جرى العرف في الدراسات
الاجتماعية الشائعة على اعتبار البداوة كأسلوب حياة، والقبيلة كإطار لهذا التجمع
البشري، عاملين معوقين للتنمية. لكن وجهة نظر أخرى تناقض هذا المفهوم الشائع، وهذا
المقال يحملها في طياته.
إن نظرة سريعة على خريطة
الوطن العربي تبين بوضوح أن الصحراء تكاد تكون هي السمة المميزة، فباستثناء وديان
الأنهار - دجلة والفرات والنيل - فالغالبية العظمى أراض صحراوية أو شبه صحراوية،
ولعل محدودية الموارد المائية والكساء النباتي هي أول المعاني التي تتسارع إلى
الذهن عندما نصل إلى منطقة الصحراء، لكن هذا وإن صح في بعض المناطق الصحراوية
المتدهورة بيئيا، فإن معظم الجهات الصحراوية العربية تنتظر الربيع في كل عام وخاصة
إذا جاء المطر فيه مبكرا ومتواليا فتنبت الأرض خيراتها فتكتسي تلك الأراضي حلة
خفراء أبدعتها يد الخالق سبحانه. لذلك أثارت تلك المناطق في مخيلات الشعراء والأدباء
والفنانين صورا جمالية تغنوا بها، فأبدعوا لليل وزرقة السماء، للصدى والسراب،
هؤلاء المبدعون جميعا على الرغم من اختلاف مذاهبهم يلتقون في إحساس واحد مشترك، هو
ذلك العشق المشبوب لعالم الصحراء المترامي الغامض، الذي يتبلور فيه جمال الكون
بسكونه وتنساب فيه جداول الصفاء، وتفيض منه أنهار السكون بالحكمة.
في تاريخ الصحراء تبرز قصة الجمل والماعز
اللذين كانا يؤلفان أهم وسيلة للنقل والانتقال ويوفران الطعام أو الغذاء الذي كان
يتم حمله أو نقله في (وعاء) مصنوع من جلد الماعز في الأغلب، واستطاع ذلك البدوي
القديم أن يعتمد عليهما خلال قرون طويلة في قطع المسافات البعيدة وفي تناول الطعام
وحفظ الحياة واكتشاف كثير من مجاهلها.
لقد كان الجمل هو أداة النقل والانتقال
والاتصال عبر آلاف السنين منذ عرفت الصحراء، ومع بداية خمسينيات هذا القرن أصبح
أمل (غزو الصحراء) يراود الكثيرين، ففي عام 1958 أصدر جان لارتجى (Jean
Lartegy) كتابه عن " الصحراء سنة واحدة"
فأهداه إلى (سيارة الجيب وطائرة الداكوتا اللتين أيقظتا الصحراء من نومها الطويل
وغيرتا كل أسلوب حياتها).
دخلت تلك المنطقة حلم المستثمرين بإنشاء
المشاريع الزراعية، مع أن تلك المناطق محدودة الموارد المائية والكساء النباتي،
فلقد نقل الإنسان الحديث كل تقدم علمي وتكنولوجي استطاع بهما غزو الصحراء ليغير
بذلك أسلوب حياتها التقليدي وينقل إليها مظاهر جديدة من الحياة والحداثة، وبدأ
الجمل يتراجع مثلما تراجعت الماعز، وظل أمل غزو الصحراء ينمو لأن الزراعة كانت في
تلك المنطقة العربية تقليدية تعتمد بصورة شبه كاملة على البذور المحلية، إضافة إلى
اعتمادها على الطرق والأساليب التقليدية في الزراعة وعلى الخبرات المتوارثة من جيل
إلى آخر دون الأخذ بنتائج الدراسات العلمية التي تبحث في المواءمة بين نوع
المحاصيل وبين التربة التي تزرع فيها إلى جانب المميزات البيئية التي تعتبر عاملا
مهما لمستوى إنتاجية الأرض، وحتى تتم مثل تلك المواءمة فإن ذلك يتطلب دراسة دقيقة
للظروف المناخية، فهناك اختلافات في الظروف البيئية والنشاط الاقتصادي نتيجة
لخصوصية الوضع الجغرافي، فقطاع الزراعة كان في الوطن العربي يعاني دائما من تأخر
التكنولوجيا، مما يؤثر سلبا على حجم الإنتاج الزراعي العربي وعلى مستوى إنتاجية
الأرض وعلى العامل الزراعي، ويجعل الوطن العربي دائما بحاجة لزيادة مساحة رقعة
الأراضي المستزرعة على أمل زيادة الإنتاج الزراعي بشكل أفقي عبر المناطق
الصحراوية.
الماء.. الماء
وفي بداية السبعينيات أخذ الإحساس
بالصحراء بعدا آخر، إذ مهما يكن الإعجاب بالصحراء وسحرها وانطلاق الخيال عن روعتها
وسكونها واتساع رقعتها المترامية وحياة البدو والتغني بالشعر وما إلى ذلك مما
يسجله الرحالة والمغامرون، فإن الحياة في الصحراء تستحيل تماما إن لم يتوافر للمرء
قدر معلوم من الماء يساعده على الاستمرار في البقاء.
فلولا الماء ماكنا، ولاكان الناس، فمن
الماء كل شيء حي، والأمطار التي تهطل في المناطق الصحراوية نادرة وشديدة التقلب.
نعم، فليست هناك أرض تحس الجدب إحساس الصحاري، ويبحث الإنسان عن حل للجدب لأن تلك
الأمطار تتميز بعدم انتظام سقوطها وبالتالي عدم إمكان الاعتماد عليها كمصدر ثابت
للماء، فلا يرى وسيلة خيرا من وسيلة الطبيعة بأن ينتظر ويكيف حياته على الدورات
الجفافية، فقد تمتنع الأمطار لعدة سنوات متتالية ثم لا تلبث أن تسقط بشكل فجائي
مكونة السيول الجارفة التي تحمل معها الدمار والخراب نتيجة لوجود بعض الزوابع التي
تخرج عن خط سيرها.
البداوة ليست بدائية
ولقد استطاع البدو رعي قطعانهم فى تلك
المراعي القاحلة والتي لا تصلح لشىءآخر، لأن البداوة هي وحدها القادرة على
الاستفادة من الطاقات الكامنة لهطول الأمطار في مكان دون الآخر.
لقد تمثل الدور السيىء للعامل البشري في
غزو الصحراء بإساءة استخدام الأرض وعدم الإفادة من الغطاء النباتي الأخضر، عن طريق
المبالغة في الرعي أو استنزاف خصوبة التربة، نتيجة المغالاة في زراعة المحاصيل
وعدم استغلالها بشكل مثالي في الزراعة، مما أدى إلى تعرية التربة وتحريك الرمال.
كما أن هناك اعتقادا مهما سائدا بين بدو
البلاد العربية بالانصراف عن فلاحة الأرض، لأن الزراعة كنشاط اقتصادي في رأيهم
أدنى في القيمة الاجتماعية من تربية الماشية.
فالبداوة كجزء من التراث هي أسلوب معين
للعيش والحياة يتلاءم رغم كل التقدم العلمي والتكنولوجي مع الصحراء والبيئة
الصحراوية. والحقيقة أن حياة البداوة، أى الحياة فى الصحاري ليست حياة بدائية ولا
هى مرحلة من مراحل تطور البشر، وإنما هي طراز من الحياة سلكته جماعات بشرية
استطاعت ببراعة تحقيق التوازن لبيئاتها على امتداد آلاف السنين. وبالفعل فقد عاشت
تلك الجماعات في الصحاري على هذا الأسلوب المركب الذي لا بدائية فيه، وإنما فيه
فكر وتدبير. فالبداوة هي نمط الحياة الذي يتضمن حركة انتقال الإنسان والحيوان،
فبدو الصحراء الحقيقيون في سوريا والعراق ومصر وليبيا وبدو الجزيرة العربية،
ينتقلون إلى الأراضي الصحراوية المنخفضة في فصل الشتاء، ثم يعودون بعد ذلك في فصل
الصيف. والجماعة البدوية غير مستقلة في اقتصادها، وتمثل المنتجات الحيوانية المورد
الرئيسي لثروتها، كما أن القمح في الغالب يعتبر طعامها الثابت، مما يستوجب الحصول
عليه عن طريق التبادل مع الجماعات الأخرى والمراكز الزراعية.
فالرعي البدوي يمثل استجابة ديناميكية
متخصصة للظروف البيئية، بدلا من مقارنتها بالحياة المتقدمة للجماعات المستقرة.
فجماعات البدو ليست جماعة بدائية ولا جماعات يائسة اضطرها البؤس إلى تحمل ضنك
العيش في الصحاري.
التنمية ليست بعدا أحاديا
لقد جلبت صناعة النفط ثروة هائلة إلى بعض
أقطار هذا الإقليم الصحراوي، وباكتشاف النفط كثروة بدأت تتردد كلمة التنمية،
واستخدمت تلك الكلمة من قبل الكثيرين وهم يتحدثون عن التنمية في المجالات
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. ولقد استخدم المفهوم بمعنى التقدم،
وبعضهم استخدم هذا المصطلح بمعنى التحديث، وبعضهم كان يستخدمه كمرادف لتعبير
التغيير. إن موضوع التنمية فرض نفسه على دراسات العلوم الاجتماعية منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية، وكانت سرعة التطور التاريخي أكبر من التراكم العلمي، وكان علم
الاقتصاد أسرع العلوم الاجتماعية استيعابا للموضوع. وبرزت التنمية الاقتصادية كأحد
اهتمامات العلم الرئيسية، وربما اعتبره البعض العنصر الوحيد لعملية التنمية. ولكن
التنمية الاقتصادية ما هي إلا أحد متغيرات الظاهرة التي تشمل متغيرات اجتماعية
وسياسية أخرى مثل طبيعة البناء الاجتماعى والعدالة في توزيع الدخل والتكوين الفكري
وبناء القيم. فالقيم الاجتماعية التي تضبط السلوك الاجتماعى وتوجهه تمارس تأثيرا
على عملية التنمية من حيث آثارها المباشرة على الحوافز وأنماط الاستهلاك، ودور
المعتقدات والتقاليد والعادات والأوضاع والالتزامات العائلية والقبلية. لقد أتت
الحكومات بأفكارها وفلسفاتها عن ضرورة تغيير نمط الحياة التقليدي في الصحراء ولكن
تلك الجماعات البدوية عاشت في الصحراء حياة حرة طليقة وانتظمت في قبائل، لأن
الحياة في الصحراء لا تحتمل الدول ذات التكاليف، فحلت القبيلة محل الدولة، وأصبحت
النظام السياسي السائد، فظهرت فلسفة (توطين البدو الرحل) وما ارتبط بهذه الفلسفة
من مشروعات ترمي إلى الاستفادة من الصحراء بشكل أفضل. وترتكز فلسفة التوطين على
الزعم بأن البداوة كنمط للحياة والقبيلة ككيان اجتماعي تتعارضان مع أي محاولة جادة
للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الصحراوية، وتقفان عقبة أمام كل الجهود
التي تبذل من أجل تقديم الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية للسكان، ضمن إطار
التنمية التى تهدف لإقامة بناء اجتماعي، يضمن استثمار إمكانات المجتمع المتاحة
أفضل استثمار ممكن، والتنمية تتطلب درجة من الاستقرار السياسي الذي يخلق إطارا
نفسيا ملائما للعمل. من هنا كانت الرغبة في إخضاع الجماعات القبلية للسلطة
الإدارية المركزية وبسط نفوذ الدولة على تلك الجماعات التي كانت حتى عهد قريب تؤلف
دولة داخل الدولة، لها نظمها الخاصة ولها قيمها وتقاليدها وأعرافها. فقضية التنمية
هي قضية تغيير حضاري شامل، تأخذ بعين الاعتبار جوانب المجتمع المختلفة التي تتعرض
لعملية التنمية. فالتنمية كقضية حضارية جوهرها تحقيق الغايات الجماعية للأفراد في
إطار المجتمع وهي التي تزيل العقبات التي تحول دون ذلك وتمكنهم من إطلاق قواهم
الكامنة لتحقيق هذه الأهداف بحيث يصبح المجتمع قادرا على تحقيق استقراره وتوازنه.
مؤسسة إنسانية
ولا تعيش المؤسسة الاجتماعية إلا بتحريك
واحتواء العناصر البشرية للمجتمع الذي توجد فيه المؤسسة، ولا ينمو الفرد إلا إذا
وجدت المؤسسة التي تنظر إليه على أنه العنصر الأساسي الذي وجدت المؤسسة من أجله.
من هذا المنطلق الجدلي ذي الاتجاهين ننظر إلى العلاقة الدائمة والقدرية بين الفرد
والمجتمع في إطار دينامية احتوائية محكومة بقوانين التبعية التى تتحكم بالحياة
الاجتماعية. فحاجات الإنسان الأساسية لا تشبع إلا على شكل سلعة يقدمها ويعرضها
المجتمع من خلال مؤسساته، وهذا ينطبق على الغذاء والكساء وغيرهما من الاحتياجات
البشرية ومن وسائل الاتصال بين الأفراد. والقبيلة في المجتمع البدوي وحدة سياسية
واجتماعية تقدم لأبنائها الأساس كما تقدمه الحكومات، بل هي تقدم هذا الأساس بصورة
أفضل، فأفراد القبيلة متساوون وحقوقهم وقيمهم الإنسانية محفوظة، وهناك نظام قبلي
يطبق بصرامة، ورئيس القبيلة ليس حاكما مفروضا بل رئيسا مختارا لأنه يعتمد في قوته
على رضا أفراد قبيلته عنه. وقلما يدخل الظلم حياة القبيلة، ومن ثم فإن الإنسان
ينمو في أعطافها حرا آمنا على نفسه وعلى غيره. والهيبة هي السمة الأساسية لقائد
مجتمع الصحراء، إنها الوجه الذاتي للسلطة وهي عبارة عن النمط الشخصي لصاحب السلطة،
في إدارة الجماعة وفي اتخاذ القرار، حيث إنه يضع في نمطه هذا من (عندياته) بصمات
إنسانية وريادية في التعامل مع الأفراد سلبا أم إيجابا، ترغيبا أم ترهيبا. فالهيبة
يمكن أن تكون رهبة أو لهفة، ولكن أقوى هيبة هي التي تستند إلى اللهفة أكثر مما
تستند إلى الرهبة، أي إلى التشويق أكثر من استنادها إلى الترهيب. فبدت سياسة توطين
البدو وكأنها تهدف للقضاء على تلك الفضائل البدوية التي جعلت تلك الجماعات تلزم
الصحاري وتفضل الحياة فيها عن حياة الحضر باسم إدماج المجتمعات القبلية في المجتمم
الكبير بحيث تصبح جزءا عضويا فيه ومتكاملا أجزائه العضوية الأخرى. فبدت العلوم
الاجتماعية وكأنها مستقلة عن كل تأمل فلسفي، لم تحاول فهم الإنسان البدوي بما
يملكه من طاقات وقدرات، ولم تضع. تصورا علميا عنه يوضح علاقته بالمحيط الطبيعي
والتاريخي للمجتمع العربي، فالإنسان هو أساس تاريخه الاجتماعي الحقيقي، ومن دونه
لا قيمة له، فالصحراء العربية ليست نفطا فحسب، وليست بداوة موغلة في القدم أدخلها
النفط في الحداثة والمعاصرة ولفهم أفضل لحركية التطور الاقتصادي والاجتماعي في تلك
المنطقة الحضارية من بلاد العرب، لا بد من الاعتراف بأن هناك قوى بشرية حية
وفاعلة، ذات حضارة إنسانية عربية تطمح لبناء مستقبل مزدهر بفضل قواها المنتجة
لتصنع تاريخها الإنساني بنفسها.
إن تغيير الإنسان البدوي يتم بمساعدته على
الخروج من أوهام الماضي وصدأ الحاضر، وتخليصه من ظلام الخرافات الاجتماعية
والفكرية والنفسية الرابضة عليه منذ مئات السنين، والتي ارتبطت ارتباطا عضويا
بمفهومه للأشياء والناس.
التغيير من الداخل
فالتقدم لا يغتصب من خارج، والنهضة لا
تكون بالتقليد، فالتغيير فعل داخلي ولا يمكن أن يكون إلا فعلا من داخل، من أجل
الحضور الإنساني وإشغاله.
فالتخلف الحضاري كما ثبت ليس التأخر في
مظاهر المدنية، إنما هو تأخر الروح والخيال والعقل والنفس والجسد.
لذلك فالمجتمع العربي عندما أراد أن يغير
الإنسان البدوي جعله يتنازل له عن حقوقه وطاقاته بأساليب متحجرة وبائسة، لكن هذا
المجتمع لم ينجح فى تغيير هذا الإنسان، بل نجح فقط في كبته وأسره وتجمده. مالم
يدركه المجتمع العربي هو أنه هو الذي يجب أن يتغير ليتكيف بعض الشيء مع هيامات هذا
البدوي، هذه الهيامات التي تدفع معظم البشر وتحركهم نحو الأفضل، وهو القانون الذي
يجب أن يخضع له المجتمع دون اعتراض.
إن قراءة العلوم الاجتماعية في مناهجها
الحديث قد تشجع على الإحساس بضرورة أن نكتب ما لم يكتب بعد، وإعادة الاتصال البريء
بين وعينا ومؤسسات العالم المداهمة لنا من كل حدب وصوب، فملامح الحضارة الحديثة
تزحف زحفا حثيثا نحو الصحراء، ففي مواجهة ظروف قاسية، مناخية وتاريخية، تنهض
الصحراء العربية بأحلامها لتحاول دخول أبواب المستقبل باحتمالاته الواعدة، ساعية
إلى إكساب موقعها حيوية وفعالية. ووجه الصحاري العربية يتغير بسرعة فائقة،
والمجتمع البدوي التقليدي تتبدل مقوماته فلا شك أن حضارة البدو هي حضارة موقوفة (Arrested
Civilization) لأنها تتكرر على منوال واحد ولا سبيل إلى
تغييرها، ولكنها حضارة قائمة بذاتها الا خصائصها ونظمها. لذلك على أرض هذه المنطقة
تدور معركة حضارية بين البداوة وأنماطها السلوكية وبين الحداثة وضروراتها والحضارة
وقيمها.
ونحن ندخل تلك المعركة بدون علم اجتماع،
بدون تاريخ مكشوف وكاشف لنا ولحاضرنا ولمن يعايشنا في هذا العالم، بدون علم
للإحصاء حول مختلف أرقامنا السرية.
قليلة جدا هي الدراسات الميدانية
الاجتماعية التي تسبر غور الفئات الاجتماعية العربية وتبرز تطلعاتها وتحلل
تصرفاتها وتوجهها للتكيف مع الواقع المتغير، فالباحث العربي يعمل على أساس مجتمع
تجريدي، دون القيام بأي جهد فعلي لإجراء تكييف كتصنيفاته على أساس معرفة دقيقة
للواقع المحلي.
لقد امتاز البدو دائما بالذكاء وسرعة
الخاطر وحسن التصرف والحكمة لأن أي تصرف غير حكيم قد يودي بحياة القبيلة. من هنا
جاءت الحقيقة المعروفة التى تقول إن البدوي من أعقل جماعات البشر، ونظامه
الاجتماعي؟ والسياسى من أبعد النظم عن الفساد وآفاته.
وقد يكون في تلك الدراسات كلها خير لسكان
الصحراء أنفسهم ولصالحهم للإفادة من تلك المساحات الهائلة من الأرض التي ظلت طيلة
القرون الماضية تؤدي وظيفتها نحو فئة محدودة من الناس أفلحوا في التكيف معها
اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ولا مفر من التسليم بأن العلوم الاجتماعية تسعى
لتوجيه الأفعال بشكل، مباشي، لا لمجر د التأمل، عن طريق انعكاس نتائج دراساتها على
السياسات العامة والخطط التنفيذية فتدخل نتائج البحوث ميدان التطبيق العملي للوصول
لهدف نفعي.
إن الدراسات الاجتماعية الميدانية مهمة
جدا، وخاصة أن القيادات في العالم لا تكاد تتخذ قرارا في أي قضية بدون دراسات تمهد
لسن السياسات. ولقد كشفت الصحراء في العالم العربي عن بعض ثرواتها الدفينة الهائلة
وأهمها البترول والذي نقل تلك المنطقة إلى العالمية وبدأ يغير وجهة العالم من
الناحية الاجتماعية والاقتصادية. لذلك لا بد من الدراسات الإحصائية واستخدام
الرياضيات لدعم تلك الدراسات الاجتماعية، فلا بد من تحليل المعطيات العديدة
واستنباط الإسقاطات الممكنة. كل ذلك أعطى للأبحاث السكانية وحدة وفتح أمامها
أبوابا جديدة.
(فالاحصاء
الاجتماعي) كمنهاجية تظهر الباطن وتجلي ماكان ضمنيا في كنف طيات الحياة العادية،
فتربط بين أجزائها وتثبت الصلات بين مختلف الظواهر الاجتماعية وتبين العلاقة
الكامنة وراءها.
البحث الاجتماعى والالتصاق
بالبيئة
لقد شاهدنا في السنوات الأخيرة أحكاما أدق
في التعامل الإحصائي والرياضي، إذ أصبحنا نستغل النماذج لتحليل شكل الاستمارات
ذاتها ولنتعمق فيما يمكن استنتاجه منها، ولعل كل التجارب التي حصلت في مختلف
ميادين العلوم الاجتماعية منذ قرابة القرن جعلتنا نسير بثبات فى طرق البحث
الميداني والتحليل الشكلي لورقات الاستتبيان، فنالت تلك الطريقة شعبية كبيرة ودخلت
عالم الصحراء محاولة تحليل النواحي الاجتماعية انطلاقا من علاقات مختلف الشرائح
الموجودة بالفعل في المجتمعات القبلية السائرة في طريق النمو. فالبحث عن البيئة هو
بحث عن القواسم المشتركة المحدودة عددا ودورا، والبحث الاجتماعي عنصر من عناصر
السيادة التي تجعل الإنسان يلتصق أشد الالتصاق ببيئته التي يتكون فيها، خاصة إذا
كانت صحراوية، كذلك بالأهداف التي يرمي أصحاب القرار التوصل إلها. ومن هذا المنظور
فإن من الضروري التعرف على النفس البدوية الكامنة في أولئك الناس الذين يقطنون الصحراء
طيلة القرون الماضية، ولا تزالي تستهوى أفئدتهم، تلك الحياة هى العنصر الأساسي في
تحليل الاوضاع السائدة. ولا شك أن تلك البحوث ستكشف في المستقبل القريب أو البعيد
فصولا أخرى في قصة الصحراء الطويلة المثيرة الشائعة. فالقضية الأساسية هي الوصول
بالبحث إلى قلب المجتمع البدوي الصحراوي العربي، وأن نستهدف الدقة والحقيقة لأنها
تمس جوهر الوجود الجماعي القبلي وتكشف القناع عما يجري حولنا. فالمجتمع الصحراوي
العربي بحاجة إلى إبراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني لا عن طريق التنظير من
أجل دعم أجهزة الدولة الحديثة لتنظيم تلك المجتمعات قبل دخولها دوامة عدم التوازن
بين العرض والطلب والدخول في دوامة الاستهلاك من تأثير الوسائل السمعية والبصرية
الحديثة، فالبحث الاجتماعي عنصر من عناصر السيادة القومية.
سيف الدين
الأتاسي / مجلة العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق