ظل عنترة بن شداد يواجه المصاعب بين صليل السيوف وصهيل
الجياد ليثير في الوجدان سحب الرمل الجيّاش بالعاطفة، وكانت عبلة بنت عمه مالك
تذوب - على اتساع رمل الفروسية - انتظاراً للانتصار والتحرر، واستمرت شاشة سينما
بلدتنا تتسع ليصبح للصحراء المعنى الواسع للغرام، وهذا ما لا تدركه حوائط قريتنا
تحت ظلال الشجر وعلى ضفاف الجداول والمستنقعات، فاضطررنا - نحن العشاق المبكرين -
أن نخترق الحقول غرباً بحثاً عن الصحراء، هذه الساحة المتسعة التي لا يمكن لعبلة
أن تعيش بعيداً عنها.
ومع تعاقب العصور ظهر امرؤ القيس - خارج أفلام السينما
- وقد استبد به الشجن مخترقاً الآكام والتلال وكثبان الرمل يلتمس معونة القبائل في
الثأر لأبيه، ثم شاءت الظروف أن أتخلّى عن عنترة وامرئ القيس وعمرو بن كلثوم لأقع
تحت سطوة بدر لاما وكوكا ومحمد الكحلاوي ما داموا يؤدون المهام العاطفية فوق ساحات
الرمل، وربما كان ذلك وراء هذا المصير المفاجئ الذي أودى بي لأعمل في مشروع السد
العالي، وبالذات في منطقة داخل عمق الصحراء الغربية حيث قامت الكراكات والبلدوزرات
- تلك الآلات ذات الضجيج - بترويع كل أبطالي (من عنترة إلى رابحة) لتستخرج من تحت
طبقات الرمل نوعاً من الطفلة أو الكاولينا أو الطفلة الطينية المكمورة لتصبح نواة
للسد العالي، وهناك أحسست بهذه الآفاق الممتدة حتى تلامس الغيوم الرملية غرباً، أو
المنحدرة شرقاً كي تشرق خضرة الوادي فوق التيار المتلألئ لمياه النهر.
والرّمل
- مع تسكين الميم - هو فُتات أو تراب الصخر، وهذا المعنى القاموسي يجعل الصخر
أساساً للرمل، مع أن مشهد الرمال في الصحراء يجعلك تعتقد أنها - تحت ظروف قاسية -
قد تصخّرت، والفعل (رمل) - مفتوح الميم يعني هرول، ورمل النسيج: رقّقه، ولايزال
أهل العرائس يرملون الأسرّة (جمع سرير): أي يزيّنونها بما يضفي البهجة على العروسين،
ولا يكاد الفعل الثلاثي (رمل) يصبح رباعياً (أرمل) حتى يدخل المعنى في كارثة
الاحتياج أو الافتقار أو نضوب الزاد ثم فقدان القرين - أي الزوج أو الزوجة، وعند
تشديد الميم (رمّل) يدخل الفعل على الطبيخ فيفسده، وعلى الثوب فيلطخه بالدم، وعلى
الكلام فيزيّفه، ومع ذلك فإن هذا الترمّل أو الارتمال إذا دخل على خط الكاتب فيصبح
القصد رشّ الرمل على كتابته ليشرب فضلة الحبر، ذلك أيام التدوين والتسجيل بالحبر
الزّفر الذي لم تشهده الأجيال الجديدة في الأحقاب الأخيرة، لكن الرملة سوف تظل تلك
المدينة العربية (شرقي القدس) التي عاشت تاريخاً مريراً طوال حياتها.
لكن
الرمل - في اتساعه المذهل خلال هذه الآفاق الصحراوية في العالم كله (دون التدقيق
في صحراء الاسكيمو المتجمدة شمالاً) لا يلبث أن يتسلل إلى بحور الشعر ليكون بحر
الرمل أسهلها وأكثرها شيوعا في العصر الحديث الذي لا يمعن كثيراً في الدقة الفنية
الموروثة، أو البعد المقصود - أو التلقائي - عن بحور أخرى ليس فيها قياس الرمل
(فاعلاتن - فاعلاتن - فاعلن) ببساطته الواضحة، وهي البساطة ذاتها التي تمارس بها
الرمّالة (أو الرمّال) الإمعان في رقعة الرمل لتبحث لك عمّا يخفيه الغيب لك، وهو
نوع من الغيبيات التي لازمتنا دهوراً، وفي مقابلها يكون ضرب الودع - (مع وشوشة
الذكر، أي أكبر الودعات التي سوف تودعها سؤالك وحيرتك)، وهي أنشطة لها وقعها في
القلوب - والعقول - برع فيها دون شريك قبائل الرحّل في كل الصحراوات (والغجر على
وجه الخصوص). التقيت ذات مرة ومعي صديق - عمل فترة عميداً لإحدى كليات الهندسة -
غجرية تضرب الرمل في أشهر حدائق القاهرة بضاحية حلوان (الحديقة اليابانية) والتي
تبعد أكثر من ثلاثمائة كيلومتر عن قريتنا، وهالنا أنها ظلت تمعن في رقعة الرمل ثم
أصابها اضطراب أحال ملامح وجهها - وبخاصة عيناها - إلى تكوين مرعب لا نراه إلاّ في
الأفلام السينمائية، ثم لم تلبث أن أعلنت اسم أمي وأسماء أخواتي البنات الخمس (لم
تكن أسماؤهن معتادة ومألوفة) مما زاد من اضطراب منطقة العلم في عقولنا.
إلاّ
أن الرمل يرق ويتلمس العذوبة حينما يصبح صفة لشقائق البطيخ الناضج (البطيخة
المرمّلة)، وألاعيب الأصدقاء حينما تسوخ أقدامنا في حيلهم الرملية الخالية من الشر،
فإن خرجت الحيل عن الرمل أصبحت مكائد ومؤامرات يميل إليها السـياسيون والموظفـون
وذوو الضمائر الشريرة، الذين لا يميل الرمل أن يفـتح الآفاق الممتدة أمام بصيرتهم،
فلا يستمتعون بالجهود التي بذلها عنترة بن شداد كي يتحرّر من سطوة الرّق.
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق