السمسم
القادم من جوف التاريخ رقيقاً هامسا، مثيراً للنشوة والسعادة والعزف الموسيقي
أيضاً
سمسم، سماسم، ألفاظ التدليل في اللهجة الرقيقة التي
يداعب بها الناص العزيزات عليهم، وفي الغالب يكون الاسم الأصلي: سامية أو سمية،
يشيرون بذلك إلى التواصل مع هذا النبات الأليف المتماوج خضرة مسالمة مع النسيم.
ولعله نبات الحبوب الوحيد الذي يحظى باندماجه العذب في
اللهجات الشعبية أو اللغة الفصحى بعد الزهور والورد، وهو- بالتأكيد- نبات قديم
يعتقد المتخصصون أن موطنه الأصلي إفريقيا الاستوائية، وتنتشر زراعته في المناطق
الحارة بآسيا وإفريقيا- دون أي إشارة إلى وجوده في أمريكا- مما يقوي عمق وجودة
التاريخي، ومع ذلك فلم أجد له أثراً بين جميع أنواع المحاصيل الزراعية القديمة في
الكتب التي اهتمت بذلك مثل الحياة اليومية في مصر القديمة للفرنسي بيير مونتيه،
"ترجمة عزيز مرقس" ومعجم الحضارة المصرية القديمة، ترجمة أمين سلامة-
ومؤلفوه جماعة من علماء الغرب، لكن الأهم من ذلك أن السمسم- بصفته نباتاً مسالماً
يدخل في هدوء إلى حياة الناس في بلادنا دون ضجيج مواسم القطن أو القمح أو أزمة
الفول المنتصر دائما مرتبطا بالمائدة المصرية، ذلك أن الإحساس الجمالي للسمسم
يجعله يتناثر حبيبات على بؤرة قرص الطعمية الشهير، ثم إن السمسم يتسلل إلىخلطة أي
مخلوط الكزبرة "بالزاي أو السين" والفلفل والملح والكمون ليثير الاشتهاء
في "البيصارة" والفول المدمس، ويزعم أصحاب الرؤية النفاذة في أحوال
البشر أن حبوب السمسم- حين تضمها تعويذة علاج أو حجاب حارس- يوقف مسعي الشياطين إن
حاولت إيذاء مستعملها، ويقوم البشاريون- قبائل جنوب الصحراء الشرقية المصرية- بعمل
سفوف من السمسم يمضغونها في أناة واستحلاب إن واجهوا جوعاً شديداً قبل الأكل،
فالسمسم يساعد على تنشيط الغدد اللعابية وإفرازات المعدة، والسفوف- كما هو معروف-
وكما هو وارد في المعجم اللغوي- كل دواء يابس غير معجون، ويستخدم عادة للأطفال غير
القادرين على المضغ لخلو الفم من الأسنان، وجاءت منه ألفاظ الإسفاف التي يسف بها
الناس- أي يتصرفون تصرفات تافهة.
وكالعادة
ينحرف السمسم الوديع ليدخل في الجدول الشعبي الخاص بطقوس السعادة والهناء، حيث يتم
سحق حبوبه مع قطع الحشيش- وقد يضاف إليها السكر، ثم يستحلب الخليط في الفم السعيد
ليشع النشوة تمهيداً للرجولة المأمولة، ثم هناك الحلاوة الطحينية- والمعروف أنها
مستخرجة مباشرة من طحن أو سحق حبوب السمسم مع السكر- والتي يخلطها عتاة خبراء
السعادة الشعبية- مع نبات الخشخاش "أصل الأفيون"، لتسحق في هدوء هامس أو
صامت بالغ النقاء- دون ضجيج، بعدها يضاف بعض من حبيبات حبة البركة، وبعدها يترك
المعجون ساعتين صيفا- أو عدة ساعات شتاء، ليريق- خلال استحلابه- القوة القصوى في
الأجساد المعتلة، وتمثل الحلاوة الطحينية نسبة كبيرة من أغذيتنا اليومية المعهودة
مع الفول المدمس والطعمية، مع أن الريف المصري ظل دهوراً يعتقد أن الحلاوة
الطحينية بالذات غذاء الموسرين الأثرياء أو الطبقات العليا، حتى فوجئوا بها غذاء
مقررراً في المدارس الابتدائية والثانوية "لم تكن المرحلة الإعدادية قد اكتشفت
بعد" أيام نظرية طه حسين الخاصة بحق الناس في التعليم المجاني مثل حقهم في
الحصول على الماء والهواء، وعليك أن تضيف الحلاوة باطمئنان، غير أن الطحينة-
النتاج السمسمي السائل ذا القوام المتماسك- والتي تخلو من السكر ، ظلت حتى كتابة
هذه السطور بمنأي عن التواصل مع الريف المصري، انتشر فقط- بعد العاصمة- في المدن،
وعندما نكون في قريتنا ونطلبها ينظرون في وجوهنا بارتياب، تماما مثل السمك المشوي
والكابوريا والجمبري، مرفوض كل ذلك في الريف، وقد يثير التعليقات المريرة التي
تبدو ضاحكة.
ويعرف
زيت السمسم- والموازي في استعماله واستهلاكه لزيت بذرة القطن- بزيت السيرج، ومنه
جاءت السرجة- أي المكان الذي به طاحونة سحق السمسم لاستخرج الزيت، وتستعمل درجات
نقائه المتعددة في الطهي "وصحتها الطهو"، وفواتح الشهية مع الخل
والقدونس والبصل وشرائح اللفت، وفي الإغراض الطبية- المقويات ومساعدات التئام
الجهاز الهضمي، وفي صناعة الأغذية، وكسب السمسم يعد غذاءا فاخراً للبهائم تعلو
قيمته على كسب بذرة القطن، وتعد بلدة بني قرة "محافظة أسيوط" مركزاً
لتصنيع هذه الأنواع من الكسب والزيوت، وكان توزيعها على الفلاحين وأصحاب مزارع
البهائم يتم عن طريق الحكومة إلى وقت قريب، واشتهرت- لذلك- عصابات أو جماعات تهريب
زيت السمسم والكسب، وكان محظوظاً من يتاح له فرصة الهيمنة على توزيع هذه السلع،
علماً بأن الفلاحين- لا يزالون حتى الآن- غير مقبلين على زراعة السمسم- وهو ما
يحدث للقطن المصري الآن- الذي يواجه كارثة تتحدث عنها الجرائد، ذلك أن الفلاح
العصري لم يعد يرتاح لأنواع من المزروعات المجهدة، التي تحتاج إلى رعاية ورقابة
وحنان ضد العطش، أو الغرق، أو الجفاف، أو ضرورة التنظيم الدقيق للري والتسميد، مما
أدخل السمسم- في مصر- إلى الأركان الضيقة القليلة، لبعض المزارعين، الذين يدركون معنى
السمسم، ومدى رقته، والتفاؤل الجميل بزراعته، سمسم سماسم، وكل الحنان ينساب من
ظلاله الرقيقة وحبوبة الأنيقة المدللة، التي تدغدغ الحواس، وتنفث في القلوب دفئاً
يدعو للتأميل والحب، وتكاد تتحول إلى نغمات بالغة الشجن من أوتار السمسمية
الشهيرة، التي تراقص على ألحانها أبطال المقاومة في منطقة قناة السويس أثناء
الحصار الدموي خلال الحروب المتوالية، والتي تصنع طعما خاصاً لتاريخنا المعاصر.
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق