كليلة ودمنة
لا يعرف أحد على وجه القطع ما لابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة وما ليس له. فالشائع أن أصول الكتاب هندية، وأنه نُقل لاحقًا إلى الفارسية التي اعتمدها ابن المقفع في نقل الكتاب إلى اللغة العربية. لكن الترجمة الفارسية فُقدت ولم يعد من مجال بالتالي لمعرفة ما الذي فعله ابن المقفع: فهل نقل الأصل بأمانة، أم تصرف إزاءه فأضاف إليه وحذف منه، أم كان واضعًا لكتاب جديد حاكى الأصل أو استأنس به أو نهج نهجه؟
الواقع أنه ما من إجابة شافية عن مجمل هذه الأسئلة، فما من كليلة ودمنة «فارسية» أو «هندية» اليوم، وإنما هناك كليلة ودمنة «عربية» لا غير، باستثناء ما قيل عن أن بعض المستشرقين عثروا في القرن الماضي على فصول منه في الكتب الهندية القديمة الموضوعة باللغة السنسكريتية التي وضع الكتاب بها أساسًا.
أما الكتاب كما نعرفه في اللغة العربية، والذي يتضمن في صفحته الأولى: «نقله عن الفارسية عبد الله بن المقفع»، فالأكيد أن التراث الفارسي القديم لم يحفظه. ويمكن قول مثل ذلك عن التراث الهندي القديم، رغم ما ذكر عن عثور المستشرقين على فصول منه. فالنص العربي هو وحده الباقي على قيد الحياة، وهو يشتمل على 31 بابًا منها، كما ذكر البعض، اثنا عشر بابًا من أصل هندي وثلاثة من أصل فارسي. أما الأبواب الستة الباقية فلا توجد، لا في الأصل الفارسي ولا في الأصل الهندي، بل ينفرد بها النص العربي، وهي: مقدمة الكتاب وينسبها ابن المقفع إلى «المعروف بعلي بن الشاه الفارسي»، وهي تحكي قصة تأليف الكتاب أول مرة، يليها باب يحكي قصة استقدام الكتاب من الهند إلى فارس بأمر من كسرى أنوشروان، ثم مدخل بقلم ابن المقفع عرض فيه لمضمون الكتاب وأغراضه. ثم باب الفحص عن أمر «دمنة»، وباب «الناسك والضيف»، وباب «مالك الحزين والبطة»، وباب «الحمامة والثعلب ومالك الحزين».
ويميل كثير من النقاد إلى أن هذه الأبواب التي ينفرد بها النص العربي، هي أو بعضها على الأقل، من وضع ابن المقفع. وربما كان البيروني صاحب «تحقيق ما للهند من مقولة» أول من لاحظ الاضطراب والتداخل في الكتاب. فقد قال في سياق كلامه عن كتب الهند :«وبودّي أن كنت أتمكن من ترجمة كتاب «بنج تنترا» وهو المعروف عندنا بكتاب «كليلة ودمنة»، فإنه تردّد بين الفارسية والهندية ثم العربية والفارسية على ألسنة قوم لا يؤمن تغييرهم إياه كعبدالله بن المقفع في زيادته باب برزويه فيه قاصدًا تشكيك ضعاف العقائد في الدين وكسرهم، للدعوى إلى مذهب المانوية، وإذا كان متهمًا فيما زاد، لم يخل عن مثله في ما نقل».
ويُفهم من كلام البيروني أن ابن المقفع لم يكن مجرد «ناقل بري» للكتاب، وإنما كان ناقلًا مُغرضًا، فقد تصرف في النقل، أو في التأليف، على الأصح، بقصد تشكيك ضعاف العقائد في الدين، والدعوة بالتالي إلى مذهب المانوية الذي كان عليه. ولكن ما يأخذه البيروني على ابن المقفع من سوء نية في وضعه لباب برزويه، يسعف، مع أسباب أخرى كثيرة سنشير إليها، في نقل ابن المقفع من رتبة «مترجم» إلى رتبة «مؤلف». فهو، في الأعم الأغلب، واضع للكتاب لا مجرد ناقل له من الفارسية التي كان يجيدها بحكم انتسابه إلى الفرس، وبالتالي فإن «كليلة ودمنة» كتاب عربي لا فارسي ولا هندي، وأن ابن المقفع أشار متعمدًا إلى أصول الكتاب الهندية والفارسية لغرض في نفسه، أو لأسباب سياسية كما نقول اليوم.
فربما وجد، من باب التقية، أنه يحسن نسبة الكتاب إلى مؤلف أجنبي كي لا يضار مؤلفه المحلي أو الحالي، خاصة أنه يحتوي على ما يمكن أن يُساءل مؤلفه بسببه. فالكتاب، كما هو معروف، ليس مجرد كتاب للتسلية أو للقراءة البسيطة غير الهادفة، وإنما هو كتاب ملتزم ولمؤلفه غرض من تأليفه. وقد اشترط ابن المقفع صراحةً، لقراءة هذا الكتاب، شروطًا ذات مغزى، أو «ينبغيات» على القارئ التنبه إليها، وهي بتعبيرنا المعاصر:
- ينبغي لقارئ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه( الأغراض) التي وُضعت له، وألاّ تكون غايته التصفح لتزاويقه.
- ينبغي لقارئ هذا الكتاب إعمال الرويّة فيما يقرأ، والقارئ العاقل هو الذي يعلم غرضه ظاهرًا وباطنًا.
- ينبغي لقارئ الكتاب أن يديم فيه النظر من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود.
- ينبغي لقارئ هذا الكتاب أن يعمل بما علم، ويجعله مثالًا لا يحيد عنه ودستورًا يقتدي به.
- ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض، صرّح ابن المقفع بثلاثة منها «تضليلًا». أما الغرض الرابع فلم يصرّح به، مع أنه «الأقصى» و«مخصوص بالفيلسوف خاصة». فما هو هذا الغرض الأقصى الذي يجعل من ابن المقفع كاتبًا ملتزمًا معارضًا للسلطة القائمة في زمانه، وهي الدولة العباسية، أي صاحب مشروع تنويري بالمعنى المتداول اليوم؟
البنجاتنترا
نترك الإجابة عن هذا السؤال للدكتور محمد رجب النجار صاحب كتاب «التراث القصصي في الأدب العربي». فعنده أننا نستطيع أن نضع أيدينا على هذا الغرض إذا وقفنا على أسباب وضع الكتاب، كما زعمها ابن المقفع عن قصد، لأن الأصل الهندي( البنجاتنترا) الذي ادعى أنه نقل عنه ليس فيه هذا الزعم على الإطلاق. إذ يقول ابن المقفع إن الهند اختارت رجلًا من الشعب تثق به وملّكته عليها، وحال أن استقر له الملك طغى وبغى وتجبّر وتكبّر. فلما رأى بيدبا( الفيلسوف) الملك، وما هو عليه من الظلم للرعية، فكّر في صرفه عما هو عليه وردّه إلى العدل والإنصاف، وجمع تلامذته من العلماء والحكماء ورجال الدين البراهمة، للتفكير في حيلة لمواجهة الملك، ذلك «أن الواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتهم ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل، وأن هذا فرض واجب على الحكمــاء لملــوكهم ليوقظوهم من رقدتهم».
فلما وافقه تلامذته واجه الملك برأيه، فاستشاط غضبًا لجرأته وأمر عندئذ أن يُقتل بيدبا ويُصلب. حتى إذا كان ليلة من الليالي ذ يقول ابن المقفع ذ سهد الملك سهدًا شديدًا فبعث فأخرج بيدبا من السجن، ولم يُقتل، وعفا عنه، وتطورت العلاقة بينهما بالإيجاب. وعندئذ جلس الملك «لردّ المظالم ووضع سنن العدل». ثم ازدادت الصلة وتأكدت الثقة بينهما، فطلب إليه الملك أن يضع كتابًا بليغًا يستفرغ فيه عقله، يكون ظاهره سياسة العامة وتهذيبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية. فاستجاب بيدبا ورتّب فيه كما يقول ابن المفقع أربعة عشر بابًا، مع أن الأصل الهندي خمسة فقط، ثم «جعله على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهوًا للخواص والعوام، وباطنه رياضة لعقول الخاصة».
دعوة سافرة
مثل هذا الغرض الأقصى لم يكن ليخفى على عقل سياسي داهية مثل أبي جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، في مثل هذه اللعبة ذات الحدّين، لعبة الصراع بين الثقافة والسلطة، الذي ما كان يسمح لأحد له مولى من الموالي أن يشقّ عليه عصا الطاعة. فلما بلغه أمر الكتاب، وتيقّن أنه دعوة سافرة لمعارضة حكمه، وهو خليفة الله في الأرض، استشاط غضبًا وسلّط عليه واليه على البصرة سفيان بن معاوية الذي استقدمه لمحاكمته، بحجة الزندقة. فلما قدم عليه أمر بتنور فسجر، ثم أخذ يقطع جسده عضوًا فعضوا ويرمي به في التنور أمام عينيه حتى لفظ أنفاسه، كما يقول صاحب كتاب الوزراء والكتاب، وعمره عندئذ ثلاثون عامًا فقط.
ويبدو أن سيرة ابن المقفع، كمؤلف وكاتب، تجعله على الدوام في موقع المعارض للسلطة العباسية والداعية إلى الثورة عليها، لا في موقع «الناشر والمروّج للقيم الكسروية وأيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية»، كما شُبّه للمفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري، الذي اتهمه في كتابه «العقل الأخلاقي العربي» بذلك. وعنده أن نصوص ابن المقفع التي تمجّد الطاعة وردت كلها في «الأبواب الفارسية» من «كليلة ودمنة»، ولكنه أضاف أن الأبواب الهندية من الكتاب خالية أو تكاد من هاجس تكريس الطاعة والحثّ عليها. بل إن فيها عبارات تندّد بالطغيان وتحذّر من «مصاحبة السلطان». «ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن هذا الاختلاف الذي يبلغ درجة التناقض يرجع إلى كون الموروث الهندي خالٍ من هاجس الطاعة، وأن هذا الهاجس من خصوصيات الموروث الفارسي أو من إضافات ابن المقفع. ولا نستطيع أن نجزم بهذا، لأن نصوصًا أخرى لابن المقفع «كالأدب الكبير» و«الأدب الصغير» تتسم هي نفسها بهذا، النوع من التناقض، بل لربما كان التحذير من صحبة السلطان راجحًا فيها على الحث على الطاعة».
ولكننا نستطيع نحن أن نجزم بأن ابن المقفع، استنادًا إلى مجمل ما كتب، وبخاصة كتابه كليلة ودمنة، كان كاتبًا معارضًا للسلطة، لا كاتبًا مواليًا لها، ولا داعية لطاعتها، بل كان صاحب مشروع تنويري مبكر تجاوز الثورة على السلطان إلى إرساء قيم فكرية تربّى عليها في مجتمع البصرة الذي كان مجتمع تلاقح بين ثقافات شتى منها العربية والفارسية والهندية واليونانية فُجع بغيابها في زمن المنصور ومن قبله شقيقه المعروف بالسفّاح. ليس من بين هذه القيم الطاعة لسلطان جائر، بل الثورة عليه. ويمكن للمرء أن يلتمس قيمًا فكرية كثيرة تضع ابن المقفع في عداد التنويرين الكبار في تراثنا، منها نقد التعصب الديني وتمجيد العقل. وهذا ما لاحظه الباحث التونسي الدكتور عبدالوهاب المؤدب في كتابه «رهان على الحضارة» الصادر عن «منشورات سوي» في باريس.
فقد ذكر أن ابن المقفع في مقدمته لـ «كليلة ودمنة» يعتبر أن الأخلاق منفصلة عن المعتقد الديني. فالمرء قد يتظاهر بالإيمان والورع وأداء الشعائر، ولكنه يمارس الغش أو السرقة وبقية الموبقات والرذائل.
ويرى عبدالوهاب المؤدب أن ابن المقفع يرهص بكانط. ومعلوم أن كانط هو فيلسوف التنوير الأول في أوربا بعد فولتير وروسو. والواقع أن ابن المقفع يدعو لا إلى طاعة السلطان ونشر القيم الكسروية، بل إلى إعلاء شأن العقل والعقلانية والالتزام بأحكامهما، وليس في ما بثّه في كتبه ما يجعله غيورًا على الخليفة المنصور الذي عاصره، أو داعيًا إلى طاعته. والغريب أن موت ابن المقفع جاء على يد هذا الخليفة. ففي سيرته أنه كان كاتبًا لعيسى بن علي، ابن أخي المنصور، حين خرج عبدالله بن علي يدعي أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه المنصور. ولما قضى المنصور على ثورته هرب إلى أخيه سليمان وهو عند عيسى بن علي، فكتبا إلى المنصور أن يؤمنهما على ابن عمهما الثائر، وكان ابن المقفع كاتبًا له، فتولّى صيغة الأمان فشدّد فيه الخناق على المنصور مشترطًا عليه شروطًا مهينة إن هو غدر بالأمان، منها: «ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبدالله بن علي فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون على حلّ من بيعته»، مما أثار غضب المنصور فانتقم من ابن المقفع، كاتب نص الأمان، بأن أوعز بقتله. فهل يكون والحالة هذه محسوبًا على الخليفة، ومن دعاة طاعته، أم محسوبًا على الحرية؟
الشائع بين الباحثين العرب في القرن العشرين، ومنهم الدكتور عبدالوهاب عزام، الذي كتب مقدمة إحدى طبعات «كليلة ودمنة»، أن الكتاب «منقول من الفارسية إلى لغتنا»، ولكن باحثين آخرين معاصرين لنا، شكّوا بنسبة هذا الكتاب إلى غير العربية.
كتاب عربي الهوية
قال هؤلاء ومنهم الدكتور محمد رجب النجار، أستاذ التراث الشعبي سابقًا في جامعة الكويت، إن ابن المقفع انتفع بلا ريب بما قرأ من قصص الحيوان باللغة الفارسية التي نشأ عليها، ولكن كتاب كليلة ودمنة الذي نعرفه في تراثنا هو كتاب عربي الهوية :«أعتقد أنه آن الأوان لأن نعيد لكتاب كليلة ودمنة هويته العربية كاملة، بعد أن ظل لأكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الزمان مشكوكًا في نسبه ونسبته، في نسبه إلى الإبداع القصصي العربي، وفي نسبته إلى مؤلفه الحقيقي ابن المقفع الذي شاع خطأً أنه ناقله لا مبدعه، على الرغم من أن ابن المقفع نفسه لم يصرح بترجمة الكتاب، وإنما هو استنتاج استنتجه القدماء من قوله في أول سطر من تقديمه «هذا كتاب كليلة ودمنة وهو مما وضعه علماء الهند»، مشيرًا بذلك إلى أمور منها التنبه إلى مصادره الأساسية التي اعتمدها في تأليف الكتاب، كما تقتضي الحقيقة العلمية، ومنها رغبته في ترويج الكتاب وإضفاء قيمة أدبية عليه بنسبته إلى علماء الهند المعروفين آنذاك ببراعتهم في تأليف كتب الحكمة السياسية على لسان الحيوان، وذلك أمر كان شائعًا، كما يقول الجاحظ، بين كتّاب ذلك الزمان أيضًا، إذ كانوا يؤلفون الكتب وينحلونها غيرهم.
ولفت إلى أن ابن المقفع من بينهم، مكتفين بالإشارة إلى أن دورهم لا يتعدى النقل أو التفسير، ترويجًا وذيوعًا لها، وحتى يكثر انتساخها بين الملوك والسوقة على حد تعبير ابن المقفع. وهذا يعني من ناحية أخرى، وعلى مستوى الدليل التاريخي، أن ابن المقفع لم يدّعِ الترجمة حذر السلطة ومداراة لها كما قد يتبادر إلى الذهن، فقد أصدر من قبل عددًا من الرسائل في النقد السياسي والاجتماعي والتربوي، ومنها رسالة الصحابة المعروفة في فن السياسة ونظم الحكم، كما كان له مندوحة بالهرب، إذا شاء، من وجه أبي جعفر المنصور بعد أن غضب عليه، وهو المعروف بقوة بطشه بالخصوم وشدة فتكه بمعارضيه».
إلى ذلك كله أشار ابن عمر اليمني (400 ه) إذ راح ينكر زعم وادعاء ابن المقفع بنقل الكتاب عن الفارسية، ومن ثم الهندية، وأنه نسبه إلى الفرس لغايات في نفسه، مادية ومعنوية، إبّان الصراعات الشعوبية بين العرب والعجم. وذكر ابن عمر اليمني صراحة أن الكتاب من «وضع» ابن المقفع، وأن مصادره متعددة، وأن هذا الأمر كان صنيع غيره من الكتاب. وهذا نص اليمني:
«.. هذا على أنه قد ذكر أن عبدالله بن المقفع، ناقل هذا الكتاب بزعمه، من الفارسية، هو واضعه وناسبه إلى الفرس تشييدًا بذكرها، وتنبيهًا على مآثرها، لعنايتها بنقل حكم الأولين، فإن كان كما قيل إن ابن المقفع هو مؤلف الكتاب، فإنه قد أخذ ما في أشعار المتقدمين من الحكم فنثرها، وألف عليها كتاب كليلة ودمنة، كما رأينا سهل بن هارون أخذ أمثال العرب المشهورة وحكمها المنشورة فألف عليها كتاب النمر والثعلب وكتاب ثعلة وعفراء»!
ويؤكد عمر اليمني هذا الكلام مرة أخرى بقوله: «.. قد ذكر أن عبدالله بن المقفع المدعي نقل هذا الكتاب من اللغة الفارسية هو واضعه» وابن المقفع «أخذ معاني أشعار حكماء العرب فنثرها وألف عليها هذا الكتاب».
دليل تاريخي
أما أن يكون الكتاب عربيًا، تأليفًا وإبداعًا، شكلًا ومضمونًا، هدفًا وغاية، فهذا ما يكون الدليل التاريخي السابق. وهذا أيضًا ما بدأ يذهب إليه في السنوات القليلة الماضية عدد من الباحثين العرب في ضوء الدراسات المقارنة، خاصة بعد العثور على الأصول الأولى للكتاب والتي أفاد منها ابن المقفع، وقد ترجمت حديثًا إلى العربية، ومنها الكتاب الهندي الذائع الصيت: أسفار الحكمة الخمسة، أو «البنجاتنترا» التي عرفها واعتمد عليها ابن المقفع من خلال ترجمتها الفارسية البهلوية القديمة .وقد ذكر البيروني أن اسمها «البنجاتنترا»، وكان يودّ أن ينقلها من الهندية مباشرة إلى العربية لولا أن ابن المقفع سبقه إلى ذلك، وأضاف إليها فصولًا على حد تعبيره. وفي سنة 1876 تم العثور على الترجمة السريانية للبنجاتنترا التي قام بها السريان سنة 570 نقلًا عن الفارسية أي البهلوية القديمة.
هذا حول «عروبة» كتاب كليلة ودمنة وجدارته بالانتماء إلى التراث العربي، أما مؤلفه عبدالله بن المقفع، فانتماؤه واضح إلى الفرس، وقد تربى على لغتهم حتى بلغ سن المراهقة قبل أن يدرس العربية ويتقنها كما أتقن الفارسية في مدينة البصرة التي ازدهرت فيها ثقافات ولغات مختلفة وكانت بداية انفتاح العرب على سواهم من الشعوب والأقوام ويختلف باحثون عرب محدثون في تقييم شخصيته.
ومن أطرف ما ذكره الدكتور طه حسين في هذا الشأن أن ابن المقفع لم يكن أكثر من مستشرق يحسن اللغة العربية والفارسية ويبذل جهدًا عظيمًا فيوفق كثيرًا ويُخطئ أحيانًا.
رأي طه حسين
وفي الوقت الذي يرى باحثون آخرون أن ابن المقفع استطاع أن يصوغ ما كتب في أسلوب عربي اعتُبر، عن صواب أو خطأ، مثلًا أعلى في البلاغة، وأن نصوصه تُتداول ليس فقط من أجل مضمونها، بل أيضًا من أجل أسلوبها، وأنها كانت تؤخذ كنماذج لتعليم الكتابة، أي «الإنشاء»، فإن لطه حسين رأيًا آخر. فعنده أننا عندما نقرأ كتابة ابن المقفع نجد فيها شيئًا من الالتواء والدوران، ونحسّ، عندما نقرأ، أن الكاتب يجد مشقة في التعبير عن المعاني التي يحسّها، ونحسّ هذا الضعف الذي يكلفه الكاتب للعربية، نحسّه لا بعقولنا وحسب، بل بآذاننا، فنجد أن ابن المقفع يكلف النحو العربي تكاليف ربما لم يكن النحو العربي مستعدًا لأن يتحملها!
ومع أن آخرين ينعتونه بأنه زعيم الكتّاب وصاحب الآيات وواضع المثل الأعلى للكتابة، فإن طه حسين يرى أنه لم يكن «عظيم الحظ من الفصاحة والنحو العربي». ولكنه يفسّر «ضعفه» هذا في أنه كان يكتب في أول عهد النثر الفني بالوجود. فليس غريبًا ألاّ يستقيم له النثر كما كان يستقيم لرجل كعبد الحميد الكاتب.
ولكن لعبدالله بن المقفع فضائل كثيرة لم يشر إليها ناقدوه، منها أن كتابه «كليلة ودمنة» هو أول كتاب بلغة العرب بعد القرآن، وأن هذا الكتاب طُبع ما لا يُحصى من الطبعات في بلدان عربية شتى، وما زال يُطبع إلى اليوم ويُدَرَّس في المدارس ويُتداول بين القراء. فهو كتاب ذو فائدة في تربية النشء على الخصوص، وفي كون تأثيره قد تجاوز بلاد العرب إلى الغرب فألهم كتّابًا كثيرين فيه، في طليعتهم لافونتين الفرنسي، قصصًا على ألسنة الحيوان، شبيهة بقصص ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة.
ولا يزال ابن المقفع، سيرةً وأدبًا، يثير جدلًا واسعًا إلى اليوم. ففي الوقت الذي يرى عبدالوهاب المؤدب في ابن المقفع أحد رجال التنوير الكبار في التراث العربي، يرى فيه محمد عابد الجابري صاحب مشروع حضاري قوامه إلباس الدولة العباسية الناشئة لباس الدولة الساسانية، كما أن نصوصه تخلو تمامًا من أي عناصر إسلامية أو عربية. فلا ذكر لآية قرآنية ولا لحديث ولا لقولة صحابي، أو لشيء عربي، في الجاهلية والإسلام. ولكن هذا السكوت المطبق والمتعمد عن المرجعيات العربية والإسلامية يوازيه ويعضده السكوت عن المرجعيات الفارسية. فهو لا يذكر لا أردشير ولا أنوشروان ولا بزرجمهر، ولا يشير إلى أي مرجعية فارسية، حتى ولو كانت من قبيل «قال حكيم فارسي»، وبرأي الجابري هذا السكوت غير بريء، ولا يمكن أن يُفسّر إلا بأنه كان من أجل السكوت عن المرجعيات العربية والإسلامية.
مشروع تنويري
ويتفق المؤدب والجابري في كون ابن المقفع منوّرًا أو صاحب مشروع تنويري حضاري، ولكنهما يختلفان في مضمون هذا المشروع. فالمؤدب يرى أن ابن المقفع ينتقد التعصب الديني ويمجّد العقل، بل ويصل به الأمر إلى حد القول بأن الأخلاق مستقلة عن الاعتقاد الديني. فهو على هذا الأساس «مدني» و«علماني» بالتعبير الحديث، ولم يكن من الممكن مطالبته بغير ذلك، لأنه عندما كتب «كليلة ودمنة» لم يكن قد اعتنق الإسلام. فقد كان على مذهب المانوية. ومن غير المعقول مطالبة المانوي بأن تكون له مرجعيات عربية أو إسلامية، فهو مجرد مثقف أو كاتب منفتح على ثقافات كثيرة، وليس مجرد كاتب عربي مثل عبدالحميد الكاتب أو سواه.
ولكن هذا الكاتب عندما دعا، أو روّج، للقيم الكسروية، فإن دعوته هذه لا تختلف في اعتقادنا عن دعوة مثقفين عرب معاصرين لنا اليوم، إلى الانتفاع بالنظم والقيم والمؤسسات السائدة في الغرب لبناء الدولة العربية الحديثة.
كانت بغداد العباسية في تلك الفترة مدينة ناشئة مفتقرة إلى ما لا يُحصى من «القيم» التي كانت سائدة في المدينة أو الحاضرة الساسانية، فطمح هذا المثقف الليبرالي الكوسموبوليتي، الذي كان عبارة عن جسر بين ثقافتين وحضارتين، إلى أن تستفيد الدولة العربية الناشئة من تراث دولة أجنبية عريقة في الحكم. وهو ما دأب على الدعوة إليه مفكرو عصر النهضة ومفكرون عرب كثيرون إلى اليوم. أما إذا كان قد دعا مرةً إلى ما سمّاه الجابري بـ «أيديولوجيا الطاعة» للحاكم، فقد كان من جملة التناقضات التي وقع فيها الكتاب عادةً، من دون أن ننسى موقفه من الحاكم العباسي وموقف هذا الحاكم منه.
ونحن نميل إلى تقييم عبدالوهاب المؤدب. فابن المقفع صاحب مشروع تنويري من خلال مجمل ما كتب. وهذا المشروع موجّه إلى الجمهور الذي كتب بلغته وعاش بينه، أي إلى العرب، من دون أن ينفي أحد تشبّع صاحبه بلغته الفارسية وتأثره بآدابها. ولم يخطئ الجابري عندما لاحظ خلوّ أدبه من أي مرجعية عربية أو إسلامية، وكأنما الدين عنده له ميدانه الخاص. فهو مشرّع للعبادات وبعض المعاملات. أي أن هناك فصلًا بين شؤون الدين وشؤون الحياة، وهذا الفصل اقتضته الإرادة الإلهية، «وذلك أن الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدين والعقل. الدين شُرّع لأمور العبادة وبعض أمور المعاش وترك الباقي وهو كثير لا يُحصى «للعقل». ولو أن الدين شرّع في كل شيء لكانوا قد كُلّفوا غير وسعهم، ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغوًا لا يحتاجون إليها في شيء». وفي هذا يتفق الجابري مع المؤدب الذي لاحظ انتقاد ابن المقفع في كتبه للتعصب الديني وتمجيده للعقل.
ويبقى ابن المقفع كاتبًا ليبراليًا مبكرًا في التراث العربي الإسلامي، إن لم يكن أول كاتب في الإسلام بالمعنى الحديث للكلمة. فما زالت كتاباته تنبض إلى اليوم في حين شاخت كتابات أخرى كثيرة، سواء من زمنه أو من الأزمنة التي جاءت بعده، وفي طليعة كتاباته هذه «كليلة ودمنة»، الذي ما زال يصول على القدم ويأبى أن يغادر قاعات التعليم ويقرأ الناس حكاياته بشغف وكأنه كُتب في مطالع القرن العشرين لا قبل آلاف السنين.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
لماذا تكون الجبال أكثر برودة من الأماكن الأخرى
إرهاق العمل وكيف يقتلنا الروتين
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق