القاعدة 28 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السطوة)
الحكمة:
لا تبدأ مساراً معيناً من التحركات دون أن تكون واثقاً من نتائجه. الشَّكُّ والتَّرَدُّد يُضعفُ أداءَك، والاستسلام للخوف يدمّرك. الأفضل لك أن تتقدم بجرأة لأن الأخطاء التي يصنعها الإقدامُ يمكنك أن تحلها بالمزيد من الإقدام، كما أن الناس جميعاً يحترمون الشجعان والواثقين من أنفسهم ولا أحد يُوَقِّرُ الجبناء.
الجُرأة
والتَّرَدُّد: تختلف الجرأة كثيراً عن التردد في
تأثيرها النفسي على من تستهدفهم: فالجرأة تُيَسِّرُ لك الأمور، بينما يضع التَّرَدُّد
العراقيل في طريقك، وبمجرد تَنَبُّهك لذلك ستجد أن عليك أن تتغلب على الجبن
الطبيعي المفطور عليه الإنسان، وأن تَتَعَلَّمَ أن تَتَصَرَّفَ بإقدام. ونعرض فيما
يلي للتأثيرات النفسية الأبرز للجبن والإقدام.
أَفضلُ
الكذب أَجرأُهُ. لا يخلو أحدٌ أبداً من نقاط الضعف،
ولا يمكن لجهودنا أن تكون كاملة، إلا أن الإقدام له تأثير السحر في إخفاء النقائص
والعيوب. ويعرف أساتذة الاحتيال أن الكذبة الأجرأ تُقنع الناس ويسهل عليهم
تصديقها، فالقصة الأكثر جرأة وتبجحاً تُشَتِّتُ انتباه المستمعين عن التناقض في
تفاصيلها. إن كُنتَ تمارس أيَّ نوع من التحايل أو التفاوض فاحرص أن تطلب أكثر
كثيراً مما تطمح إليه، وسَتُفاجَأُ أنك غالباً ما تنال ما تطلبه.
تَلْتَفُّ
الأسود حول الفريسة الخائفة والمُتردّدة.
لدى الناس حاسَّةٌ فطرية لاكتشاف ضعف الآخرين، فإن أظهرتَ في مقابلاتك الأولى أي
استعداد للمساومة والتهاون فستجد الذئاب تنطلق من داخل حتى من تظنهم أكثر الناس
طيبة ووداعة. كل ما تحققه من نتائج يعتمد على كيف يراك الآخرون، فإن عرفوا أنك
تميل للدفاع والتنازل فسوف يستنزفون منك المطالب دون رحمة أو هوادة.
الجرأةُ
تمنحك السَّطوةَ بترهيب الآخرين. الجرأة تجعلك
تبدو أكبر وأقوى من حقيقتك، وإن أظهرتَ جرأتك مباغتةً ودون توقع كالثعبان فستكون
خشيةُ الناس لك أكبر بكثير، ويمنحك ترهيب الناس بجرأتك سابقة تجعل من يتعاملون معك
لاحقاً يتخذون موقف الدفاع خوفاً من ضربتك المفاجئة التالية.
التَّقَدُّمُ
بقلب خائف يحفر القبر لصاحبه. إن لم تكن ثقتك بنفسك
كاملة حين تُقدِمُ على فعل شيء فسوف تخلق لنفسك العراقيل التي تعيقك، وحين تأتيك
العراقيل بالفعل ستجد الخوف يُشَوِّشُ على تفكيرك ويجعلك تؤمل نفسك بفرص ليست
حقيقية ويزيد ذلك من مشاكلك وتصبح كالفريسة التي يجعلها خوفها من الصياد تدخل
بسهولة في شباكة.
التردد
يخلق الفجوات والجرأة تسدها. حين تتوقف للتفكير قبل
اتخاذ قرارك ستفتح ثغرة للآخرين للتفكير بدورهم، وسيعدي خوفك المترددين وغير
المتحمسين منهم ويزيد من الحرج والارتباك ويأخذ كل منكم في التشكك في نوايا الآخر.
تسدُّ
الجرأة هذه الثغرات ولا يترك الحماس وسرعة التحرك للآخرين حَيِّزاً للخوف والتشكك.
وفي الغواية يكون التردد قاتلاً لأنه يجعل من تَتَوَدَّد لها تدرك ألاعيبك؛ بينما
تتوج الجرأة تحركاتك بالنجاح لأنها لا تترك للمرأة وقتا للتفكير.
الجُرأة
تُمَيِّزك عن القطيع. الجرأة تمنحك حضوراً
ومهابةً وتجعلك تبدو استثنائياً ومختلفاً، فالجبناء لا يلاحظهم أحد وسط زحام
الجموع، أما أصحاب القلوب التي لا تهاب فتبرز في المقدمة ويلفتون الأنظار. ومن
يلفت الأنظار تكون له السطوة ولا يستطيع أحد أن يتجاهله أو يتعدى عليه حيث يخشى
الناس من ردود أفعاله التي لا يتوقعونها.
مراعاة
القاعدة:
في
عام 1925
تَلَقّى خمسةٌ من أنجح رجال تُجّار الخُردَة في فرنسا دعوةً لحضور اجتماع «رسمي»
ولكنه «سري للغاية» مع نائب المدير العام لوزارة البريد والتلغراف الفرنسية في
فندق کريون؛ وكان وقتها أفخم الفنادق في باريس. حين وصل رجال الأعمال الخمسة إلى
الفندق وجدوا المدير السيد لوستيج يستقبلهم بنفسه وقادهم إلى جناحه الفخم في
الطابق الأعلى.
لم
يكن أيٌّ من رجال الأعمال يعرف سبب هذا الاجتماع، وشعروا بالفضول يتلاعب بعقولهم،
وبعد تناول كؤوس الخمر بدأ المدير يشرح لهم قائلا «أيها السادة... ما طُلبتكم
لأجله مُلِحٌّ ويَتَطَلَّبُ السِّرِّيَّة التامة، فالحكومة راغبة في هدم برج
إيفل». أَصغَى التجارُ صامتين، فأكمل المدير أنَّ تقارير حديثة أَثبَتتْ أن البرج
في حاجة عاجلة لإصلاحات جسيمة، وأنه لم يكن مقصوداً من بنائه على أي حال سوى أن يكون رمزاً مؤقتاً لتدشين
معرض عام 1889،
وأن تكاليف إصلاحاته قد تفاقمت لمستوياتٍ مُرعبة على مَرِّ السنوات، وأنه سيصعب
على الحكومة في الأزمة المالية الحالية أن تُنفق الملايين اللازمة لإصلاحه. بل أن
الكثيرين من سكان باريس يرون فيه قَذَىً للأعين يَتَمَنُّون التَّخَلُّص منه، وأنه
بمرور السنوات سينساه حتى السُّيَاح، ولن يتبقى منه إلا ذكريات في الصور وبطاقات
المعايدة. وأنهي لوستيج كلامه قائلاً «أيها السادة... أنتم جميعاً مَدعوون لتقديم
عروضكم للحكومة لشراء برج إيفل».
قَدَّمَ
لوستيج للتُّجّار مستنداتٍ حكومية مليئة بالأرقام والمخططات البيانية مثل أوزان
المُكَوِّنات المعدنية بالبرج، واتَّسَعَتْ حدقاتُ عيونهم وهم يتخيّلون قَدْرَ
الرِّبح الذي يُمكِنهم تحقيقه من بيع هذه الخردة. بعدها صَحِبَهم لوستيج إلى سيارة
ليموزين نَقَلَتهم إلى البُرج، وأَخرجَ أمامهم بطاقةً رسميةً تسمحُ له
بالتَّجَوُّلِ في المنطقة، وأخذ يُلَطِّفُ الجولةَ بتعليقاته الطريفة. في نهاية
الجولة شَكَرَهم وطلب منهم التَّقَدُّمَ بعروضهم إلى جناحه بالفندق بعدها بأربعة
أيام.
قُدِّمَت
العروضُ في الوقت المُحَدَّد، وتَسَلَّمَ أحدهم وهو السيد «P» خطاباً يُفيد
قبولَ عَرضِه، وأن عليه أن يأتي بعدها بيومين حاملاً "شيك" بتأمين قدره 250,000
فرانك (أي ما يقدر بملايين الدولارات حالياً) وهو ربع إجمالي السعر، وعندها
سَيَتَسَلَّم الوثائق التي تُثبتُ مُلكيته للبرج. فَرِحَ السيد «P» أَنَّ التاريخ
سوف يَتَذَكَّره بأنه من اشتري وهَدَمَ برج إيفل المَعْلَم الفرنسي الشهير، لكن
عند وصوله للفندق ومعه الشيك شَعَرَ بالارتياب من الأمر بِرُمَّتِه، وأخذتْ
تُراوده التساؤلات والوساوس لماذا أُجرِيَ الاجتماع في فندقٍ وليس في أحد مكاتب
الحكومة؟ ولماذا لم يأتِ مسؤولون آخرون ليتحدثوا في الأمر؟ لَعَلَّ الأمرَ خدعة؟!
وبينما كان يستمع للوستيج يشرح له ترتيبات تفكيك البرج تَرَدَّدَ السيد «P» وبدأ يفكر في
الانسحاب.
فوجيء
السيد «P» بالمدير يُغَيِّرُ لهجته في الحديث،
وبدلاً من شروحه عن البرج أخذ يتحدث عن راتبه الضعيف وعن طلب زوجته منه أن يشتري
لها معطفاً من الفراء، وكيف
يُثقلون عليه بالأعمال دون أي تقدير لجهوده. تَبَيَّنَ للسيد «P» أن هذا الموظف
الكبير يُلَمِّحُ طلباً لرشوة، ولم يُزعجه ذلك بل أَراحَه وطَمأنه، وجعله يتأكد من
أن لوستيج موظف حكومي حقيقي لأنه في كل تعاملاته السابقة مع المسئولين الفرنسيين
كانوا دائماً يطلبون حلوان لجهودهم. بعد أن استعاد السيد «P» ثقته في المدير
قَدَّمَ إليه بضعة آلاف من الفرانكات على شكل سندات مالية، ثم قدم إليه شيك
التأمين، واستلم الوثائق الرسمية ومن بينها وثيقة مبايعة أنيقة التصميم، وغادر
الفندق وهو يحلم بما سوف يجنيه من الشهرة والأرباح.
في
الأيام التالية ظَلَّ السيد «P» ينتظر دون جدوى
وصول موفد الحكومة، وأدرك أنَّ في الأمر خدعةً، وبعد عدة اتصالات هاتفية عرف أنه
لا يوجد نائب مدير باسم لوستيج، وأن ليس هناك أي خطط لهدم برج إيفل، وتأَكَّدَ أنه
تَعَرَّضَ لاحتيالٍ كَلَّفَه أكثر من 250,000
فرانك.
لم
يتوجه السيد «P» لإبلاغ الشرطة بعدها أبداً لأنه كان
يعرف ما سيكلفه انتشار الخبر بأنه تعرض لأجرأ عملية احتيال وأكثرها سخرية في
التاريخ، فلم يكن ذلك يعني له استهزاء الجماهير فحسب بل الانتحار لاسمه وسمعته في
عالم التجارة والأعمال.
التعليق:
لو
حاولَ
الكونت فيكتور لوستيج المحتال الشهير والبارع أن يبيع قوسَ النَّصر أو الجسر الذي
على نهر السين أو تمثال بلزاك لما أَنصَتَ إليه أحد، لكن برج إيفل بضخامته كان
أكبر من أن يتصور الناس أن يجرؤ أحد على استخدامه للاحتيال. الأكبر من ذلك أن أحداً
لم يكن ليصدق أن يعود لوستيج إلى باريس بعد ذلك بستة أشهر «لِيُعيد بَيْع» برج
إيفل لتاجر خردة آخر وبسعر أعلى.
ضخامة
الحجم تُبهرُ العينَ وتُرهِبُ القلبَ وتُشَتِّت التفكير وتُؤَثِّر في الناس لدرجة تجعلهم لا يتشككون أبداً حين يكون
الأمر ليس أكثر من وَهْمٍ أو خدعة، سَلِّح نفسك بالجرأة والضخامة، واجعل خداعك يصل
إلى أقصى ما يمتد إليه خيالك ثم اطلب ما يتجاوزه، وإن رأيتَ مَن تفاوضه يرتاب أو
يتردّد افعل ما فَعَلَهُ لوستيج الجرئ، فبدلاً من التراجع أو خفض السعر طلب المزيد
أي الرشوة إضافة للسعر.
طَلَبُ
المزيد يجعل الطرف الآخر في موقف الدفاع ويمنعه من المساومة والارتياب في استحقاقك
لما تطلب ويجعلك تسيطر على الموقف بجرأتك وحدها.
مراعاة
القاعدة 2:
في
عام 1533
وحين كان فاسيلي الأكبر الدوق الأكبر لموسكو وحاكم روسيا شبه الموحدة يعاني سكرات
الموت أعلن ابنه إيفان الرابع الذي كان في الثالثة من عمره خليفةً له، وعَيَّنَ
زوجته هيلينا وَصِيَّةً على إيفان إلى أن يبلغ سن الرشد ويستطيع الحُكم بنفسه.
فَرِحَ
بذلك سراً البكوات النبلاء، ورأوا في ذلك فرصتهم في إهانة الأسرة الملكية واستعادة
سطوتهم من أدوات موسكو الذين ظلوا لسنواتٍ يوسعون نفوذهم على حساب البكوات؛ ولم
يعد يقف في طريقهم لتحقيق ذلك سوى حاکمٍ طفلٍ وَوَصِيَّةٍ عديمة الخبرة.
كانت
هيلينا الشَّابّة تُدرِكُ هذه المخاطر، فلجأت لصديقها الأمير إيفان أوبلونسكي
ليساعدها في الحكم، لكنها ماتت فجأة بعد خمس سنوات من الوصاية بعد أن وضع لها
السّمّ أَحَدُ أبناء عائلة شويسكي أكثر عشائر البكوات نفوذاً. سيطر أمراءُ شويسكي
على الحُكم ووضعوا أوبلونسكي في السجن وتركوه حتى مات جوعاً، هكذا وفي الثامنة من
عمره أصبح إيفان يتيماً ذليلاً، وكان عقابُ من يهتم به من الأسرة الحاكمة أو من
البكوات هو النفي أو القتل.
كان
إيفان يجولُ في القصر جائعاً مُمَزَّقَ الملابس مُختبئاً من آل شويسكي الذين كانوا
يعاملونه بقسوة كلما رأوه. وأحياناً كان آل شويسكي يبحثون عن إيفان، ويلبسونه
الرداء الملكي، ويُمسِكونه صولجاناً، ويُجلسونه على العرش كطريقة للسخرية من
أَحَقِّيَّتِهِ في المُلْكِ، وبعدها يضربونه ويطردونه. وفي إحدى الليالي أخذ العديدون منهم في مطاردة
المتروبوليتان رأس الكنيسة الروسية في أرجاء القصر، فاختبأ في غرفة إيفان، وأخذ
الطفلُ يراقب في رُعبٍ آل شويسكي يدخلون الغرفة وينهالون بالضرب والسّباب على
المتروبوليتان.
لم
يكن لإيفان داخل القصر صديق يُوَاسيه وينصحه سوى واحدٍ من البكوات اسمه فورنتسوف؛
لكن ذات يومٍ وبينما كان فورنتسوف يتحاور مع المتروبوليتان الجديد في حجرة الطعام
بالقصر، هجمت جماعةٌ من آل شويسكي وانهالوا على فورنتسوف بالضرب وأهانوا
المتروبوليتان بتمزيق ردائه وسَحْقِه بأقدامهم، وبعدها تَمَّ الحكم على فورنتسوف
بالنفي من موسكو.
تَأَمَّلَ
إيفان كُلَّ ما يجري صامتاً، وظَنَّ البكوات أن خطتهم قد كُلِّلَت بالنجاح: فقد
تَحَوَّلَ الشّاب إلى مَطِيَّةٍ لهم وأصبح أَبلهاً ومُطيعاً، ورأوا أن بإمكانهم
عَدَمَ شغل أنفسهم به، بل وتركه يفعل ما يريد. لكن في ليلة 19
ديسمبر من عام 1543
وفي الثالثة عشر من عمره طلب إيفان من الأمير أندريا شويسكي أن يأتي إليه في
غرفته، وحين دخل عليه الأمير وجد الغرفة مليئة بالحرس. أشار إيفان للحراس بالإمساك
بالأمير وقتله وإلقاء جثته لكلاب القصر، وفي الأيام التالية أَمَرَ بالقبض على كل
المقربين من أندريا ونفيهم. أخذت الجرأة المباغتة بألباب البكوات وملأت قلوبَهم
رعباً. هكذا وبعد خمس سنوات من الانتظار والتخطيط وبخطوة واحدة خاطفة وجريئة
استطاع إيفان أن يؤمن سطوته لعدة عقود في الحكم، وقد عرفه التاريخ باسم إيفان
الرهيب...
التعليق:
العالمُ
مليءٌ بأمثال البكوات من الأشخاص الذين يُخيفهم طموحُك ويخشون أن يُقلّل نفوذُك من
سطوتهم. ليس لك مفرّ من أن ترسخ مكانتك وتكتسب احترام الناس وتقديرهم، ولكن احذر
أن في اللحظة التي يستشعر فيها البكوات تزايد جرأتك سيعملون جاهدين على التقليل من
حجمك. الطريقة التي تَعَامل بها إيفان مع هذا الموقف
هي: أنه خَفَضَ جناح الذُّلّ وأخفى طموحه واستياءه وانتظر، وحين حانت اللحظة ضمَّ حراس القصر إلى صفه
واستغل ضيقهم بقسوة آل شويسكي، وحين تأكد له أنهم سيناصرونه في ضربته لم يتردد
ووجهها إلى الأمير ولم يُعطِه الفرصةَ لأيّ رَدِّ فعل.
مُساومةُ
البكوات لا تؤدي إلا إلى منحهم الفرصة ضدكُ والمساومة والتنازل معهم يفتحان لهم
الباب، لتمزيقك، لكن التصرف بجرأة والتحرك دون تمهيد أو نقاش يغلق عليهم كل السبل
ويُرَسِّخُ سلطتك ويرهب المشككين فيك والحاقدين عليك ويُكسبك إعجاب الكثيرين الذين
يوقرون ويُمجدون كل من يتصرف بشجاعة وإقدام.
مراعاة
القاعدة 3:
في
عام 1514
كان بيترو آرتينو في الثانية والعشرين من عمره ويعملُ في مهنة بسيطة وضيعة هي
مساعد طباخ لدى عائلة شهيرة من رومانيا، وكان يحلمُ أن يصبحَ كاتباً عظيماً يحتفي
العالم باسمه، ولكن كيف كان لخادمٍ مثله أن يحقق هذه المكانة؟
في
نفس هذا العام تَلَقّى البابا ليو العاشر إرساليةً من ملك البرتغال ومعها هدايا
كثيرة، من بينها فيلٌ كبير، وكان أولَّ فيل تراه روما بعد انهيار الإمبراطورية
الرومانية. أحبَّ البابا الفيلَ كثيراً وأَغدقَ عليه بالاهتمام والهدايا، على
الرغم من كل هذه الرعاية والحب مَرِضَ الفيلُ الذي كان قد سَمّاه "هانو"
مرضاً خطيراً، فَجَمَعَ له البابا الأطباءَ والذين جعلوه يتناول خمسمائة رطل من
الشراب المُسَهِّل، لكن لم يُجْدِهِ ذلك نفعاً.
مات
"هانو" وحَزِنَ عليه البابا حزناً شديدا،ً ولكي يُخَفِّفَ عن نفسه هذا
الحزن جعل رافاييل يرسم لـ"هانو" صورةً بحجمه الطبيعي، وضَعَها فوق قبره
وكَتَبَ عليها عبارة «ما أخذته الطبيعة استعاده رافاييل بفنه».
بعد
أيام قليلة انتشر بين سكان روما كُتَيِّبٌ (كتبه سرّاً بيترو آرتينو) أَضحَكَ كلَّ
من قرأَه، وكان عنوانه «الوصية الأخيرة للفيل "هانو" وشهادته على
العصر»، نقتطع منه ما يلي: «إلى وريثي الكاردينال سانتا
كروس أمنح رُكْبَتَيّ حتى يجيد الركوع مثلما كنتُ أفعل...، وإلى وريثي الكاردينال
سانتي كواترو أمنحه فمي كي يستطيع أن يلتهم التبرعات التي تُعطى باسم المسيح...،
وإلى الكاردينال مديتشي أُورثه أُذنيّ حتى يَتَجَسَّسَ على أفعال الجميع...»،
وأَهدى الفيلُ للكاردينال جراسي الشهير بالفجور خَلفيته الضخمة التي يستحقها.
لم
يَدَع الكُتَيِّبُ الذي لم يُذكر حينها اسمُ مُؤَلِّفِه أَحداً من مشاهير روما حتى
البابا نفسه دون أن يَسخَرَ من نقطة ضَعفه. انتهى الكُتَيِّبُ بعبارة شِعرية
ترجمتُها «احرص على أن تجعل من آرتينو صديقاً لك / لأنك لن تحتمل عداوته /
فبالكلمات وحدها يستطيع أن يَدَمِّرَ البابا في قداسته / وليرحم الله الجميع من
لسانه».
التعليق:
بِکُتَيِّبٍ
واحد صغير استطاع آرتينو الجريء أن يرتفعَ من خادم متواضع وابن صانع أحذية إلى
کاتبٍ شهير يَودّ الجميع في روما أن يَتَعَرَّفَ عليه ويَتَقَرَّب منه، بل أن
البابا نفسه قد بحث عنه وأعطاه لاحقاً وظيفةً في البلاط البابوي، وعرفه الناس باسم
«جلاد الأمراء»، وأَكْسَبَهُ لسانُه اللاذع الاحترام والرهبة من عظماء أوروبا ومن
بينهم ملكُ فرنسا وإمبراطور هابسبرج.
الإستراتيجية
التي اتبعها آرتينو بسيطة: إن كنت مجهولاً وهيناً
بين الناس كما كان النبي داود ابحث لك عن جالوت تصرعه، وكلما اخترت هدفاً أكبر
تزداد شهرتك، وكلما كانت هجمتك أجرأ تزداد مكانتك في أعين الناس وإعجابهم بك. كل
المجتمعات بها الكثيرون ممن يفكرون بجرأة لكن معظمهم لا تكون لديهم الشجاعة لنشر
أفكارهم. قل للجماهير ما يريدون أن يسمعوه؛ فتعبيرك عن مشاعرهم يمنحك سطوةً عليهم.
تَخَيَّر أبرز الأشخاص وأقذفه بجرأة في نقطة ضعفه، وستجد العالم يحتفي بك ويكرمك
بالمجد والشهرة.
مفاتيح
للسطوة:
معظم
البشر جبناء يتجنبون الصراع والتوتر، ويحرصون على الاحتفاظ بحب الآخرين، جميعنا
نفكر في القيام بأعمال جريئة، ولكن نادراً ما ننفذها لأننا نخاف من العواقب ومن
نظرة الناس لنا والعداء الذي قد نولّده إن تجرأنا على تجاوز ما اعتاده الآخرون منا.
قد
نُخفي جُبننا تحت شعارات مثل أننا نهتم بالآخرين ولا نحب أن نجرحهم أو نؤذي
مشاعرهم، لكن الحقيقة هي العكس، ذلك أن منبعه هو اهتمامنا بأنفسنا وخوفنا عليها
مما قد يراه الآخرون فينا؛ بينما تأخذنا الجرأة إلى خارجنا وغالباً ما تجعل الناس
يرتاحون معنا لأنها تُشعرهم أننا أقل انشغالاً بأنفسنا وأقلّ کتماناً لطبيعتنا.
يمكنك
أن ترى ذلك بوضوح في الإغواء، فكل المغوين الكبار كانوا يحققون مآربهم بالتعبير عن
أنفسهم دون تردد أو حياء، فلم تكن جرأة كازانوفا تتجلى بالأساس في تقربه الجريء من
المرأة التي يريدها، ولا كلماته الصريحة في مغازلتها، بل من قدرته على إظهار نفسه
لها بالكامل، وجعلها تظن أنه قد يفعل أيَّ شيء حتى ينالها لدرجة المخاطرة بحياته،
وهو ما كان يفعله أحياناً في الواقع. كانت المرأة التي يغدق
عليها بهذا الاهتمام ترى أنه ليس في داخله شيء يخفيه
عنها، وكان ذلك يُشعرها بإطراء أكبر من أي كلمات، فلم يكن كازانوفا في أي لحظة يُظهر
في إغوائه للمرأة التي يريدها أي خوف أو تردد، ذلك لأنه ببساطة لم يشعر بذلك أبداً.
جزء
من سحر الإغواء يكمن في أن الشخص الذي يتعرض له يشعر أن يداً تأتي من خارج نفسه تُحرّره
من المخاوف التي تملأ حياته وتقيد تصرفاته، واللحظة التي يتردد فيها المغوي أو
يخاف ينكسر السحر، ويرى الشخص الجهد والتخطيط الذي يبذله المغوي لإغرائه. فالجرأة
تُخرج الشخص عن نفسه، وتحرره من قيودها وتبقيه في
حالة من التوهم لا يخشى معها الحرج أو الخوف من سوء
التصرف. ذلك هو السبب الذي يجعلنا نحب صحبة الجريئين، لأن ثقتهم بأنفسهم تعدينا وتُبعدنا
عن تأمّل أنفسنا ومحاسبتها والانكفاء داخلها.
قليلون
من الناس هم من يولدون شجعان وجريئين، ونابليون نفسه كان عليه أن يتمرن على
الشجاعة في ميدان القتال لأنه كان يعلم أنها هي التي تبقيه حياً، کما أنه كان
جباناً ومتردداً في الاحتفالات الاجتماعية، ولكنه تغلب على ذلك ودَرَّبَ نفسه على
الجرأة في كل مجالات الحياة، لأنه رأى في ذلك سطوةً كبيرة، فهي التي تُضَخِّمُ
رجلاً حتى من كان في حجم نابليون الذي كان قصيراً وقليل الجسم. وقد لاحظنا هذا
التغير أيضاً لدى أيفان الرهيب: الصبي الوديع الذي تحول فجأة إلى شاب لا يُهابُ
يمارس سلطته بإشارة من إصبعه، وبقلبٍ لا يخشى شيئاً.
عليك
أن تُدَرِّب وتُطَوِّر جرأتك وستجد لها فوائد كثيرة، وأفضل ساحة لتدريبها غالباً
ما تكون عالم المفاوضات الدقيق خاصة تلك التي تتطلب منك تحديد السعر الذي تختاره.
كثيراً ما نهين أنفسنا بطلب القليل، لكننا نجد أنه حين طلب کريستوفر کولومبوس من
البلاط الإسباني أن يمول رحلته إلى أمريكا طلب منهم أيضا طلباً غاية في الجرأة،
وهو أن يصبح «الأدميرال الأعظم للمحيط» ووافق البلاط. السعر الذي طلبه هو الذي حصل
عليه - طلب أن يعامل بإكبار وتوقير ونال ما طلب. وكان هنري کسنجر أيضاً يدرك أن
المطالب الجريئة تؤتي نتائج أفضل بكثير من البدء بالتنازلات ومحاولة التقاء الخصوم
في منتصف الطريق. حدد أعلى ما تطمح إليه ثم افعل كما فعل الكونت لوستيج أي أن
تزايد عليه.
ولتعرف
أنه: إن لم تكن الجرأة طبيعة فكذلك الجُبن،
فكلاهما من العادات المكتسبة التي نختارها لتجنب الصراع. إن رأيت أن الجبن قد تَرَسَّخَ
داخلك فاعمل على أن تقتلعه من جذوره، وتَذَكَّر أن خوفك من عواقب أفعالك الجريئة
لا يكون له في الواقع ما يبرره، والحقيقة أن عواقب الجبن أسوأ فهو يقلل مكانتك
ويدخلك في مخاوف تضعفك وتصيبك بالكوارث. ولا تنس أن المتاعب التي قد تأتي بها
الجرأة والأقدام يمكن سترها بل وعلاجها بالمزيد من الجرأة والإقدام.
يَتَحَرَّكُ
الأسدُ واثقاً ولا يترك ثغرات في مساره لأن تحركاته رشيقة وأنيابه قوية وسريعة.
أما الأرنب الجبان فقد يفعل أيَّ شيء لينجو من الخطر، لكن في تَعَجُّلِهِ للهرب يَتَرَدَّدُ
ويدخل بنفسه بين أنياب عدوه.
اقتباس
من معلم: ليس لديَّ من شَكٍّ في أن الأفضل للإنسان
أن يكون متهوراً عن أن يكون حريصاً، لأن الحظوظ كالمرأة لا يمكن إخضاعها إلا
بالقوة، فهي لا تمنح نفسها
إلا لمن يتجرأ وليس لمن يتحرك بتعقل وبرود، والحظوظ تشبه المرأة أيضاً في أنها
تهوى الشباب لأنهم أقل حذراً وأكثر جرأة وإقداماً. (نيکولو مكيافيللي، 1469
- 1527).
عکس
القاعدة:
لا
تجعل من الجرأة استراتيجيةً لك في كل أفعالك، فهي ليست أكثر من تكتيك تستخدمه في
وقته المناسب. خَطِّط وفَكِّر واترك الجرأة للخطوة النهائية التي تحصد لك النجاح،
ولأن الجرأة استجابة تتعلمها عليك أيضاً أن تُتقن التَّحَكُّمَ بها واستخدامها حسب
إرادتك. مُوَاجهتك الحياة دون شيء غير الجرأة يُجهدك؛ بل قد يُدمرك أحياناً لأن من
لا يتحكمون بجرأتهم يهينون أشخاصاً قد لا يرحمونهم. کانت لولا مونتيز من هذا النوع
من البشر فقد مَكَّنَتها جرأتها من إغواء ملك بافاريا، ولكنها لم تستطع أبداً
التحكم في جرأتها وأدّى بها ذلك إلى السقوط، فكانت أينما ذهبت تتعدى الحد بين الجرأة
والقسوة وأحيانا الجنون. وتلقى إيفان الرهيب مصيراً مشابهاً: فحين وجد أن الجرأة
قد حَقَّقَتْ له النجاح تَعَلَّقَ بها واتَّخَذها أسلوباً له طوال حياته حتى
أفقدته التمييز بين متى يفيده استخدام العنف والدموية ومتى يضره.
لا
مكان للجبن في عالم السطوة ولكن غالبا ما يفيدك التظاهر بالجبن، ولكنه لا يكون
عندئذ جبناً ولكن سلاحاً للهجوم: فتظاهُرك بالتردد والحياء يستدرك إليك خصومك
ويمكنك من الانقضاض عليهم لاحقاً بجرأة واقتدار.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
إقرأ أيضاً:
لماذا يكذب المراهق وما هي علامات كذبه؟
كيف تضبطين الساعة البيولوجية للنوم عند طفلك؟
منهج مونتيسوري التعليمي مزاياه وعيوبه
5 نصائح للتعامل مع الفتيات في سن المراهقة
التنمر مشكلة المشاكل في المدارس
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق