الجمعة، 16 أغسطس 2024

• اتقن فن إختيار التوقيت المناسب

القاعدة 35 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة:

لا تَظهر أبداً مُتسرِّعاً أو مُتعجِّلاً لأن ذلك يوحي بأنك أرعن وغير قادر على التحكم بمشاعرك أو بتوقيت الأحداث. كن دائماً صبوراً ومُتَأَنِّيا ليرى الآخرون ثقتك في أن الأمور ستؤول إليك في النهاية. كن كالمحقق الذي يترقَّب واثقاً اللحظة المُوَاتية. تَلَمَّس الأحداث وتناءى بنفسك حين لا يكون الوقت ملائماً، وحين تأتي لحظة الاقتناص اضرب بقوة ودون تَرَدُّد.

مراعاة القاعدة:

بدأ جوزيف فوشيه حياته مُدَرِّساً لاهوتياً غير نظامي في المدارس الفرنسية يتنقل من مدينة إلى أخرى في معظم سنوات العقد 1780 يُدَرِّس الرياضيات للفتيان. لم يخلص فوشيه نفسه لأي كنيسة ولم يرغب أبداً أن يعمل كقس ملتزم لأن طموحاته كانت أكبر من ذلك، وترك اختياراته مفتوحة انتظاراً لتحقيق فرصته. وحين اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1789 رأى أنه لم يعد عليه الانتظار: فخلع عن نفسه رداء الكهنوت وأطال شعره وانضم إلى الثوار لأن هذه كانت صيحة العصر، ورأى أنه إن فَوَّتَ هذه الفرصة فلن يستطيع أبداً أن يستعيدها، ولم يُفَوِّتها بل تقرب من القائد الثوري الشهير روبسبير وارتقى في مصاف الثوار. وفي عام 1792 انتخبته مدينة نانتس ممثلاً لها في المؤتمر القومي الذي انعقد في ذلك العام لوضع الدستور الجديد للجمهورية الفرنسية الناشئة.

بعد أن وصل فوشيه إلى باريس للانضمام إلى المؤتمر حدث انقسام عنيف بين المعتدلين وبين اليعقوبيين المتشددين، وأدرك فوشيه أنه لن يخرج أي من الطرفين منتصراً في هذا الصراع، فالسلطة نادراً ما تذهب إلى من يبدأون الثورات أو حتى إلى من أيدوها وساعدوا على استمرارها بل إلى من يعطونها شكلها النهائي، وذلك هو الجانب الذي كان فوشيه يرغب في الانضمام إليه.

كان لدى فوشيه حِسُّ بارع باختيار التوقيت المناسب، فقد بدأ مع المعتدلين لأنهم كانوا الأكثرية، ولكن حين جاء الوقت لاتخاذ قرار حول إعدام الملك لويس السادس عشر رأى أن جميع الناس تُطالب برأس الملك، لذلك جاء صوته مرجحاً الإطاحة برأس الملك على المقصلة، أي أنه تصرف کالمتشددين. ولكن حين اشتعلت التوترات في باريس رأى أن تَقَرُّبَه الوثيق من أي جانب يُعرِّضه للخطر، فوافق على منصب في الأقاليم واختفى عن المشهد لفترة، وبعد ذلك بشهور تم تعيينه حاکماً لمدينة ليون حيث أشرف على إعدام عشرات النبلاء، لكن عند وصول الأمر لمرحلة معينة قرر وقف القتل لأنه شعر أن جموع الناس قد ضاقت بكثرة الدماء المهدرة، وبالرغم من أن يديه كانتا لا تزالان ملطختين بدماء القتلى هتفت الجماهير في ليون باسمه باعتباره المخلص من عصر الترهيب.

لعب فوشيه أوراقه بإتقان حتى هذه اللحظة؛ لكن في عام 1794 استدعاه صديقه القديم روبسبيير إلى باريس لمحاسبته على أعماله في ليون. كان روبسبير هو العقل المدبر لعصر الترهيب والمسئول عن الإطاحة بمئات الرؤوس، وبدا أن رأس فوشيه الذي لم يعد يثق به روبسبيير هي الرأس التالية المهددة بالإطاحة. في الأسابيع التالية نشأ نزاع شديد بين الرجلين، وحمل روبسبير علانية وبشدة على فوشيه، واتهمه بالانتهازية والتلاعب وطالب باعتقاله، أما فوشيه الماكر فكانت حملته غير مباشرة، فبدأ سرا في حشد تأييد من ضاقوا بطغيان روبسبيير وتَحَكُّمِه. كان فوشيه يراهن على كسب الوقت لأنه كان يعلم أنه كلما طال عليه الوقت حَيّاً يستطيع أن يحشد مزيداً من المواطنين الساخطين على روبسبيير، وكان يحتاج دعماً واسعاً قبل أن يستطيع أن يتحرك ضد هذا القائد القوي، وكان يُنشد الدعم من المعتدلين ومن المُتَشَدِّدين على السواء مُحَرِّکاً خوفهم جميعاً من قسوة روبسبيير، لأن كل واحد منهم كان يخشى أن يكون هو الرأس التالية على المقصلة. أثمرت جهود فوشيه أخيراً في 27 يوليو: انقلب أعضاء المؤتمر على روبسبيير ومنعوه من إكمال خطبته الطويلة، وبسرعة تَمَّ القبض عليه، وبعدها كانت رأس روبسبيير وليس فوشيه هي التي تسقط في سلة المقصلة.

حين عاد فوشيه إلى المؤتمر بعد موت روبسبيير اتخذ خطوة باغتت الجميع، فقيادته للتآمر ضد روبسبير جعلت الجميع يتوقعون منه أن ينضم للمعتدلين، لكنه غَيَّرَ ولاءه من جديد وانضم إلى اليعقوبيين المتشددين. كانت تلك هي المرة الأولى التي يقرر فيها موالاة الفئة القليلة. المؤكد أنه أَحَسَّ باختمار رد فعل: كان يعرف أن المعتدلين الذين أَعدموا روبسبير سوف يستولون على السلطة وأنهم سوف يبدأون موجة جديدة من الترهيب، وهكذا انضم فوشية إلى من سيتعرضون للاضطهاد في الفترة التالية لأنهم الفئة التي لن يتهمها أحد بإحداث الاضطرابات التي كانت في الطريق. الانضمام للفريق الخاسر يُعَدُّ بالطبع مناورةً خطيرة، لكن من المؤكد أن فوشيه كان قد أجرى حساباته وعرف أنه يستطيع أن يحتفظ برأسه إلى أن يتمكن بهدوء من تأليب جموع الناس ضد المعتدلين وير سقوطهم عن السلطة. وعلى الرغم من أن المعتدلين قد طالبوا بالفعل بالقبض عليه في ديسمبر 1795 وربما كانوا على وشك إرساله إلى المقصلة، لكن وقتاً طويلاً كان قد مر بالفعل، وأصبح الناس يرفضون الإعدامات، ونجا فوشيه مرة أخرى من تَقَلُّب الأقدار.

تَوَلَّت السلطة حكومة جديدة هي حكومة المدراء، لكنها لم تكن من اليعقوبيين بل من المعتدلين، ولكنهم كانوا أكثر اعتدالاً من الحكومة التي أعادت الترهيب. نجا فوشيه برأسه ولكن كان عليه مع الحكومة الجديدة أن يغيب عن المشهد لفترة أخرى، وانتظر على الهامش لعدة سنوات تاركاً للزمن أن يُلَطِّف أي مشاعر قد تَكَوَّنَت ضده، وبعدها تَقَرَّب من المدراء وأقنعهم أن لديه اهتمام جديد وهو الاستخبارات، وأصبح جاسوساً براتب لدى الحكومة، وبرع في وظيفته الجديدة، وفي عام 1799 كافأته الحكومة بتعيينه وزيراً للشرطة، ولم يكن ذلك يعني فقط مزيداً من السلطة ولكن أيضاً تمكينه من أن ينشر تَجَسُّسَه بكل أنحاء فرنسا، وهو منصبُ زاد كثيراً من موهبته الطبيعية في تَحَسُّس ما قد تأتي به التيارات السياسية. أول التيارات الاجتماعية التي استطاع رصدها كان مسار نابليون، وكان وقتها جنرالاً شاباً متهوراً، توقع فوشيه أن يكون له شأن كبير في مستقبل فرنسا، وحين قام نابليون بانقلاب عسكري في 9 نوفمبر 1799 ادعى فوشيه أنه نائم، الحقيقة أنه ظل نائماً طوال اليوم، وكمكافأة له على هذا التعاون غير المباشر عَيَّنَه نابليون وزيراً للشرطة في حكومته الجديدة.

في السنوات التالية تزايد اعتماد نابليون على فوشيه، بل أنه منح هذا الثوري القديم ثروة كبيرة ولقباً تشريفياً هو دوق أوترانتو، لكن في عام 1808 وعلى عادته في قراءة عصره استطاع فوشيه أن يعرف أن كَفَّةَ الأقدار تميل ضد نابليون، ورأى أن الحرب العبثية التي شنها نابليون دون داع ضد إسبانيا وهي بلد لم تشكل تهديداً لفرنسا كانت علامة على فقدانه للحكمة في تقدير الأمور. ولأن فوشيه لم يكن من النوع الذي قد يَعلَق في سفينة غارقة، تآمر مع تاليران لإسقاط نابليون، وعلى الرغم من فشل المؤامرة وفصل تاليران وإبقاء فوشيه في منصبه تحت مراقبه وثيقة، فإن هذه الحركة أظهرت الاستياء المتزايد من الإمبراطور الذي فقد السيطرة على نفسه، وفي عام 1814 انهارت سطوة نابليون واستطاعت القوى المتحالفة أن تهزمه.

استعادت الحكومة التالية النظام الملكي، وتَوَلّى العرش الملك لويس الثامن عشر أخو لويس السادس عشر، وقرأ فوشيه أن لويس لن يستمر في الحكم طويلاً، وعاد للانتظار والترقب والابتعاد عن المشهد من جديد، وبالفعل هرب نابليون من سجنه في جزيرة ألبا، وفزع لويس الثامن عشر لأنه كان قد أبعد مشاركة المواطنين في الحكم وثار الناس للمطالبة بعودة نابليون. بحث لويس عن المساعدة من فوشيه المتشدد السابق الذي أرسل أخاه للمقصلة ولكنه أصبح الآن من أكثر السياسيين شعبية وتأثيراً في فرنسا، ولكن فوشيه لم يكن لِيُناصر خاسراً، فرفض طلب لويس وأقنعه أنه لا يحتاج للمساعدة لأن نابليون لن يستطيع أبداً أن يعود للسلطة (رغم أنه كان متيقناً من عكس ذلك). وبعد فترة قليلة جاء نابليون في جيش من المواطنين وحاصر باريس.

بعد أن تأكد لويس من أن حكمه ماضٍ إلى انهيار ومن خيانة فوشيه له وعدم رغبته في أن يبقى هذا الرجل القوي في حكومة نابليون، أمر بالقبض على فوشيه وإعدامه، وفي 16 مارس 1815 حاصرت الشرطة عربة فوشيه في أحد شوارع باريس، هل كانت نهايته إذن؟. استطاع فوشيه إقناع رجال الشرطة أنه لا يجوز القبض على مسئول حكومي سابق في الشارع وطلب منهم أن يعود لمنزله للتجهز في آخر اليوم، عاد رجال الشرطة بأمر القبض عليه فطلب منهم أن يرحموا عزيز قوم ذل وأن يسمحوا له بأن يغتسل وينتقى ملابس لائقة، فسمحوا له بذلك ولكنه لم يخرج إليهم وحين فتشوا غرفته وجدوا سُلَّماً مقابل نافذة مفتوحة يهبط إلى الحديقة ومنها إلى الخارج.

ظلت الشرطة ليومين تُمَشِّط باريس بحثاً عن فوشيه، لكن في نهايتهما كانت مدافع نابليون تُسمع من بعيد، وكان على الملك ورجاله أن يفروا قبل فوات الأوان، وبمجرد أن دخل نابليون خرج فوشيه من مخبأه. وهكذا استطاع فوشيه أن يغافل الجلاد مرة أخرى، ورَحَّبَ به نابليون وأعاده إلى منصبه القديم. طوال المائة يوم التي قضاها نابليون في الحكم قبل أن ينتقل لمنفاه الجديد في واترلو كان فوشيه هو الحاكم الفعلي للبلاد، وبعد سقوط نابليون عاد لويس الثامن عشر للحكم، وكما القطة ذات السبع أرواح عاد فوشيه إلى منصبه في ظل هذه الحكومة الجديدة، لكن هذه المرة أصبحت سطوته من القوة لدرجة جعلت حتى الملك لا يجرؤ أن يتحداها.

التعليق:

استطاع جوزيف فوشيه بإتقانه لفن اختيار التوقيت المناسب أن يزدهر في عصر من الاضطرابات التي لم يشهد التاريخ لها مثيل، ويمكننا أن نَتَعَلَّم منه عدداً من الدروس الهامة.

أولاً، من المصيري لك أن تُدرك روحَ العصر الذي تعيش فيه. كان فوشيه ينظر لخطوتين على الأقل للأمام ويكتشف الموجة التي سوف تحمله إلى السلطة ويَركبها. عليك دائماً أن تَتَفَهّم تحركات الزمن وتَتَوَقَّع مسبقاً تَغَيُّراته وانعكاساته المُفاجئة، وأن لا تَتَخَلَّف أبداً عن الرَّكْب. أحياناً تجد روح عصرك غامضة: عليك أن لا تبحث عنها في الظاهر والجَلَيّ لكن في الخَفِيّ والكامن. انظر لأمثال نابليون الذين يحملون المستقبل ولا تقف كثيراً عند من يُمَثِّلون أنقاض الماضي.

ثانياً، تَعَلَّم أن اكتشافك لتيارات العصر لا تعني دائماً أن تمضي معها، فكل التحركات الاجتماعية القوية تؤدي لردود أفعال شديدة يجب عليك أن تَتَوَقَّعها بِدقّة، مثلما تَوَقَّع فوشيه ردود الفعل بعد إعدام روبسبيير. وبدلاً من ركوب قمة الموجة السائدة في اللحظة الراهنة يمكنك أن تنتظر حتى انحسار المَدّ لِتَتَمَكّن من العودة إلى السلطة. وعليك أحياناً أن تراهن على ردود الفعل التي تَختَمِرُ تحت السطح وأن تضع نفسك في طليعة روادها.

أخيراً، كان فوشيه يَتَمَيَّزُ بصبرٍ واضح، والحقيقة إن لم تتخذ الصبر لك سيفاً ودِرعاً فلن تستفيد من إتقانك لفن التوقيت وسوف تفشل حتماً. حين كان العصر ضد فوشيه لم يكن يكافح أو ينفعل أو يتحرك هنا وهناك بلا فائدة، بل كان يبتعد عن دائرة الضوء وينتظر في هدوء وبصبر يبني قاعدة تدعمه من المواطنين، وتلك القاعدة كانت هي الحصن الذي يحميه في صعوده التالي للسَّطوة. وحين كان يجد نفسه في الجانب الأضعف كان يستفيد من مرور الوقت والذي كان يثق دائماً أنه سيكون حليفاً له إِن تَحَلّى بالصبر. عليك دائماً أن تكتشف اللحظات المناسبة للاختباء والتَّرَقُّب واللحظات المناسبة للهجوم والانقضاض.

يمكننا أن نستعيد الأماكن لكن لا يمكننا أبداً أن نستعيد الزمن (نابليون بونابرت، 1769-1821)  

مفاتيح للسطوة:

التوقيت شيء مصطنع ابتكرناه ليساعدنا على احتمال الامتداد اللانهائي للزمن والكون وعلى جعل الحياة أكثر ملاءمة لنا كبشر. ونظرا لأننا من ابتكر هذا المفهوم يمكننا لدرجة ما أن نُطَوِّعَه وأن نتلاعب به، فالوقت في الطفولة مثلاً يكون أطول وأبطأ ويَتَّسِع للكثير أما في الرُّشد فيتسارع ويضيق بشكل مُفزع. هكذا نرى أن الوقت يعتمد على الإدراك، وكما نعرف فإن الإدراكات يمكن أن تتغير بإرادتنا، وذلك هو أول ما عليك أن تعرفه لتتقن فن التوقيت. وحين تفهم أن التوتر الناتج عن الانفعالات اليومية يجعل الوقت يتسارع حولك سيسهل عليك أن ترى أنك لو تَحَكَّمْتَ بانفعالاتك تجاه الأحداث التي تَتَعَرَّض لها ستتمكن من إبطاء الوقت وفعل ما تريد. أي أن تَغيير الطريقة التي تتعامل بها مع الأشياء يُطيل إحساسك بما لديك من وقت في المستقبل، ويفتح لك فُرَصاً وخيارات يحرمك منها الخوف والغضب، ويجعلك تتحلى بالصبر، وهذا شرط لا غنى لك عنه لإتقان فن التوقيت.

هناك ثلاثة أنواع من التوقيتات عليك التعامل معها، ولكل منها مشاكله التي يمكنك أن تحلها بالمهارة والتدريب. النوع الأول هو وقت الاستمرار: وهو النوع الممتد من الوقت الذي يستغرق سنوات والذي عليك أن تتدبره بصبرٍ وتأنٍ. التعامل مع وقت الاستمرار يجب أن يكون دفاعياً في الأساس- أي أنه ليس وقت الاندفاع بل وقت الانتظار وترقب الفرصة المناسبة. التالي هو وقت الإجبار وهو الوقت المحدود والقصير الذي يمكنك استخدامه كسلاح للهجوم تزعج به توقيتات خصومك. الأخير هو وقت الاختتام الذي تتحين فيه تنفيذ خططك بسرعة واقتدار: حيث تكون قد انتظرت ووجدت اللحظة المواتية وما عليك إلا أن تُقدِم دون أن تتردد.

وقت الاستمرار. يحكي الرسام الصيني الشهير في عهد أسرة المنج في القرن السابع عشر يو شونج عن تجربة غَيَّرَت حياته للأبد. في عصر أحد أيام الشتاء قرر يونج أن يَعبُر النهر ليزور المدينة المقابلة لمدينته، وكان معه كتب وأوراق هامة، استأجر صبياً ليساعده في حملها. حين اقترب الزورقُ من الشاطئ المقابل من النهر سأل الرُّبّانَ إن كان الوقت كافياً للوصول إلى المدينة التي كانت تبعد ميلاً عن الشاطى قبل أن تغلق المدينة أبوابها، فأجابه الرُّبان أن «نعم يمكنك الوصول إن لم تسيرا بسرعة».

لم يستطع شو أن يبدأ رحلة المسير هو والصبي إلا مع اقتراب غروب الشمس، وكان يخشى أن تنغلق الأبواب عليها خارج المدينة ويقعان ضحيةً للصوص المنطقة، ولذلك أخذا يسرعان ويسرعان إلى أن تَحَوَّلَ سيرهما إلى ركض، وفي لحظة انْفَكَّ رباط الأوراق وانفرطت على الأرض واستغرقا عدة دقائق لجمعها وحزمها من جديد ولذلك لم يتمكنا من الوصول للمدينة في الوقت المناسب.

إجبارُ نفسك على الإسراع بسبب الخوف أو نفاد الصبر يُدخلك في مشکلات تستغرق وقتاً أطولَ في حلها مما لو تَأَنَّيْتَ في أدائك. قد يُنجز المتسرعون أعمالهم أسرع أحياناً ولكن كثيراً ما تتبعثر أوراقهم وتظهر لهم مخاطر جديدة ويظلون طوال الوقت في حالة تأزم وانزعاج ويقضون وقتاً طويلاً يحلون المشاكل التي سببوها لأنفسهم. وفي بعض الأحيان يكون أفضل الحلول عند مواجهة الخطر أن لا تفعل شيئاً بل تُبطئ من إيقاعك وتنتظر، وبمرور الوقت ستظهر لك حتماً فرصٌ لم تكن تتوقّعها أو تتخيّلها.

الانتظار لا يعني سيطرتك على نفسك فحسب بل سيطرتك على المحيطين بك أيضاً الذين يظنون أن كثرة الحركة تولد النجاح والقدرة، والذين قد يُلِحُّون عليك ويدفعونك للتسرع. أما بالنسبة لخصومك فعليك أن تشجعهم على ارتكاب هذا الخطأ بالتَّسَرُّع لحل المشكلات التي تظهر بينما تَتَرَيَّث أنت وتَتَرَقَّب وستجد حتما اللحظة الملائمة للتدخل وإصلاح ما أفسدوه. كانت هذه هي السياسة الحكيمة التي كان يتبعها الإمبراطور الياباني العظيم في القرن السابع عشر توکو جاوا إياسو والذي كان من قبل يعمل قائداً عسكرياً لدي سلفه المتهور هديوشي، ورفض أن يشارك في الحرب العبثية التي شَنَّها هديوشي على كوريا لأنه كان يعلم أنها ستنتهي نهاية كارثية سوف تطيح بهديوشي من الحكم، الأفضل لك أن تَتَرَقَّب بصبرٍ على الهامش ولو لسنوات إلى أن تصبح في اللحظة والمكان المناسبين لاقتناص السطوة، تماما کما فَعَلَ إياسو ببراعة مذهلة.

السبب في إبطاء حركتك ليس لإطالة عمرك أو للاستمتاع بلحظات حياتك بل لأن ذلك يُمَكِّنُك من إتقان لعبة السطوة، أولا لأنك حين تُخَلِّص ذهنك من إرهاق التعامل المستمر مع الطوارئ تصبح رؤيتك لإمكانات المستقبل أكثر وضوحا واتساعاً، ثانياً، سيُمَكِّنُك ذلك من مقاومة احتيال الآخرين عليك وخداعهم لك بإغراءات زائفة. ثالثاً، سوف يُسَهِّل عليك أن تَتَحَلّى بالمرونة التي تجعلك تقتنص الفرص غير المتوقعة والتي تظهر لك حتماً والتي لن تلاحظها إن كنت تُجبر نفسك دوماً على الإسراع والتقدم. رابعاً إبطاء حركتك يجعلك لا تبدأ مشروعاً إلا بعد أن تتمَّ سابِقه، لأن أساسات السطوة تتطلب سنوات من البناء وعليك أن تتأكد أنها آمنة وقادرة على الصمود، وإلا أصبحت كالزوبعة في الفنجان تلمع فجأة وتنطفئ بسرعة، فالنجاح الذي يأتي بتأنٍ هو النجاح الوحيد الذي يستمر.

أخيراً فإن التباطؤ والتأني يجعلك تتلمس روح عصرك ويسمح لك بأن تنأى بنفسك وتتخلص من قهر الانفعالات لك وترى بوضوح الأمور التي في طريقها للحدوث. يخلط المتسرعون غالباً بين الأحداث الظاهرة والتيارات الحقيقية التي سوف تستمر ويميلون إلى رؤية الأمور حسب تمنياتهم لا حسب واقعها، ولكن لن ينفعك حقاً إلا أن تعرف حقيقة ما يحدث حتى وإن لم يكن يَسُرُّك أو يُصَعِّب من مهمتك.

وقت الإجبار: المغزى من وقت الإجبار هو أن تفسد على الآخرين توقيتاتهم، وتجعلهم يتسرعون أو ينتظرون، وأن تجعلهم يتخلون عن إيقاعهم الخاص، وأن تُشَوِّش عليهم تقديرهم للزمن. إفساد توقيت خصومك مع احتفاظك بالصبر والترقب يُوَفِّر لك وقتًا إضافيًا للاختيار والتحرك، وهذا هو نصف الطريق إلى الفوز.

في عام 1473 دعا السلطان التركي العظيم محمد الفاتح إلى مفاوضات مع المجر لإنهاء الحرب التي تشنها البلدان ضد إحداهما الأخرى من آن لآخر. حين وصل المبعوث المجري إلى العاصمة أسطنبول لبدء المباحثات اعتذر له المسئولون الأتراك بأدب أن محمداً قد ترك العاصمة لظروف الحرب مع عدوه اللدود أذن حسن، وأخبروه أن محمداً رغم ذلك يرغب كثيراً في إقرار السلام مع المجر، وطلبوا منه أن يلحق بمحمد إلى الجبهة.

حين وصل المبعوث إلى ساحة القتال كان محمد قد رحل متجهاً شرقاً لمطاردة عدوه المراوغ، وتكرر ذلك عدة مرات، وفي كل مرة كان الأتراك يقيمون الاحتفالات والموائد المبهجة للمبعوث والتي كانت تستغرق وقتاً طويلاً. أخيراً تمكن محمد من هزيمة أذن والتقى بالمبعوث المجري، لكن شروطه للسلام كانت مجحفة وبعد أيام انتهت المحادثات دون أي تقدم، والحقيقة أن هذا ما كان يخطط له محمد من البداية: فحين انتهى من إعداد حملته لشن الحرب على أذن أدرك أن تحويله لجيشه باتجاه الشرق يكشف حدوده الغربية مع المجر، ولمنع المجريين من استغلال ضعفه وانشغاله لَوَّحَ إليهم باقتراح السلام وجعلهم ينتظرون إلى الوقت الذي يريده.

جَعلُ الآخرين ينتظرون يُعَدُّ من الوسائل القوية لفرض توقيتك عليهم طالما أنهم لا يفطنون إلى ما تنوي فعله، فبذلك يصبح خصومك سجناء للانتظار والتَّمَهُّل، ويَتَشَوَّش تفكيرهم بسرعة وتتاح لك فرص أكبر للانقضاض والهجوم عليهم. وعكس ذلك فعّالٌ أيضاً: أي أن تجعل أعداءك يتسرعون، بأن تبدأ تعاملاتك معهم بتأنٍ ثم تضغط عليهم فجأة وتجعلهم يشعرون وكأن كل شيء سيتم في لحظة. حين لا تترك للناس وقتاً للتفكير يرتكبون أخطاء، وعليك أن تستغل ذلك بأن تحدد لمن تتعامل معهم مهلة لإنهاء الأمر. كانت تلك هي الطريقة التي أعجبت مكيافيللي في سيزار بورجيا، والذي كان يضغط فجأة على خصومه أثناء المفاوضات للإسراع باتخاذ قرار ويفسد عليهم توقيتهم ويحرمهم من تَأَنِّيهم، لأنه لم يكن أحد يجرؤ على أن يترك سيزار ينتظر.

كان جوزيف دوفين تاجر الأعمال الفنية الشهير يعرف أنه حين يضع مُهَلا للمشترين المُتَرَدِّدين من أمثال ج، د. روكفلر بأن يتظاهر بأن اللوحة المعروضة في طريقها للسفر إلى خارج البلاد، أو أن عميلاً آخر يرغب في شرائها، يُقَرِّر العميل المتردد الشراء في لحظتها. وكان فرويد يلاحظ أن المرضى الذين كان يعالجهم بالتحليل النفسي لسنوات دون تحسن يُظهرون تَقَدُّماً سريعاً حين يضع لهم موعداً محدداً لإنهاء العلاج، وكان جاك كان المحلل النفسي الفرنسي الشهير يستخدم تكتيكاً مُشابهاً بأن ينهي فجأة وبعد عشر دقائق ودون تنبيه مُسبق جلسة التحليل التي كانت تستغرق عادة ساعة، وكان يكرر ذلك عدة مرات فيدرك المريض أن عليه أن يركز وأن يستغل وقت الجلسة أكبر استغلال بدلاً من الحديث في أمور لا تُعني شيئاً. تعتبر المهلة إذن سلاحاً قوياً لأنها تسمح لك بإجبار المترددين على اتخاذ قرار وتجعل الناس يركزون تفكيرهم في ما يهمك، فلا تسمح للآخرين بفرض شروطهم وطرقهم المزعجة عليك بأن لا تترك لهم أبداً الوقت، اللازم للتحرك بحرية.

يُعتبر السحرة والعارضون على المسرح من أكثر الناس خبرة في فَرض توقيتهم. كان يمكن لهوديني في أغلب الأحوال أن يخرج متحرراً من الأغلال في دقائق لكنه كان يطيل هروية منها لساعة أو أكثر جاعلاً الجمهور يَتَعَرَّقُ من الانتظار والترَقُّب إلى أن يبدو الزمن وكأنه تَوَقَّف. وقد اكتشف السحرة أن أفضل طريقة لتغيير إحساسنا بالزمن هي إبطاء إيقاع الحركة، فالتشويق الزائد يبدو وكأنه أوقف الزمن: وكلما أبطأَ الساحر في تحريك يديه يسهل عليه خَلْقُ تَوَهُّمِ السرعة لدى مشاهديه، فيظنون أن الأرنب الذي أخرجه من القبعة قد أتي في لازمن. وقد لاحظ هذا التأثير بوضوح جان بوجين روبرت هودين الساحر الكبير في القرن التاسع عشر وقال عنه أنه «كلما أبطأت في رواية قصة يزداد شعور الناس بأنها كانت أقصر».

إبطاؤك فيما تفعله يجعل الناس يرونه مشوقاً حيث يتناغم الحاضرون مع إيقاعك ويشعرون أن الوقت قد مر معك بسرعة وسعادة. عليك أن تُدَرِّب نفسك على إحداث هذا التَّوَهُّمِ والذي يشبه قدرة المُنَوِّم المغناطيسي على التأثير في إدراك الناس للوقت.

وقت الاختتام: ربما تكون قد أتقنت أداء اللعبة وانتظرت بصبر حتى واتتك اللحظة المناسبة للفعل وأبعدت إزعاج منافسيك بإفساد توقيتهم، لكن لن يفيدك ذلك في شيء إن لم تكن تعرف كيف تختم الأمر. لا تكن أبداً من الأشخاص الذين يظنهم الناس نموذجاً للصبر والتأني ولكنهم في الحقيقة ينتظرون لأنهم يخافون من إتمام الأمور: فالصبر لا يفيد في شيء إن لم يصاحبه استعداد للانقضاض دون تردد حين تأتي اللحظة المناسبة، عليك أن تنتظر على قدر ما يتطلبه الأمر إلى أن تأتي الخاتمة ولكن بمجرد أن تأتي عليك أن تعمل على جعلها خاتمة خاطفة، فالسرعة تشلّ خصومك وتخفي الأخطاء التي قد ترتكبها وتثير إعجاب من حولك بما لديك من هالة العزم والقدرة على إنهاء الأمور.

تَعامَل مثل الذي يُغري الثعبان بالخروج من الجحر بإيقاعه الثابت والبطئ، وبمجرد أن يخرج الثعبان يسحق رأسه دون تردد. وليس هناك أبداً ما يُبَرِّر إظهار أي تردد عند اختتام الأمور، فإتقانك للتوقيت لا تحكم عليه إلا بإتمامك للأمور - أي على سرعتك في تغيير إيقاعك لوضع الخاتمة الخاطفة والحاسمة لما كنت تخطط له من البداية.

الصورة: الصقر

يَحوم عالياً في السماء صامتاً مترقباً في صبرٍ، يرى كل شيء بنظره الثاقب، ولا تعرف الفرائس التي على الأرض أنه يراقبها. لكن حين تأتي اللحظة المواتية يَنقَضُّ بسرعة خاطفة لا يمكن الاختباء منها، وقبل أن تعرف فريسته ما يحدث لها تكون مخالبه الأشبه بالخطاطيف قد حملتها وصعدت بها إلى السماء.

اقتباس من معلم. أقدار الناس أشبه بالأنهار، تتعرض للمد والجزر، حين يأتي المد تفيض عليهم الثروة والحظ / وحين ينحسر تتعثر سفينة حياتهم وتضرب بعمق في الضحالة والبؤس. (يوليوس قيصر، ويليام شكسبير 1564-1619).

عکس القاعدة:

لن تَجني أي سطوة إن تَخَلَّيتَ عن زمام الأمور وترکت نفسك للتكيف مع كل ما تأتيك به الأقدار. فليس أمامك إلا أن تقود الوقت أو يقودك هو إلى الدمار. ولذلك فليس هناك شيء يعكس هذه القاعدة.

إقرأ أيضاً:

تغيّرات المراهق النفسية والعقلية في فترة المراهق

اضطرابات النوم عند الأطفال: الأسباب وطرق العلاج

تشجيع طفلك على تكوين صداقات في المدرسة

أخطاء تربوية تؤدي إلة تعزيز السلوكات السيئة عند الطفل

خمس صعوبات تَعَلُّم يمكن ملاحظتها لدى طفلك

نصائح علم الطاقة الصيني لعام دراسي ناجح للأطفال

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق