ما العوائق التي تحول دون وصول الأدب القومي إلى حضوره
الفاعل في الوجود وتمنعه من أن يؤدي أدواره في استنهاض روح الاستقلال في الأمة
وتأكيد عناصر وحدتها الدافعة إلى التقدم؟ لقد لاحظ محمد حسين هيكل (1888 ـ 1956)
ندرة وضآلة ما يستحق من الأدب صفة القومي في العشرينيات من هذا القرن.
وأن الأدب القومي بمعناه الذي قصد إليه لم يصل بعد إلى
مرتبة الحضور التي تؤثر في الوجود, والتي تدفع أبناء الأمة إلى كامل الوعي بها
وزيادة الانتماء إليها. وكان من الطبيعي أن يتوقف إزاء الأسباب التي رأى فيها
مايعوق تجسد الأدب القومي في أكمل حالاته.
وأولى
هذه العقبات مايرتبط بالتقليد وحبس النفس على ماسبق إليه الغير فيما يقول هيكل.
يعني بذلك اللازمة الأولى من لوازم التبعية والوجه الأول من أوجه الاتباع في الوقت
نفسه, فالتقليد قيد مزدوج فيما يؤدي إليه من القضاء على روح الاستقلال في الأمة,
وروح التحرر في الفرد, وشيوع عادات النقل التي تدفع بالفرد والأمة إلى محاكاة
ماكان في الماضي من منظور علاقة اللاحق بالسابق, أو محاكاة ماهو كائن في الحاضر
عند هذه الأمة المتقدمة أو تلك من منظور علاقة التابع بالمتبوع. وسواء كانت عدوى
التقليد متجهة إلى الماضي أو إلى الحاضر فهي هي من حيث ماتدل عليه, سواء على مستوى
علاقة الفرد بالفرد, أو الفرد بالدولة, أو الدولة بغيرها من الدول, من منظور
الماضي أو منظور الحاضر. فالتقليد تغييب لقدرات الإبداع الذاتي وفقدان للثقة
بالنفس على مستوى الإفراد أو الجمع, ومن ثم استلاب للإحساس بالحضور, وإشاعة لأخلاق
التواكل والتبعية, وإلغاء لمعنى التمرد وضرورة السؤال, وتأكيد للإذعان الخانع إلى
القمع المفروض على المواطن والوطن تحت مسميات عديدة وشعارات متباينة.
ولا
أدب قوميا مع التقليد, لأن حواس المقلد ومشاعره لاتستجيب إلى ماحولها, هنا, والآن,
ووعيه المستلب يستبدل الرواية بالدراية. والسماع بالمعاينة. فلا يلمح الحاضر إلا
ببعض أعين الماضي, ولايرى من طبيعة وطنه إلا ماتسمح به العدسات المستعارة من
الغير. ولايقرأ من تاريخه الممتد إلا ماورث نقلا واتباعا. ولذلك فإن علمه النقلي
الوجه الآخر من وعيه المستلب, في تجاوب الاتباع والتبعية, وفي غلبة لوازمهما على
نقائضهما, في الصراع غير المتكافىء الذي يؤدي إلى شيوع الاسترابة في الجديد الذي
يختزله منطق التقليد في صفة البدعة المقترنة بالضلال. وشيوع العداء للمغايرة
والاختلاف اللذين يردهما المنطق نفسه إلى الضلالة المفضية إلى النار. وإذا كانت
نتيجة هذا المنطق هي التلازم بين البعد الفكري والبعد السياسي, في تجاوب علاقات
الاتباع والتبعية التي ترد الاجتماعي على الثقافي, فإن التجاوب نفسه يكتمل بصياغات
نظرية تقوم, بدورها, على تأويلات اعتقادية, تخايل بسلامة منطق التقليد وضرورة الاتباع
الأزلي له, ضمانا للسعادة في الدارين.
طلاب الرجوع إلى الماضي
هذا
المنطق هو ماكان في ذهن هيكل عندما كتب, في مذكرات شبابه الباريسي, مؤكداً أن أهم
ماينقصنا ـ نحن المصريين في مصر ـ هو الشعور بوجوب التجديد الذي نفتقده في كل
مسألة من المسائل وعند كل طبقة من طبقات المجتمع. ولذلك لانرى في بلدنا سوى طالب
للرجوع إلى الماضي واتخاذ المثل الأعلى من العصور القديمة, يجاهد قدر المستطاع
للتوفيق بين رغبته هذه وما يسميه هو مصلحة البلد. ويضيف هيكل أن ذلك الروح الرجعي
يسري في نفوس طبقات الأمة المختلفة, يجهر به أبناؤها على رءوس الأشهاد. وينادون في
الوقت عينه بأنهم يرجون التقدم إلى الأمام. وفي ذلك دليل على أن ذلك الروح الرجعي
يعبث بكل موجود من الموجودات, سواء في العائلة أو الحكومة أو الفرد ذاته. كما يعبث
بالتعليم والتجارة والصناعة والزراعة, ويعبث بالأجسام كما يعبث بالعقول والأرواح,
لايقف عند حد رغم أنف أحسن المفكرين والكتاب المعتبرين عندنا, أولئك الذين إن
دفعهم تفكيرهم وأظهروا للناس جديدا انهال عليهم الآخرون, وما أسرع ما ينسحب
المفكرون والكتاب عندئذ, نتيجة ذلك الهجوم, متخلين عن الجديد الذي نادوا به أو
دعوا إليه.
وقد
خط هيكل كلماته السابقة بمذكراته في الثاني عشر من يناير سنة 1910, وظل يخط مثلها
كلما مضت به الممارسة, وكلما ازداد اصطداما بالعوائق التي تحول دون ازدهار الأدب
القومي الذي دعا إليه, وكلما ازداد اصطداما بالروح الرجعي الذي ينطوي عليه منطق
التقليد, والذي يظهر أول مايظهر في استخدام اللغة, ذلك الاستخدام النقلي الذي
لايراعي روح العصر. ولا يستجيب إلى تغير الزمن, في حرصه على الاتباع الذي يغترب
باللغة عن الزمن والوسط الطبيعي الاجتماعي في الوقت نفسه. ولذلك يضيف هيكل إلى
ماكتبه في اليوم نفسه أن مسألة اللغة هي المسألة التي تظهر ـ إلى جانب مسألة
المرأة ـ سطوة الأفكار الرجعية في المجتمع,. وذلك ظاهر فيما يلح عليه الرجعيون من
ضرورة بقاء قواعد النحو والصرف على ماوضعها أبو الأسود الدؤلي منذ ثلاثة عشر قرنا
مضت فيما يؤكد هيكل الذي يصف بالرجعية محاولات الذين يريدون الحفاظ على صيغ اللغة
كما كانت في العصور القديمة, وإبقاء القواميس اللغوية مقصورة على ماكانت عليه في
العهد الأول, كأنهم ماعلموا أن اللغة نفثة من روح الأمة تظهر فيها أفكارها
وإحساساتها, فهي لباس من ملابسها يضيق ويتسع بمقدار ضيق أو اتساع حاجيات الأمة
وكمالياتها. ويعلم الله أنه لولا أن الكلمات تدخل إلى اللغة رغم أنف هؤلاء
الرجعيين فيما يقول, وتندمج فيها لمطلق حاجة الناس إليها, لكنا أشد فقرا مما نحن
اليوم. ولو أن عندنا روحا كريما يحس بحقيقة حاجاتنا لكانت هذه الكلمات الجديدة
التي تجيء بها من لغات أخرى, أو التي نشتقها من لغتنا, أضعاف ماهي عليه اليوم.
والاهتمام
باللغة على هذا النحو اهتمام بالأداة التي يتجسد بها روح الأمة والتي هي من نفثات
ذلك الروح في نهاية المطاف. ولذلك فالاهتمام بها اهتمام بالأدب القومي ممثلا في
أداته التي تنطق الخصوصية التي يتجسد بها, فاللغة حامل الرؤية القومية على مستوى الإفراد
والجمع, في علاقات بنائها الذي يعبر عن خصوصية هذه الرؤية. وهي الوسيلة الأساسية
في صياغة هذه الرؤية, بالمعنى الذي يجاوز الحامل إلى المحمول, ويتدخل في تشكيل
الوعي الذاتي بالحضور المتميز للأمة في زمن بعينه, يتعامل على وسط طبيعي واجتماعي
دون غيره. هكذا تنقل اللغة خصوصية الرؤية التي ينطوي عليها الأدب القومي, وتتجسد
بهذه الخصوصية بالقدر الذي تسهم في تجسيدها, داخل آليات فعل التعبير الذي يشير إلى
فاعله الفردي والجمعي بالقدر الذي يشير إلى أداته التي تسهم في توجيه الفعل وتحديد
مساره.
تغييب الإحساس بالحاضر
وإذا
كانت اللغة "القديمة" هي الناتج اللغوي لآليات التقليد التي لاترى من
زمنها الخاص ما ينتسب إليه وحده دون سواه, فتغترب عن زمن إنتاجها وعن الواقع
الفعلي الحي للمتكلمين بها, فإن هذه اللغة "القديمة" تتحول إلى عائق
يحول بين الناس وزمنهم الذي تغترب به عنهم, وتغترب بهم عنه, فلا تتيح لهم من
إمكانات الرؤية والشعور والإدراك إلا مايبقي عليهم في حظيرة الاتباع التي هي الوجه
الآخر من التبعية. والفارق بين الإدراك الجمالي والإدراك العقلي فارق طفيف من هذه
الزاوية التي تعطف المبدع على المفكر, وترد تأصيل المفهوم على ممارسة الإبداع, في
المنطقة التي تغدو بها اللغة فاعلة بقدر ماهي منفعلة, وتتشكل بوعي الناطقين بها في
الوقت الذي تسهم في تشكيل وعيهم بالعالم من حولهم. والنتيجة هي أن لغة التقليد
لاتكتفي بمهمة حامل التقليد فحسب, وإنما تتحول إلى فاعل له في الوعي الذي يستجيب
إليها. والعين التي تبصر بها, والشعور الذي يعبر عن نفسه بواسطتها.
والمظهر
الأدبي لذلك كله, في الدائرة التي تخص تأسيس مفهوم الأدب القومي من منظور عوائقه,
هو تغييب الإحساس بالحاضر الذي يحدث هنا والآن, وتزييف الشعور الجمالي للمبدع في
استجابته إلى الطبيعة في وطنه, وأخيرا الاغتراب بالتاريخ عن الحاضر الذي يتطلع
إليه, والذي يعيد تأويل عناصره لحساب زمن الفعل الإنساني المتحرك صوب المستقبل,
وليس زمن الذاكرة الاتباعية المتحركة دائما إلى الوراء.
ويؤكد
هيكل, في مواجهة هذه النتائج السلبية الملازمة لتقليدية اللغة, أهمية أن ترتبط
اللغة بالحياة المتجددة والتجربةالحية للفرد والأمة, وذلك في سياق يرد الأدب
القومي إلى لغته, في معنى البدء من التجربة التي تعطف الفرد على الجماعة في الشعور
بخصوصية اللحظة, فلاحياة ولابقاء لأي شعر أو أدب أو فن لا يصدر عن شعور صادق يتجلى
في لغة التجربة الحية. وحياة الأدب كخلوده قرينة هذه التجربة التي تصل الأدب باللحظة
الزمنية التي تعطف البيئة على معنى الوطن.
ويعني
ذلك أن الأدب القومي بقدر ما هو تجسيد للغة الحية وتجسد بها, في مدى الفعل والحركة
والغاية. فإنه نقيض الأدب التقليدي, ونقيض الاتباع والتبعية, فهو الأدب الذي
لايستمد من حفير الكتب, ولا يتأسس بعيون القدماء, بل بحيوية التجربة اللغوية
المنغمسة في الحاضر, وبعيون المبدع التي تحدق أكثر من غيرها, وتطيل التحديق لتكشف
وتزيح حجب الألفة والعادة والتقليد والاتباع عن ظواهر الحاضر الذي ينطوي على قيم
الخير والحق والجمال في تعينها الخاص.
ويعني
ارتباط الأدب القومي بمعنى التجربة الحية على هذا النحو ارتباطه بمبدأ التجدد
الدائم, ذلك لأنه من الخطأ الزعم بأنه لاجديد تحت الشمس فيما يقول هيكل, أو أننا
لانقول إلا معاداً أو معاراً, لأن كل ماتحت الشمس جديد لأنه دائم التجدد, وكل ما
نقوله لامعنى له أو قيمة إذا كان مكروراً أو معاداً أو معاراً, فالفعل الإبداعي
كالشمس التي تتجدد مطلع كل نهار ومغيبه. وكل إنسان جديد بأفعاله التي يؤكد بها
حضوره المتجدد, وهو كل يوم متجدد في علاقته الفاعلة بالوجود. والوجود نفسه متجدد
لأنه قائم على مبدأ الصيرورة والتحول والتغير, وكلما ازداد الإنسان بما حوله من
صور الحياة في هذا الوجود امتزاجا ازداد بهذا الامتزاج حياة وازداد تجددا في الوقت
نفسه.
وإذا
كان هناك من يبرر الاتباع بزعم أنه لاجديد تحت الشمس, وأن كل ماتحت الشمس قد سبق
تدوينه واحتوته المكاتب, وأنه يكتفي لذلك بأن يقلد سابقيه وأن ينقل عن معاصريه من
أهل البلاد الأخرى, فإنه في ذلك متورط في أفحش الخطأ فيما يؤكد هيكل في "ثورة
الأدب", وأي خطأ أفحش من الإيمان بأن لاجديد تحت الشمس? بلى إن كل ما تحت
الشمس جديد لأنه دائم التجدد. وإذا كان حسنا وواجبا أن يمتزج الإنسان بالماضي, وأن
يجد هذا الماضي في طي الكتب, فأحسن منه أن يمتزج بالحاضر في كل مظاهر الحاضر,
ليجمع بين الماضي والحاضر كاملين, ويجدد بالحاضر معنى الماضي, صانعا بذلك في
المستقبل صوراً أقوى مافيها من المظاهر الجديدة شخصيته هو الدائمة التجدد.
شيوع التقليد
إن
الأكثرين من رجالنا وشبابنا المتعلم, فيما يقول هيكل, يزهون بإعجابهم بما رأوا
ومالم يروا من بدائع الجمال في أوربا زهوهم بما تبعثه مناظر بلادهم إلى نفوسهم من
ملال. ثم إن كثيرين ممن لم تتح لهم أسفارهم وقراءاتهم المفاخرة بهذا الزهو
ليحدثونك في أبلغ الإعجاب بجمال صحراء العرب وما أنجبت هذه الصحراء من حب وحماسة
وكرم تجلى في الشعر العربي القديم, ويزهون بهذا زهوهم بإملال بلادهم إياهم. وهؤلاء
وأولئك هم الطائفة التي تسمى جماعة المتعلمين في مصر. ورأيهم الذي يرونه على هذا
النحو, في العشرينيات التي سجل فيها هيكل ملاحظته, دليل على شيوع التقليد مرة
أخرى, حتى بين بعض الذين تشدقوا بالجديد الأجنبي, فالفريق الذي يزهو ببدائع الجمال
في أوربا ـ حتى لولم يرها ـ واقع في اتباع التبعية, والفريق الذي يزهو بما لم يره
من صحراء العرب, غافلا عن معنى حضور واديه ونيله المناقض لمعنى الصحراء التي قرأ
عنها, واقع في اتباع المحفوظ من الموروث, كأنه المثال الملموس على ماقاله أبونواس
المحدث للمقلدين من القدماء في زمنه:
تصف الطلول على السماع بها
أفـذو العيان كـأنت في العلم
وإذا وصفـت الشـيء متبعـا
لم تخل من زلل, ومن وهم
وما
بين الفريق الأول والفريق الثاني, يقع سر ضعف الأدب القومي وينتج عن ضعف الإيمان
في نفوس المبدعين الذين يستمدون شعورهم بالجمال من الكتب لا من الحياة, والجميل
لديهم هو ماتغنى به غيرهم على أنه جميل. والنتيجة المترتبة على هذا الضعف, فيما
يرى هيكل, ولعل ما رآه في العشرينيات لايزال صالحا إلى أواخر التسعينيات, أننا
محاطون بطبيعة خاصة في تفردها وتنوعها وتعدد دلالاتها, ومع ذلك لايظهر في شعر
شعرائنا ولا في كتابة أدبائنا من أثرها إلا القليل. ولذلك تبقى هذه الطبيعة مجهولة
عند أبنائها الذين لم يلتفتوا إليها بما يؤكد وعيهم الجمالي بها. وذلك لأن الذين
ألقت هذه الطبيعة عليهم رسالة الكشف عن جمالها الخاص لايرونه فيها, لأنهم لايتصلون
بها إلا عن طريق غيرهم, ينظرون بعينه ويسمعون بأذنه ويحسون بحسه, ناسين أنهم
القيثارة التي تنقل إلى آذان البشر أنغام الجمال ماثلة في مختلف مظاهر الطبيعة,
فيما يقول هيكل, وأنهم لافخر لهم في الاقتصار على محاكاة أنغام سبقهم غيرهم إليها
وبذهم فيها, ففي ذلك قضاء على كل أمل في أن تكون لهم شخصية قائمة بذاتها. ولو أن
ربة الشعر والفن والكتابة تلهمهم حقا لآمنوا بأن الفن ليس رجع الصدى, بل الوقوف
عند الجمال والإعجاب به وأخذه إلى مجامع النفس في مختلف صوره, والعودة إليه مرة ثم
مرة ثم مرة. والوصول بالنفس إلى حدود الفناء فيه حتى تمتلىء به وتجمع إليه ماتعيه
الذاكرة مما سطر الآخرون عنه, فإذا الجمال يفيض عن ذي الفن, وإذا القصيدة أو
القطعة من الأدب أو القصة أو اللوحة أو التمثال قد خلعت على هذا الجمال الذي
تمثلته نفس إنسانية ممتازة روحا إنسانية تخالط النفوس كلها, فتشعر في أعماقها بمثل
ماشعر به رجل الفن, وتحس في الأشياء بجمال ماكان لها أن تحس به لو لم يكشف هذا
الرجل عنه, ولو لم يخلقه في الحياة خلقا يجعل للإنسان على الأرض أعظم قدر من المجد
والسمو.وتلك عبارات رومانتيكية فيما تتصف به من مسحة شاعرية, وما تنطوي عليه من
مدلولات داخلة في الدائرة الخاصة لنظرية التعبير. وتذكرنا ما تختتم به بوجه خاص,
عن الخلق الفني الذي يجعل للإنسان على الأرض هذا المجد المتعالي, بما كان كولردج
(1772 ـ 1834) الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي يقوله عن الخلق الفني للخيال, من حيث
هو تكرار في العقل المحدود لفعل الخلق الأزلي للأنا المطلق في الكون, قاصدا بذلك
إلى أن الإنسان, حين يمارس فعل الخلق الفني, يستجيب إلى السر المقدس للكون في
تجدده الخالق. وفي ذلك ماينطوي به المبدع على معنى الخلق الذي يرده إلى أصل عنصره
الخلاق في الكون كله, وينأى به عن كل مايسفل بمعناه أو يتقلص بحضوره الفريد.لكن
العبارات الرومانتيكية التي أوصلتها الحماسة إلى مااتسمت به من شاعرية لم تتباعد
بهيكل عن واقعه الذي صدمه مافيه من تقليد, وعن دوافعه الوطنية التي قرنت رغبة
الاستقلال بروح التجديد والتحرر من الاتباع والتبعية. ولذلك سرعان مايهبط من علياء
العبارات الشاعرية إلى واقع الاستعمار والاستبداد, مؤكداً أن عدم إدراك الجميل في
طبيعة الوطن هو الوجه الآخر من غياب روح الاستقلال في النفوس. ونتيجة سيادة منطق
الخنوع الذي حاول به الاستعمار تدمير الهوية القومية الجامعة للأمم العربية. ولذلك
لم يوجد أدب قومي جامع لهذه الأمم, في العشرينيات التي يتكلم عنها, لابسبب ضعف
الأمم العربية ماديا وإنما بسبب ضعف وعيهم بالروابط المشتركة التي تصل بين أبنائها
في تاريخهم الحديث. وهو الضعف الذي خلقه تعاقب الاستعمار الذي يجد في روح التقليد
مايسمح له بالاستمرار في السيطرة والهيمنة. وقد أكد هذا الروح أن الشرق العربي خضع
طويلا إلى سلطان الأمم التي تحكمت فيه والتي عملت على أن ينسى ماضيه الزاهر, وأن
يخضع لحكم حضارة هؤلاء المتغلبين, وإذا نسي الناس الماضي وخضعوا في الحاضر لسلطان
مدنية غريبة عنهم ضعفت قوميتهم. وانحل تضامنهم, وطمس الظلم على الحضارة الخاصة
بهم, ثم لم يكن لهم أدب قومي واضح الذاتية في تعبيره عن هذه الحضارة.
فرادى
ولا
ينكر هيكل على الأمم العربية في العشرينيات أدباءها, ولاينكر أن من بين هؤلاء
الأدباء فحولا لهم من الصور والمعاني ما يأخذ باللب وينسي الإنسان نفسه, لكنه يأسف
لأنه مضطر للاعتراف بأنهم لايمثلون حضارة معينة, بل هم ملتقى حضارات تختلف حد
الاختلاف أحيانا وتبلغ حد التناقض أحيانا أخرى, لذلك لم يبرز من بينهم الأديب
القومي الذي يطبع عصره بطابعه, بل وقف كل واحد منهم منفردا يتحدث إلى الناس جميعا
بما لايفيض عن نفسه مما عندهم, فآثاره ليست صورة مافي نفوسهم ولازهرة حضارتهم.
وحين يهبط هيكل من مستوى الجمع القومي إلى الإفراد الخاص بكل أمة عربية على حدة,
في بحثه عن حال وجود الأدب القومي, يؤكد الأمر نفسه, منتهيا إلى أن أخلاق التقليد
تحول دون ازدهار الأدب, وتقسم أبناء الأمة إلى فئتين متصارعتين كل واحدة منهما
الوجه الثاني من الأولى, في منطق الاتباع نفسه, ذلك المنطق الذي يأخذ اسم
"القديم" مرة واسم "الجديد" أخرى.
الفئة
الأولى تلوذ بحضارة العرب القديمة على سبيل النقل والاتباع لما تأدى إليها, في
خشيتها من كل جديد يهددها, آملة أن يظل العلم والأدب والتفكير كما كانت جميعا في
العصور الماضية. ويريد قادة هذه الفئة, ليكفلوا هذه الغاية, أن يكون العلم والأدب
وأن تكون الحياة العقلية والفكرية ملكا لهم. يقولون فيما شاءوا منها هذا حلال وهذا
حرام, وأن تكون لهم سلطة كسلطة الكهنة أيام قدماء المصريين تمكنهم من الحكم على من
خالفهم بالقتل أو الموت الأدبي. وهم بهذه الغاية يريدون أن يسبغوا على أنفسهم
قداسة روحية وعقلية تلزم كل من سواهم بأن يتبعهم, ويدّرعون بالسلف الصالح ليسوغوا
موقفهم, مدعين أنهم وارثو تراث هذا السلف, وأنهم يحاربون من شاءوا حربه باسمه
وبالأصالة عنه.أما الفئة الثانية فتلوذ بحضارة الغرب الحاكم, اليوم, لاترى مفرا من
أن تغزو هذه الحضارة أمم الشرق, كما لو كان ذلك وحده هو السبيل إلى التقدم. ويريد
قادة هذه الفئة أن يهيئوا أمم الشرق لهذا الغزو حتى تستقبله مستعدة لتقبله, متهيئة
للوقوف أمامه موقف التقليد. وأول خطوة إلى ذلك النقل عن الغرب وترجمة علمه وأدبه
وآرائه ونشرها في المشرق, واستعارة أساليبه في الكتابة وفي التفكير, والإيمان
بالحقائق العلمية التي يذيعها كتاب الغرب وفلاسفته, انطلاقا من أن هذه الأشياء
كلها أسلحة قوية حادة, تواجه جمود القديم حتى تحطمه بثورة الحديث, وتنتصر عليه
الانتصار الذي يتمكن به أبناء الأمة من أن ينعموا بتحررهم من أغلال الماضي,
ويعيشوا في بحبوحة من السعادة التي لايقف فيها هؤلاء الكهنة بمزاميرهم المملوكة كي
يفسدوها, ولذلك يجب أن ننسى القديم كله عند قادة هذه الفئة, وأن نقيم مكانه من علم
الغرب وحضارته وتفكيره جديدا نقوم باتباعه.
ومايريده
هيكل, تحديدا, هو التوسط بين تطرف الفئتين. موضحا أن الخصومة بين القديم والحديث
كالخصومة بين الوارث والمورث غير ممكنة, لأن الحديث ينطوي على شيء من القديم بل
على أكثره, والقديم لايمكن أن يتصل بقاؤه إذا هو لم يتصل بالحديث ولم ينتشر في
أرجائه, فمحال أن نتصور حديثا لايتصل بالقديم الذي أثمره, أو نتصور قديما لايتطور
مع الحديث وينضم إليه. فإذا اتصل القديم والحديث وتضامنا نشأت عن ذلك حيوية قوية
وروح معنوية نشيطة, هي التي تقوم أساسا لكل حضارة من الحضارات. وبدونها تتداعى
الحضارة وتنهار, ويضطر أهلها إلى استعارة حضارة غيرهم والعيش في كنفها. ومادام من
المستحيل إنكار القديم العربي الذي ينتسب إليه حاضر الأمة, وإنكار الجديد الأوربي
في جوانبه التي لاغنى عنها للتقدم. فالأوفق المصالحة بين الطرفين, وإقامة مايصل
بينهما, ويفيد منهما معا, انطلاقا من تطلع الحاضر إلى الاستقلال, ومن ثم التحرر من
قيود الاتباع والتبعية.
تثوير التثقيف والتعليم
لكن
لايمكن أن يتحقق ذلك إلا بعد تغيير أنظمة التعليم وتثوير أجهزة التثقيف, ومن ثم
تعميق وعي أبناء الأمة بما ينبغي أن يكون لها من إبداع متميز في التعبير عن تفردها
بين الأمم. ويأسف هيكل لأن العاملين في نهضات الشرق الحديث, في العشرينيات التي
كتب فيها ملاحظاته, لم يفكروا في الوسائل الحاسمة لمواجهة ماقامت به الأمم التي
تحكمت في الشرق من محاولات لطمس حضارته, ولم يحاولوا علاج ذلك علاجا جذريا بواسطة
تطوير مؤسسات التعليم وبرامج التثقيف العام. ويضيف هيكل إلى هذه الضرورة ضرورة
أخرى على مستوى التعليم بمختلف مراحله المختلفة وفئاته المتباينة, فتدريس الأدب
القومي يعتبر في كل الأمم المتحضرة أساسا من الأسس القومية التي يجب أن تمتلىء بها
نفوس أبناء الوطن لتزداد بينهم روابط الولاء لوطنهم, ويتعمق فيهم وعي الإبداع
الذاتي الذي يدفعهم إلى التقدم بهذا الوطن. وحين يهمل هذا النوع من التدريس, فإن
النتيجة هي استمرار ذهنية التقليد التي تدفع البعض إلى التعلق بالآداب العربية
القديمة والبعض الآخر إلى التعلق بالآداب غير العربية. وينتهي الأمر بأكبر الكتاب
والشعراء إلى أن يفيض إلهامهم أكثر الأمر بشيء غير قومي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق