على الرغم مما يتردد بين الأنثروبولوجيين العرب من أن الثقافة
العربية الموروثة في مجملها ثقافة متزمتة وجادة.. وإلى الحد الذي يصفها بعضهم بأنها
ثقافة "نكدية" إذ لا يكاد الإنسان العربي يتمادى في الضحك قليلا حتى يفيء
إلى رشده سريعا وهو يقول "اللهم اجعله خيرا" وكأنه يتوقع شرا مستطيرا سوف
يلم به حتما جراء ذلك.
وبالرغم من أن الكثيرين أيضا يسلمون بهذا الرأي، فإن تراثنا
العربي، الثقافي والأدبي يدحض هذا الرأي الجائر، فالضحك ظاهرة إنسانية، والعرب ليسوا
بدعا بين شعوب الأرض، واللغة العربية حافلة بالمفردات اللغوية الدالة على الضحك، ودرجاته
ومراتبه، وأنواعه وأنماطه ووظائفه "النفسية والسياسية والاجتماعية والتربوية"
ومنها:
الفكاهة،
الابتسام، المرح والفرح، البشر والسرور، طلاقة الوجه وظرافة اللسان، البهجة والأنس،
البسط والجذل والانشراح، البش والهش، الهزل والدعابة، الظرف والمزاح، التهكم والسخر
الملحة والنادرة، الأضحوكة "والنكتة".. إلخ. ومثل هذه الكثرة اللفظية ضمن
حقل دلالي مشترك لها في علم الأنثروبولوجيا اللغوية مغزاها الدلالي، خاصة في سياقها
السوسيوثقافي والتاريخي.
فضلا
عن أن تراثنا المدون حافل في قطاع كبير منه بالتراث الضاحك، على نحو يدرأ عن الثقافة
العربية التراثية تهمه التجهم والعبوس.. ويتجلى ذلك في عشرات المصادر المطبوعة، والمتخصصة
في الفكاهة والنوادر "بله المخطوطة والضائعة" بدءا من كتب النوادر الكثيرة
التي جمعها الجاحظ "من أكثرها شهرة نوادر البخلاء"، وانتهاء بكتب ابن الجوزي
في النوادر مما يدخل في دائرة "أدب المسامرة" وعنواناته الدالة، مثل كتاب
"مسامرة الأخيار" و"جمع الجواهر في الملح والنوادر" و"بهجة
المجالس" و"مضحك العبوس ونزهة النفوس"... الخ.
إضافة
إلى ذلك، فإن موسوعاتنا التراثية، الأدبية والثقافية، حافلة بأفانين الضحك والفكاهة،
وقد أفردت لها فصولاً وأبواباً وأجزاء، بدءاً من عيون الأخبار لابن قتيبة، مروراً بالعقد
الفريد لابن عبدربّه، ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني، ونثر الدرر للآبى وربيع الأبرار
وفصوص الأخبار للإمام الزمخشري. وانتهاء بالمستطرف في كل فن مستطْرف للإبشيهي ونظائره
المتأخرة. وقد حفلت مقدمات هذه المجاميع الفكاهية بالحديث عن فلسفة الضحك ووظائفه الدفاعية
والنفسية والعقلية والبدنية.
والحق
أن الفكاهة "صناعة وبضاعة" كانت مشتهاة، خاصة في مجالس الخلفاء والأمراء
والوزراء، وفي بلاط الملوك والسلاطين، وكان المضحكون والندماء يحصلون منهم على أضعاف
ما كان يحصل عليه الشعراء، ومن ثم لا غرو أن يكون هناك معلمون يعلمونهم الهزل، ومدارس
لتدريبهم على فنون الإضحاك. وبالقدر نفسه، كانت الفكاهة سلعة مرغوبة أيضا عند الخاصة
والعامة "حتى بيعت النادرة الواحدة بدينار".
وكان
طبيعيا أيضا أن يشتهر أعلام الفكاهة والضحك وما أكثرهم في تراثنا العربي، بل استطاع
أحدهم أن يتجاوز المحلية إلى العالمية، مثل جحا العربي "وهو بالمناسبة شخصية لها
واقع تاريخي، وأنه من قبيلة فزارة العربية، وتوفي سنة 160 هـ" وقد آثره المزاج
العربي نموذجا فنيا، وأضاف إليه ما استحدث من نوادر وفكاهات في العصور اللاحقة، حتى
غدا علماً أشهر على الفكاهة العربية الموروثة والمعاصرة، خاصة نوادره التي نسبت إليه،
في نقد الهيئتين: السياسية والاجتماعية "رجال السياسة وفقهاء السلطة" ومما
له مغزى أن مثل هذه النوادر الساخرة "والصور الكاريكاتورية الجحوية" كانت
أكثر ازدهاراً في عصور البطش السياسي، والقهر العسكري، والقمع الثقافي. وفيما يلي نماذج
من الحكايات المرحة التي تعرف في تراثنا الضاحك باسم النوادر.
الفكاهة المنقذة
قال
الأصمعي: خرج الحجاج متصيداً، فوقف على أعرابي يرعى إبلا وقد انقطع عن أصحابه، فقال:
يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجاج؟ فقال الأعرابي: غشوم ظلوم لا حياه الله ولا بياه.
قال الحجاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين؟ فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه
لعنة الله! قال: فبينا هو كذلك إذ أحاطت به جنوده، فأومأ إلى الأعرابي فأخذ وحمل، فلما
صار معهم قال: من هذا؟ قالوا: الأمير الحجاج، فعلم أنه قد أحيط به، فحرك دابته حتى
صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير، قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: أحب أن يكون السر
الذي بيني وبينك مكتوما، فضحك الحجاج وخلى سبيله. وكان الحجاج لا يضحك في جد ولا في
هزل، على حد تعبير الحصري القيرواني في كتابه جمع الجواهر في الملح والنوادر.
وحدث
أن أبا العبر أحد مشاهير المضحكين رأى المتوكل ينظر من فوق قصره، فجعل في رجليه قلنسوتين
وعلى رأسه خفاً، وجعل سراويله قميصا وقميصه سراويل، فرآه المتوكل، فقال: علي بهذا المثلة،
وقد اعتقد أنه سكران، فلما دخل عليه سأله غاضبا: أشارب أنت؟ قال: لا. قال: أتراني في
قتلك "مأثوم"؟ قال على الفور: بل "ماء بصل" يا أمير المؤمنين!
"متلاعبا بكلمة مأثوم إلى ماء ثوم" فضحك الخليفة وعفا عنه.
من نوادر النحاة
تشكل
نوادر النحاة والمتفيهقين والمتقعرين بابا طريفا من أبواب الفكاهة العربية وبواعثها
في آن.. يقول تاج الدين السبكي في كتابه معيد النعم ومبيد النقم "إن طائفة من
العلماء استغرق حب النحو واللغة قلبها، وملأ فكرها، فأداها إلى التقعر في الألفاظ،
وملازمة حوشي اللغة "وغريبها" بحيث خاطبوا بها من لا يفهمها.. ونحن لا ننكر
أن الفصاحة فن مطلوب.. ولكن إذا تكلم أحدهم بذلك عن قصد مع كل أحد"من العوام"
فهو ناقص العقل!".
"ثم
يختتم السبكي حديثه الطويل في نقد مثل هذه الأنماط البشرية، السلبية، ودور الفكاهة
الساخرة في التشهير بهم وبجمودهم قائلا: "واعلم أن النوادر والحكايات في هذا الباب
تخرج عن الحصر" ويشرع في رواية الكثير منها.
من
هؤلاء النحاة والمتقعرين أبوعلقمة النحوي حين عرض له مرض شديد، فاستدعى طبيبا معروفا
يدعى "أعين" فأتاه فسأله عن علته، فقال: أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت
طسأة، فأصابني وجع بين الوابلة إلى داية العنق، فمازال يتمأى ويتنمّى، حتى خالط الخلب،
وتألمت له الشراسيف. فقال له أعين الطبيب: خذ شرفقا وشبرقا، فزهزقه، ودقدقه. فقال أبو
علقـمة: أعـد لـي، فـإني ما فهمت. فقال الطبيب: قبح الله تعالى أقلنا إفهاما لصاحبه!".
"وتفسيرها: الجوازل: فراخ الحمام، الواحد جوزل. والطسأة: الهيضة والقيء. والوابلة:
طرف الكتف. ودأية العنق: فقارها. ويتمأى: يتمدد، ويتنمى: يتزايد. والخلب بالكسر: حجاب
المعدة. والشراسيف: غضاريف متصلة بالأضلاع".
وأراد
أبوعلقمة هذا أن يتغزل في جارية كان يهواهـا، فـقـال لها: يا خريدة، أخالك عروبا، فما
بالنا نمقك وتشنئيناً? فقالت: ما رأيت أحداً يحب أحداً ويشتمه سواك!
"الخريدة:
الناعمة اللينة. العروبة: المتحببة إلى زوجها. نمقك: نحبك. تشنئينا: تبغضينا".
يقول
السبكي: "وله من هذا النمط كثير".
ثم
يروى عن التوحيدي في البصائر والذخائر أن من هؤلاء من تعمق في البلاغة، فصار أكثر كلامه
مسجوعا، حتى في المواقع الحرجة التي لا مجال فيها للتكلف والفضول.. فقد انتهى بأحدهم
الحال إلى أن وقع في بئر الكنيف "المجاري" فأحضر الناس رجلين من نازحي المجاري
لإنقاذه، فكلمه أحدهما لينظر: أهو حي؟ فقال آمراً: اطلبا لي حبلا دقيقا، وشداني شداً
وثيقا، واجذباني جذبا رفيقا. فغضب أحدهما وقال: أنا والله لا أنقذه، فإنه في
"المجاري" إلى الحلق ولا يدع الفضول!
ملحمة الوداع
روى
الجاحـظ شيخ الساخرين العرب أنه سمع يوما واحداً من هؤلاء المتقعرين يعترض طريق امرأة
من العامة وحدثها حديثا لا تفهمه، وهي لا ترد إلى أن سألها متشدقاً: أبيدك صنعة؟ فردت
عليه؟ لا، ولكن برجلي! "تزعم أنها راقصة لتسخر منه" فكأنما قد ألجمته حجراً
على فضوله "اللغوي".
عودة مقهى ريش
يحتفل
المثقفون والأدباء المصريون بإعادة افتتاح مقهى ريش بوسط القاهرة الذي يعد أشهر منتديات
المثقفين منذ تأسيسه في العام 1908.
وكان
ريش قد أغلق أبوابه منذ نحو عشر سنوات من أجل التجديد وترميم أجزاء مختلفة من المقهى
الذي تم تصميمه على طراز أوربي، وصار جزءاً مهماً من الحياة الثقافية والسياسية والفنية
في القاهرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد
علقت على جدران قاعة المطعم صور بالأبيض والأسود لأبرز رواد المقهى وأغلبهم من الراحلين
مثل الشعراء صلاح عبدالصبور وكامل الشناوي وأمل دنقل والممثلين نجيب الريحاني ويوسف
وهبي وسليمان نجيب والمطربة الراحلة أم كلثوم التي كانت أول أغنية لها في هذا المقهى
لدى قدومها للقاهرة من قريتها عام 1932.
ومن
أشهر روّاد المقهى أيضاً الأديب المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل الذي كان
يعقد ندوة أسبوعية فيه يحضرها أدباء ومثقفون من كل الاتجاهات قبل أن يقرر المقهى أن
يغلق أبوابه من أجل التجديد.
المصدر:
1
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق