لُوِيجي مايَر
هناك نسبة قليلة من القراء العرب على معرفة بالرسام الأوربي لُوِيجي مايَر، الذي يعد من أفضل الفنانين الأوربيين الذين رسموا معالم الامبراطورية العثمانية وشرق أوربا وشمال إفريقيا في أواخر القرن الثامن عشر.
حيث إن
القراء العرب قد
انصبَّ جُلُّ معرفتهم
بتاريخ الفن الغربي
الحديث المرتبط بالعالم
العربي على أشهر
الفنانين الأوربيين الذين
زاروا الشرق الأدنى
ومصر في القرن
التاسع عشر، أمثال
البريطانييْن
ديفيد روبرتس (1796-1864)
وجون فردريك لويس (1805-1876)
والفرنسي جيروم (1824-1904)
والفرنسي بريس
دافن (1807-1879)، وكثيرين غيرهم
من جنسيات أوربية
مختلفة.
لم ينل
الرسام لويجي ماير
في مكتبتنا العربية
قدرَه اللائق به
وبلوحاته التي جادت
بها أناملُه وحسُّه
المعماري الفني، وربما
يرجع السبب في
ذلك إلى الثمن
الباهظ للوحاته وندرتها
في المطبوعات الفنية
العربية، وإلى ندرة
التفاصيل عن حياته؛
فلم يُذكر عنه
في المصادر العربية
إلا صفحة واحدة
في كتاب وزير
الثقافة المصري الراحل
د. ثروت عكاشة،
امصر في عيون
الغرباءب، الذي أرّخ
فيه للمستشرقين والفنانين
الغربيين الذين زاروا
منطقة الشرق الأدنى
وتركيا ومصر في
أواخر القرن الثامن
عشر وحتى بداية
القرن العشرين.
ونظرًا إلى
هذه الندرة في
المعلومات المكتوبة عنه
باللغة العربية وعن
أعماله الفنية الفريدة
في محتواها الفني
وفي تغطيتها للمدن
والأقاليم العثمانية بتركيا
والشرق الأدنى ومصر
وشمال إفريقيا، فضلًا
عن أوربا، فإننا
نتناول في هذا
المقال التعريف به
وبأعماله، وبالظروف التي
رعى فيها عملَه
الفني الدبلوماسيُّ البريطاني
الشهير، السفير روبرت
إينزلي، منذ قرنين
من الزمان، مما
خلّد اسميهما معًا
في تاريخ الفن
الحديث.
وُلد ماير
بألمانيا عام 1755م، في
عائلة اندمجت فيها
الأصول الألمانية والإيطالية،
وانتقل مع عائلته
للمعيشة في روما،
حيث تعلّم الرسم
بالألوان المائية والحفر
الفني على الخشب
والإستيل على يد
الرسام الإيطالي الشهير
بيرانيزي (1720-1778م)،
الذي اشتهر بلوحاته
المائية المحفورة للمعالم
الأثرية القديمة والمباني
الحديثة في إيطاليا،
ثم عمل في
بلاط ملك نابولي
فرديناند، ورسم تحت
رعايته عددًا من
اللوحات للمباني الأثرية
في صقلية. وهنا يقول
د. عكاشة في
تناوله لسيرة هذا
الفنان في كتابه
المذكور: اتكشف لوحات
لويجي ماير عن
انتقال الاهتمام في
أواخر القرن الثامن
عشر ومطلع القرن
التاسع عشر إلى
تصوير المعالم المعمارية
وما يحيط بها
من مشاهد، مصحوبة
بشروح غزيرة مستفيضة.
الإكزوتيّة الأوربية ورحلة ماير إلى الشرق
يرجح مؤرخو
الفنون أنه بحلول
عام 1776
تقريبًا، أراد
ماير أن يرتحل
إلى الشرق لرؤية
بيئات جديدة تصلح
لأعماله الفنية، خاصة
تلك المرتبطة بالمعالم
الأثرية، بعد أن
رسم لوحات عدة
عن المباني والمناظر
الطبيعية في صقلية
لحساب الملك فرديناند،
واختار أن تكون
وجهته الأولى تركيا.
وتصادف وقتها
أنه مع انحدار
الامبراطورية
العثمانية، انتشر الولع
الأوربي بمظاهر الحياة
فيها وبأشهر معالمها
وولاياتها، فيما عُرف
بمذهب الإكزوتية.
وكانت فرنسا
هي الأولى في
الولع بما هو
تركي، وكان الفنانون
الفرنسيون المقيمون في
إسطنبول وما حولها
أسبق إلى استخدام
مواهبهم في هذا
المجال، برعاية السفراء
الفرنسيين، بينما لم
يكن السفراء الإنجليز
في إسطنبول يُلقون
بالًا لرعاية الفنانين
الإنجليز، إلا في
الربع الأخير من
القرن الثامن عشر،
وذلك عندما عُيّن
سفير جديد لإنجلترا
بعقلية أدبية وفنية
مختلفة عن سابقيه،
وهو السير روبرت
إينزلي 1730
- 1812)م) وكان
تعيينه سفيرًا لدى
الباب العالي قبيل
زيارة ماير لتركيا
هو البداية لبزوغ
الأخير كعلامة فنية
متميزة في سماء
الاستشراق والفن.
إينزلي و«الإكزوتية» البريطانية
في 20
سبتمبر 1775، عُيّن
البارون روبرت إينزلي
سفيرًا لبريطانيا في
الأستانة، عاصمة الدولة
العثمانية، خلفًا للسير
جون موراي. وجاء
تعيينه هناك في
فترة ساءت فيها
العلاقات العثمانية - البريطانية،
بسبب دعم بريطانيا
لروسيا بأسطول حربي
لمواجهة الباب العالي
في الحرب الروسية
- العثمانية (1768-1774م)،
وكان ذلك في
عهد السلطان العثماني
مصطفى الثالث (1757-1773م)،
الذي كان بداية
الانحلال الحقيقي للدولة
العثمانية.
وبرغم ذلك،
فإن السلطان عبدالحميد
الأول، الذي تولى
حكم الدولة العثمانية
خلفًا لشقيقه مصطفى
الثالث في الفترة
بين (1773-1788م)،
كان توّاقًا
إلى بناء روابط
سياسية وتجارية متينة
مع بريطانيا تساعده
في حربه ضد
الروس، فوثّق بالتالي
علاقته مع سفيرها
إينزلي.
أعجبت السفير
إينزلي الحياة الجديدة
في الأستانة. وعلى عكس
مَن سبقوه في
منصبه من السفراء
البريطانيين،
فقد أقلم نفسه
مع العادات والتقاليد
التركية؛ فأسس منزله
وحديقته وحجرة طعامه
على النظام التركي
الإسلامي، وتزيّا بأزياء
المسلمين الأتراك، وعاش
بالأسلوب التركي في
حياته واتصالاته مع
الناس، فأثنى عليه
عامة الناس في
تركيا وخاصتهم، لمخالفته
أسلوب سابقيه من
السفراء الذين لم
يتنازلوا عن التمسك
بأسلوب معيشتهم الأوربي
المسيحي واحتقارهم الأتراك.
واحتفظ السفير
إينزلي في منزله
بعدد من القطع
الأثرية التركية والبيزنطية،
ومجموعة كبرى من
العملات المعدنية القديمة
من شمال إفريقيا
وشرق أوربا والشرق
الأدنى، إضافة إلى
كمية من المخطوطات
واللوحات القديمة والمحفورة
على الخشب، وكان
اهتمامه باقتناء مثل
تلك اللوحات عن
الدولة العثمانية هو
الأساس في ظهور
لوحات ماير إلى
الوجود وإلى عالم
الفن الاستشراقي.
لقاء ماير وإينزلي
في أثناء
زيارة ماير لإسطنبول،
التقى السفير إينزلي
ونشأت بينهما صداقة
وطيدة. وتحمّس الأخير
لغرض ماير في
رسم لوحات فنية
للمعالم والمناظر الطبيعية
في الشرق الأدنى
وبقاع الدولة العثمانية؛
فقام برعايته، وأنفق
على رحلاته وأمده
بالمصاريف اللازمة لذلك،
فقام ماير برحلة
شاملة منذ ذلك
العام 1776
يسجل خلالها بريشته
المباني الشهيرة والآثار
وبعض مظاهر الحياة
الاجتماعية والعادات المحلية
في الولايات والمدن
العثمانية؛ بدأها من
إسطنبول، ثم مدن
إقليم الأناضول( آسيا
الصغرى)، وجزيرتَي رودس
وقبرص، والشام وفلسطين،
ومنها إلى مصر
ووادي النيل، ثم
واحة سيوة المصرية،
ثم إلى ليبيا
وقرطاجنة في تونس،
ثم عاد في
نهاية المطاف إلى
إسطنبول عام 1792؛ حين
انتهت مدة تعيين
إينزلي سفيرًا لبريطانيا. ورجع الاثنان
معًا إلى لندن،
ومرّا في رحلة
رجوعهما على الشطر
الأوربي من الدولة
العثمانية، ورسم ماير
- خلال رحلة العودة
هذه - بعض المعالم
الشهيرة في بلغاريا
وجبال البلقان ورمانيا
واليونان. وبعد وصولهما
إلى لندن كان
جزء كبير من
لوحات ماير قد
صار في حوزة
إينزلي، الذي عمل
على نشرها في
لندن.
ظهور لوحات ماير
عمل إينزلي
في لندن بمعاونة
ماير على إعداد
لوحاته للنشر، وكانت
اللوحات التي استقر
رأيهما على ظهورها
للجمهور تفوق المئة
وعشرين لوحة؛ فجمعها
إينزلي في كتب
متفرقة، وقسّم اللوحات
المرتبطة بكل إقليم
جغرافي في كتابٍ
على حدة، ثم
قام بالتعليق عليها
وشرحها من النواحي
التاريخية أو الاجتماعية
أو الأثرية.
وكان نتاج
ذلك صدور تلك
اللوحات في 4 مجلدات، ظهر
الأول منها في
حياة ماير بعنوان
امناظر من مصرب
عن مصر وشعبها،
ونشره في لندن
عام 1801، باللغتين الإنجليزية
والفرنسية معًا.
وتعد هذه
الطبعة ولوحاتها شديدة
الندرة؛ حيث لا
تتوافر منها أي
نسخة إلكترونية، كما
لم تتم إعادة
طبع ذلك الكتاب
في أوربا بنسخ
ورقية حديثة حتى
الآن. وتوجد منه
نسختان؛ الأولى بمكتبة
المتحف البريطاني، والثانية
في مكتبة أوفرستون
بجامعة ريدنج البريطانية.
وتباع نسخة
وحيدة منه فقط
في أحد المتاجر
بفيينا بمبلغ يناهز
العشرة آلاف دولار. وقد استقى
د. عكاشة من
تلك الطبعة عشر
لوحات أدرجها في
كتابه الشهير السالف
ذكره.
وأثارت هذه
اللوحات عن مصر
اهتمام الأوربيين وإعجابهم
في ذلك الوقت،
حيث إن كتاب
اوصف مصرب لعلماء
الحملة الفرنسية لم
يكن قد طُبع
بعد، ولم يُنشر
المجلد الأول منه
الخاص بالمصريين المُحدَثين
إلا خلال عام
1809 في باريس، فضلًا
عن اكتمال صدور
مجلداته الـ 26 ولوحاته عام
1822 .
أما المجلد
الثاني فكان بعنوان
امناظر من الامبراطورية
العثمانيةب ونشره إينزلي
في لندن عام
1803، وألحق به
24 لوحة من
لوحات ماير عن
المدن التركية في
آسيا الصغرى، وإقليم
كارامانيا بجنوب الأناضول،
وجزيرتَي رودس وقبرص،
وقرطاجة في تونس
وطرابلس الليبية. والثالث امناظر
من فلسطينب، ونشره
في لندن عام
1804 بعد وفاة
ماير المفاجئة عام
1803 عن عمر
ناهز الـ48 عامًا،
وضم ذلك الكتاب
24 لوحة عن القدس
وبيت لحم.
مجلد واحد
يذكر أن
تلك المجلدات الثلاثة
السابقة قد ضمها
إينزلي بعد ذلك
في مجلد واحد
عام 1804
بعنوان امناظر من
مصر وفلسطين وأماكن
أخرى بأراضي الامبراطورية
العثمانية.
ثم ظهر
المجلد الرابع الذي
حمل عنوان امناظر
من الولايات العثمانيةب
عن مدينة إسطنبول،
وتركيا بشطريها الأوربي
والآسيوي، وبعض مدن
الشام، والجُزر الواقعة
تحت السيادة العثمانية
في البحر المتوسط،
ومدينتي القدس وبيت
لحم، ومصر وسيوة
وليبيا. واحتوى على
71 لوحة عن
تلك المدن والولايات
العثمانية، ونشره في
لندن عام 1810.
ومن الجدير
بالذكر أن مؤرخي
الفنون يؤكدون أن
ما نُشر من
أعمال ماير في
تلك الكتب الأربعة
السابقة هو جزء
ضئيل من لوحاته،
ربما بسبب وفاته
المفاجئة عام 1803؛ بدليل
أن هناك عديدًا
من الهواة في
تركيا وأوربا وأمريكا
لا يزالون يحتفظون
بلوحاتٍ له ورثوها
عن أجدادهم، يُكشف
عنها النقاب بين
حينٍ وآخر، ولم
تُسجل في المتاحف
أو الجامعات.
وقد أوصى
إينزلي بإهداء اللوحات
التي كانت في
حوزته إلى المتحف
البريطاني في لندن،
حيث توفي عام
1812 في العاصمة
البريطانية،
أي بعد أن
نَشر المجلد الأخير
امناظر من الولايات
العثمانيةب بعامين. بعد هذا
التناول لمسيرة ماير
الفنية وعرْض بعض
لوحاته المُدْرجة في
الكتب الأربعة، نرجو
أن نرى دور
النشر العربية قد
اهتمت بترجمة تلك
الكتب ونشرها للقراء
العرب مصحوبةً بلوحاتها،
تلك اللوحات التي
كانت شاهدةً على
تزاوج الفن والدبلوماسية،
وعلى عزم الفنان
على نقل فنه
إلى الناس بلا
كلل ولا إهمال،
ذلك العزم والتعاون
اللذان خلّدا اسمي
ماير وإينزلي في
عالم الفن والاستشراق
وأدب الرحلات، بل
وتاريخ الدولة العثمانية
وأقطار الشرق الأدنى
قرب نهاية القرن
الثامن عشر
.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
كيفية
اتخاذ قرار اختيار المهنة
الحرباء
تعريفها ووصفها وبماذا تشتهر
معلمو
اللغة العربية بين سندان الضحية ومطرقة الجاني
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق