجمهور والعصر الذي تعيش فيه. كان ب. ت. بارنوم يعرف أن جمهوره يجب
أن يشارك في عروضه، ويسعدهم أن يكتشفوا الحيل التي يمارسها، ذلك أن الناس في عصره
كانوا يَتَشَوَّقون لِفَضح كل من يخفي مصادر سطوته وقدراته، وكانوا يعتبرون هؤلاء
الأشخاص أعداءً لروح الديمقراطية، في حين كانوا يُقَدِّرون روح الدعابة والصراحة
لدى العارض. الحقيقة أن بارنوم وَصَلَ بهذا الأسلوب إلى أقصاه، حين فَضَحَ بنفسه
في مذكراته المشهورة التي نشرها وهو في ذروة نجاحه ما قام به من دَجَلٍ وخِداع.
حين
يكون البوح الجرئ لِحِيَلك وأساليبك مُخَطَّطاً له بدقة، وليس بدافعٍ من الرغبة
الجامحة في الثرثرة والحكي، يُصبح من المهارات الكبرى التي يمكنك الاستفادة منها،
لأنه يجعل الجمهور يَتَوَهَّم أنه يُشارك بأفعالك، وَيَتَحَكَّم بها حتى وإن كان
معظم ما تفعله يظل خافياً عليهم.
المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق