تحتاز العقرب مساحة في
ذكرياتي تعادل ما يهيمن عليه برج عقرب الفلك في السماء، ولا يزال المنظور المذعور
لأختي الكبرى وهي تحملني - صغيرا - فوق كتفها لتخترق بي الأحراش وصولا للمستشفى،
يقلق منامي ويشيع اضطرابا في نفسي، لقد كانت بيئتي المبكرة، الحارة الرطبة
الدافئة، أصلح البيئات لنمو الورد والشر والعقارب والتوجس والرغبة العارمة في
التراحم والتواصل مع الآخرين، "حتى القضاء عليهم".
وفي حين يريق العامة بعض
صفات النبل على الثعبان فإنهم يجردون العقرب منها : الخيانة ترفع ذبانها الخلفي،
وكلابتيها الأماميتين كي تداهم - في نعومة - الكائن الآمن ولو كان وليدا، ومع ذلك
فسيظل السر غامضا : تلك القدرة الساحرة التي يمتلكها الحواة، حينما يرتلون ويدعون
ويمدون أيديهم في الفراغات، لتخرج العقارب الشريرة ذليلة هادئة من الشقوق، وقد
رأيت أحدهم في "أسوان" وقد استخرج طابورا من العقارب في مشهد يذكرك فورا
باستسلام القائد الإسرائيلي عساف ياجوري للقوات المصرية في حرب 1973. وتتفاعل
العقارب في البلاغة الشعبية وصفا لمن لا يراعي ولا يرحم، وفي نعت الأقارب، وفي
الجسارة الدنيئة، وفي التسلل للفراش الجديد للعرائس - أي في إفساد ليلة الهناء
الأولى بمجرد ظهورها دون اللدغ، ولعل قدرة العقرب على إثارة الذعر لا توازيها قدرة
أخرى، وواقعة قاطع الطريق الصعيدي - في الأربعينيات - الذي فشل الجميع - وكلهم
مسلحون - في الإيقاع به خير مثال، فبعد أن اختفى وجدوه في مغارة مرعوب الوجه
مفزوعا وقد قضى نحبه وبجواره عقرب مقتولة بكف اليد لا يزيد طولها على سنتيمترين،
وهو لا يزال متشبثا ببندقيته. ويقول الدميري في كتابه عن الحيوان: ومن لطيف أمر
العقرب أنها - مع صغرها - تقتل الفيل والبعير بلسعها، وفي منطقة نصيبين - بالشام -
عقارب قتالة، وكان بعض الملوك والفاتحين يأتي بها ويجعلها في كيزان ثم يرمي بها في
المجانيق، حينئذ يحدث الاستسلام!!
وتلمح شكل العقارب بين ملامح الذكي الضعيف
" ولا تحتقر كيد الضعيف فربما.. تموت الأفاعي من سموم العقارب"، وعلى
وجه أول ضابط يحرس قائدا انقلابيا، وفي الأنف المعقوف لشيلوك بطل مسرحية تاجر
البندقية لشكسبير، وفي التشكيل المتنمر لحواجب أنثى أوقعت برب أسرة آمنة، وفي حركة
دبابة مهاجمة حيث يتوافق إيقاع حركتها تماما مع العقرب، وفي الترصد الناعم للقدر
المحتوم حينما يحتويكما فراش واحد، وفي الغموض المتسع للصحراء المترامية الأطراف -
في ثنايا رمالها تجد حتفك - تحت قدمك مباشرة، وفي النكد الذي ترعاه الحماة لتعيش
فيه عروس ابنها الصغيرة معدومة التجربة، وفي حمى ذبان مشرط طبيب يقتلع كلية مريض
سرا لحساب مريض آخر، وفي سن قلم يدبج سم الباطل، وفي وخز حقنة ضلال تدمر الجهاز
العصبي الإنساني، وفي إمعان العين الحسود وهي ترمقك - تود أن تنتزعك وأسرتك من
الدنيا، وفي تقوس إصبع ضاغط على زناد الكراهية، وفي قوسين يضعهما حول اسمك صاحب
سطوة كي يلحق بك أذى، وفي رسوم العقارب - بالحبر القديم - داخل تميمة أو تعويذة أو
حجاب تقطع عليك طريق الإنجاب. والعقرب اختزال شرير لمعنى الزمن، إذ ما تكاد تشرع
ذبانها وكلابتيها متجهة إلى ضحيتها حتى تنهار المعادلات والمتوازيات واستواء
اللحظة، وفور الوخز يندفع الألم، وما بين زمن الوخز والوصول إلى أي علاج - حتى ولو
كان امتصاصا بدائيا للسم من موقع الوخز- يتولد الإحساس العميق بالزمن، هل لذلك
استعارت الساعة كلابات العقارب لتصبح الإشارة الواضحة لحركة عقاربها ؟
ولدغة العقرب - في يقين الناس - تبرئ من
قروح الصدر "هل هو الربو؟ " والسعال وفساد القصبة الهوائية، وإن حرقت
فتت رمادها الحصى من الكلى وأسقط البواسير، ويذكر داود الأنطاكي عددا وافرا من
أمراض يعالجها سم العقرب وذنب العقرب وكلابة العقرب، منها الجرب والحكة والبرص والبهاق
والكلف والنمش، وهذا يفسر أن الصيادلة رفعوا لهم شعارا: "الثعبان الملتوي حول
الكأس" بديلا عن العقرب، والتي تكاد تختزل في تكوينها أدوية صيدلية بأكملها،
مما يهدد مستقبل الصيادلة بالخطر.
محمد مستجاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق