الشعر والغناء
كل شعوب العالم تغني، تنشد الحب طربًا، لتخفف بالغناء آلامًا: ألم البعد والفراق، ألم الحب والأشواق، ألم العناء، ألم البكاء، وألم الوحدة والوحشة والبلاء. أو أنها تغني سرورًا وحبورًا، عندما يحين موعد قطف الثمار أو حصاد المحاصيل، وفي الأعراس والأعياد والمناسبات.
عادة الإنسان
أن يقلّد ما
يراه ويسمعه، كان
يسمع ويرى الطبيعة
تغني من هدير
الموج وخرير الماء
وحفيف أوراق الشجر
وتغريد الطيور، كل
ذلك والإنسان يسمع،
يطرب ويتمتع. لم يتوقف
الغناء أبدًا على
مر العصور، حتى
صار أصلاً من
أصول تربية النفس
والروح، إلى أن
أصبح تحسين الصوت
والعناية بمخارج الألفاظ
من الشروط المندوبة
في قراءة النصوص
الدينية في كل
الحضارات.
لن نخوض
في بحر الغناء
بين الإباحة والكراهية
أو التحريم، فقد
ناقشنا ذلك في
مقالات لنا سالفة،
بل سنستذكر ما
روته الأيام في
الصحف والكتب، وما
أسمعه التاريخ لنا
من أصوات على
مر الزمان. وانتشرت المعازف
في العالم القديم،
من الصين إلى
الهند ففارس والشام
ومصر ثم بلاد
اليونان وروما، لتصاحب
صوت الإنسان تحسينًا
وكمالاً، وصارت المعازف
الإيقاعية كالطبول والنفخية
كالمزامير والوترية كالجيتارات
والطنابير ضرورة في
الغناء، بعدما كان
الغناء بدائيا، حدو
ونشيد وأهازيج. ومع تنوع
الغناء بين الحزن
والفرح، تنوعت إيقاعته
بين البطء والسرعة،
وتنوع أداؤه بين
المُرَكب والبسيط، فقالت
العرب: «الغناء ما
أطربك فأرقصك، أو
أشجاك فأبكاك». وتوارثت الشعوب
حكاية «مزامير داود»، وبأنّ النبي
داود قد قرأ
«مزامير» الزبور،
كل مزمور بمقام
موسيقي على حِدة
ونغمة لحنية مميزة،
ومنه أُخِذَت ثم
تطورت المقامات الموسيقية
العالمية إلى يومنا
هذا. في ذلك
ينشد الشاعر، زُعِمَ
أنّه يزيد بن
معاوية، فيقول:
لها حكم لقمان وصورة يوسف ونغمة داود وعفة مريمِ
ولي حزن يعقوب ووحشة يونس وآلام أيوب وحسرة آدمِ
تأصيل الغناء العربي
لم
يَخْلُ عصر الصحابة
من الغناء، وإن
كانوا قد كرهوا
سماعه، خاصة ذاك
الغناء الذي كان
يذكرهم بأيام الجاهلية،
وجهالة البعض في
شرب الخمر والرقص
على أغاني القينات
في الحانات، والإسراف
في المجون والشغب. إنّ
السبب في صدّ
الصحابة عن سماع
الأغاني كان سببًا
شرطيًا مرتبطًا بأيام
بعضهم الغابرة، لذا
نراه يتجدد في
العصرين الأموي والعباسي. ولا
بدّ أن نسجّل
هنا أنّ الطبقة
العليا من المجتمع
العربي آنذاك، كانت
تستحي أن ينسب
أبناءها إلى الغناء
أو امتهانه، رغم
أن البعض منهم،
وهم قلة، قد
طغت هوايته على
مكانته، فشاع بين
الناس عزفه وغنائه،
ومنهم إبراهيم بن
المهدي أخو هارون
الرشيد. منذ خلافة
عثمان بن عفان اشتهر
ثلة من المغنين،
معظمهم من الرقيق
والموالي، كان أشهرهم
سائب خاثر ونشيط
الفارسي وجميلة وعُبيد
بن سريج ومَعبد
بن وهب والغريض
وابن محرز. وكان أكثرهم
قد تأثر بالأنغام
الفارسية. ولم يتأصل
الغناء العربي إلا
على يد إسحق
بن إبراهيم الموصلي
الذي كان معاصرًا
لهارون الرشيد، وكان
ملحنًا ومؤلفًا ومطربًا
ومدرسًا وعالمًا بفنون
الغناء والطرب والموسيقى. وانتقلت
فنون الموصلي إلى
المغرب العربي وبلاد
الأندلسي على يد
تلميذه المُبدع علي
بن نافع الشهير
بزرياب.
في تلك
الفترة، كان مداد
الأغاني من كلمات
القصائد التي كان
ينشدها شعراء العصر
نفسه، ومن أشهرهم
عمر بن أبي
ربيعة ومجنون بني
عامر. ومن أشهر
قصائد عمر بن
أبي ربيعة المغناة:
حنَّ قلبي من بعد ما قد أنابا ودعا الهم شجوه فأجابا
ذاك منزل لسلمى خلاء مُكتسٍ من عفائه جلبابا
يروي صاحب
كتاب الأغاني قصيدة
للمجنون اشتهرت في
بني عامر تغنيها
النساء وقت المطر،
مطلعها:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره وهجرانه مني إليه ذنوبُ
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر حبيبًا ولم يطرب إليك حبيبُ
جرى الدمع فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتيَّ غروبُ
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه يكون بوادٍ أنت فيه قريبُ
بين الموصلي وزرياب
لما انتهى
العصر الأموي ودخل
العصر العباسي، صار
المغنون لا يلتزمون
بأشعار معاصريهم بين
شعر جاهلي أو
أموي أو معاصر،
فصاروا ينشدون بجميل
الأبيات وروائع القصائد. وقد
ازدهر الغناء في
العصر العباسي بفضل
الأُطُر الموسيقية التي
وضعها إسحق الموصلي
للأغنية العربية آنذاك. وقد
أخذ الموصلي من
كبار الشعراء قصائد
يلحنها ويغنيها، حتى
غُنّت النقائض بين
جرير والفرزدق والأخطل،
وهي صعبة في
لحنها وأدائها.
ومضى زرياب
باتباع خطى أستاذه
في الغناء التقليدي،
الذي يعتمد على
القصيدة الشعرية، إلا
أنّه كان أكثر
تطورًا بحكم الترحال،
من بغداد إلى
مصر إلى المغرب
وانتهاء بالأندلس. وكان للمؤثرات
المكانية انعكاسها على
رقة الألحان والكلمات،
خاصة وأنّ زرياب
قد أبدع في
تطوير آلة العود،
فزاد عليه وترًا
خامسًا، واستخدم ريشة
النسر للضرب على
أوتاره. لقد كانت
أشعار الأندلسيين أكثر
رقة وأقل صعوبة
في مخارج الألفاظ،
خاصة أنّ جل
القصائد المغناة قصيرة
المقاطع، مما يعطي
النغم الموسيقي مساحة
أكبر في سماع
الأغنية من مساحة
الكلمات. وقد جمع
الموصلي ومن بعده
زرياب أعمالهم في
سبع مقامات، وكل
مقام موسيقي يختلف
عن الآخر بتحديد
بدايته والمسافة بين
درجات النغمات. تلك المقامات
هي: الصبا والنهاوند
والعَجَم والبَيّاتي والسِيكاه
والحِجَاز والرَسْت، ويتضح
لنا التأثر بالموسيقى
الفارسية في مقامات
النهاوند والعجم والسيكاه
والرست، فالموسيقى عالمية
المنشأ في الزمان
والمكان، لذلك نرى
لغتها لغة عالمية
وكتابتها واحدة في
كل مكان، تُكْتَب
وتُقْرأ وتُعْزَف من
كل موسيقي مهما
كانت لغته أو
جنسيته. الموسيقى هي
اللغة الوحيدة التي
اتفق العالم على
كتابتها وقراءتها، على
حروفها وكلماتها، على
مقاطعها ورموزها، اتفق
العالم على الجمال
في أنغام الموسيقى. وكما
تأثرت الموسيقى العربية
بالموسيقى الفارسية، فإنّ
هذه الأخيرة قد
تأثرت بالموسيقى الهندية،
فأكثر الحضارات القريبة
المكان والمنشأ تتأثر
الحديثة منها بالسالفة. هكذا
تتأثر الموسيقى العربية
بمن حولها تأثرًا
مصطبغًا بالبعد العاطفي
شعورًا وإحساسًا وعزفًا
وغناء، لتأخذ من
الأتراك شيئًا ومن
غيرهم أشياء، فتتفرع
مقامات الموسيقى العربية
لتصل إلى تسعة
مقامات أساسية، يتفرع
منها أكثر من
ثلاثين مقامًا ثانويًا،
لتنتهي إلى أكثر
من مائتي مقامًا
إضافيًا.
وفي
حقيقة الأمر أنّ
الشعراء الفحول لم
يحظون بشهرة في
مجال الأغاني، فلم
نسمع أغنية من
شعر المتنبي أو
المعري أو من
أصحاب المعلقات أو
من أعلام الشعر. والسبب
الرئيس هو تعفف
الشعراء عن أن
تُغنى قصائدهم، فهم
يرون في شعرهم
رفعة فوق الغناء
وأعلى من السمر. ومن
خلال تتبعنا للقصائد
العربية المغناة وجدنا
الحظوة الكبرى لقصائد
بهاء الدين زهير
(ت.
656هـ/1258م).
ملامح جديدة
ويطول الزمان
ليتوقف الشعر والغناء
إلا قليلاً أثناء
الحروب الصليبية ثم
الغزو المغولي في
عصر الأيوبيين والمماليك. ولا
يرجع السبب إلى
الحروب وما يعانيه
منها الشعوب، عاطفيًا
ومعنويًا وماديًا، بل
يزيد الأمر على
ذلك لنعرف أنّ
قيادة الأمة العربية
آنذاك لم تكن
عربية، فلا هي
تُعنى بالشعر ولا
الأدب والفنّ بصورة
عامة. ويأتي بعد
ذلك العثمانيون يسحبون
ما تبقى من
فنون وآداب عربية،
لإحلال كل ما
هو تركي الهوية. فتختفي
آثارنا ولغتنا وأغانينا،
ولا تبقى لنا
إلا آهات وأنات
وأصداء صرخات خافتة
خائفة، يحسبها السامع
أغانٍ، وما هي
إلا حشرجات. في تلك
الفترة، سادت العامية
وخفت صوت الفصحى،
ليختفي معها الأدب
شعرًا ونثرًا، ويتشوه
الجمال بالابتذال، ليبشع
الواقع ويقبح الخيال. ولم
يبقَ من ذاك
الزمان شعرًا عاميًا،
ولن تدوم الأغاني
العامية التي تغنى
بها الناس. ومع النهضة
الفكرية والثقافية التي
شهدتها الأمة العربية
واستقلالها من وطأة
الاحتلال العثماني، ثم
تحررها من الاستعمار
الغربي شيئًا فشيئًا،
ظهرت ملامح جديدة
تعيد للأمة أمجادها،
فكان الأدب والفن
بداية لتشكيل تلك
الملامح. إنها حقًا
فترة طويلة انتظرها
العرب ليظهر فيها
أمير الشعراء أحمد
شوقي (ت. 1932م). جال
شوقي في جميع
ميادين الشعر، فتفوق
في الوصف والمدح
والغزل والرثاء، حتى
نافس بشعره الأولين. وجدد
في الشعر العربي
لينظم المسرحيات الشعرية،
التي لم يكن
لها وجود من
قبل عند العرب،
مثل «قيس وليلى» و«قمبيز» و«كليوبترا».
ثم لحّن وغنى
له محمد عبدالوهاب
روائع من قصائده
مثل: رُدّت الروح،
مضناك جفاه مرقده،
جبل التوباد، قالت،
يا جارة الوادي،
مال واحتجب، منك
يا هاجر دائي،
سهرت منه الليالي،
سجى الليل، علموه
كيف يجفو، خدعوها
بقولهم حسناء. ثم غنّت
له أم كلثوم: ولد
الهدى، نهج البردة،
إلى عرفات الله،
مقادير من جفنيك،
سلوا كؤوس الطلا،
سلوا قلبي، النيل،
وأغنية الجلاء. بعدها غنى
له الشام ولبنان
واليمن أغاني، من
أشهرها: مضنى وليس
به حراك، روعوه
فتولى مغضبًا، يا
قمرية الوادي.
الأخطل ورامي
ثم يأتي
الأخطل الصغير بشارة
عبدالله الخوري( ت. 1968م)،
ليحتل المرتبة الثانية
بعد شوقي في
القصائد المغناة. غنى للأخطل
الصغير كبار المغنين،
فغنى له محمد
عبدالوهاب «جفنه علّم
الغزل»، وغنت
له فيروز «يا عاقد
الحاجبين» و«بيروت هل
ذرفت عيونك دمعة» و«قد
أتاك يعتذر»
و«يبكي ويضحك»، وفريد
الأطرش «عش أنت»
و«أضنيتني بالهجر»، وصباح
فخري «بلغوها». وقد أبدع
الأخطل الصغير في
سرد القصة الشعرية
التي تحكي مصارع
العشق التي نقرأها
له في «المسلول»، أو
تسرد حوار بين
«هند وأمها».
ويعتبر أحمد
رامي ظاهرة أدبية
اجتمعت في قصائده
سلاسة اللغة العربية
وبساطتها مع رقي
العامية في اختيار
انتقائي لكلمات قصائدة
بين اللهجة واللغة. حين
أنشدت أم كلثوم
قصيدة «هجرتك» تبادر
لسامعها بأنها عامية،
مع أنها أقرب
جدًا إلى الفصحى،
يقول في مطلعها:
هجرتك يمكن أنسى هواك وأودع قــلبـك القــاسـي
وقلت أقدر في يوم أسلاك وافضي بالهوي كاسي
وهكذا أحمد
رامي في قصائده،
حتى قال عنه
أحمد شوقي: إنني أخشى
على الفصحى من
عامية أحمد رامي. ولا
يخفى على القارئ
الكريم أنّ رامي
كان يكتب قصائد
بالفصحى، مثل «قصة حبي»
التي غنتها أم
كلثوم. لقد درس
رامي الفارسية في
باريس واستطاع أن
يترجم رباعيات الخيام
ترجمة محكمة ونظم
رائع، حتى صارت
فيما بعد واحدة
من أجمل أغاني
أم كلثوم.
وفي نهاية
الحديث يجب ألا
ننكر فضل بعض
الشعراء الكبار على
الأغنية العربية، مثل
نزار قباني وسعيد
عقل وعبدالله الفيصل
وأحمد العدواني وسعاد
الصباح وغازي القصيبي،
وكل من كتب
قصيدة بالفصحى لتعيش
مع الأجيال عبر
الزمان.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
شبكات
التواصل وتأثيرها في المجتمع
تجاعيد
الوجه والحملات الإعلانية
مخاطر
الألعاب الإلكترونية على الأطفال
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق