أجمعت المدونات التاريخية بصدد أحداث الدولة العباسية
في القرن السابع الهجري "الثالث عشر الميلادي" على أن العاصمة بغداد أُغرقت
في العام 1258م في بحيرة من الدماء غداة احتلالها على يد هولاكو، وقد فقدت- في
متوسط تقديرات المؤرخين- ثمانمائة ألف من السكان، غالبيتهم من جند آخر الخلفاء
العباسيين، المستعصم بالله، وأفراد الأسرة وحاشيتها والمدافعين عنهـا، فضلا عن
أهالى المدينة الذين رأحوا ضحية هوس المغول بالتنكيل في مرحلة عنوا بإثارة الرعب
والخوف بين أعدائهم من العرب والفرس والأتراك والروم والمماليك، إمعانا في إضعافهم
وتفتيتهم.
وإذ اتفق الرواة على بشاعة أيام الاحتلال الثمانية
التي شهدتها عاصمة العباسيين خلال المعارك الشرسة بين القوات المغولية الجامحة
وجيش الخلافة المترنحة فإنهم اختلفوا في نقل واقعة إتلاف الكتب والمجلدات النفيسة
التي تضمها خزائن ومكتبات بغداد بين من أنكر الإتلاف تماما على يد هولاكو وجنده،
وبين من تجاهل الإشارة إلى ذلك أو من بالغ في تصويره أو تخبط في نقل وقائعه، الأمر
الذي يحمل على الاعتقاد بأن ثمة استطرادا في الوصف وقع فيه العديد من التحقيقات
والتأويلات التاريخية، استطرادا تخطى حدود الأمانة وعم بعض حوافظ الكتابة
والتأليف، نقلا- أغلب الظن- عن أفراد من الأسرة العباسية وبغداديين نجوا من
المذابح وبلغوا شمال إفريقيا، آنذاك، ليرووا ما حدث بزيادة في التبشيع، ما يفسر
انتشار روايات إتلاف المغول لكتب العباسيين وإحراقها وإغراقها بين مؤرخين في مصر
والمغرب (القلقشندي وابن خلدون) ورواة لا حقين استندوا إليهم، وغيابها أو وجودها
مخففة- كما هي في الواقع- لدى شهود مرحلة الاحتلال وسنواتها مثل الطوسي وابن
الفوطي وغيرهما، ولم يكن ليطعن فيما. رواه هؤلاء بزعم أنهم كانوا مضطرين إلى
مجاراة المغول القابضين على زمام الدولة، فقد سجلوا أنفسهم وبالكثير من مؤلفاتهم-
كما هو الفوطي- صور المذابح التي أوقعها المحتلون بالسكان وأحصى العديد منهـم
الخسارات التي بالأرواح والممتلكات والعوائد.
وإذا
ما تملينا بهدوء، وعلى ضوء النسبية التاريخية، ما نقله مؤرخون ورواة سجلوا واقعة
إتلاف الكتب على يد هولاكو فإننا لابد أن نضع أيدينا على اختلال بين في بناء
الوقائع، فقد أورد ابن الساعي أن المغول "بنوا اسطبلات الخيول وطولات المعالف
بكتب عوضا عن اللبن" ما يرقى إلى الشك في وجاهة التدبير، واكتفى ابن خلدون
بالقول: "ألقيت كتب العلم التي كانت بخزائن العباسيين إلى دجلة"، وقال
القلقشندي: "ذهـبت خزائن كتب الخلفاء فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت
آثارها" وأكتفى ابن تغري لأتابكي بالقولى: "إنهـا أحرقت" وسجل ابن
المغول أن لمحتلين: "بنوا (بالكتب) جسرا من الطين والماء بدلا من لآجر"
وأضعف روايته الضعيفة أصلا بالقول: "وقيل غير ذلك" وبلغ قطب الدين
النهرواني في التخيل مبلغ الاختلاق بقوله: (رموا كتب بغداد في بحر الفرات وكانت
الكثير منها جسرا يمرون عليه ركبانا ومشاة، وتغير لون الماء بمداد الكتابة إلى
السواد"، فهل ثمة من لايجادل في معقولية أن تقطع أكداس الكتب نهرا متدفقا
وجارفا مثلا نهر دجلة لتصبح جسرا تعبر العامة من عليه.
أما
بصائر تلك الأيام وشهودها والذين حققوا، فيما بعد، في أحداثها ووثقوا وقائعها عن
قرب فلم يأتوا على أخبار إحراق الكتب وإتلاف خزائنها على يد المغول باستثناء
الإشارات إلى عبث المحتلين في قصور العباسيين ومسجد الخلفاء ونهب وإحراق وإتلاف
موجوداتها بما فيها خزائن الكتب الثمينة وهي لاتزيد على عشرين ألف مجلد كان قد سلم
العديد منها.
تاريخ للقتل
لقد
أرخ للقتل وأعمال الانتقام والنهب وانتهاك الأعراض أبرز علماء الحاضرة العباسية
ومشاهيرها من أمثال كمال الدين الفوطي، خازن كتب المستنصرية في عهد هولاكو،
واللبناني قطب الدين اليونيني، ورشيد فضل الدين الهـمذاني، والمؤرخ الدمشقي شمس
الدين الذهبي، ونصير الدين الطوسي الذي نقل نشاطه العلمي في مجال الفلسفة والفلك
إلى مدينة "مراغه" في أذربيجان ونقل إليها من بغداد في ظل احتلال هولاكو
مايزيد على 14 ألف كتاب من مختلف الأجناس الأمر الذي يحيط بالشكوك روايات إتلاف
الكتب والقضاء على خزائنها من قبل المغول، وطبقا لابن أبي الحديد فإن هولاكو اصطفى
الطوسي لمسئولية خزائن الكتب في بغداد مما لا يصح تعيين مسئول لامر لا وجود له.
ويشير
مؤرخ معاصر "محمد مفيد آل ياسين " إلى أن أهل الحلة والكوفة والسيب
كانوا غداة الاحتلال المغول "يجلبون إلى بغداد الأطعمة، وكانوا يبتاعون
بأثمانها الكتب النفسية" وهي إشارة فصيحة الدلالة إلى انتشار الكتب وخزائنها
في بغداد بعد الاحتلال مما تم التداول به، وطبقا للياسين فن وقائع الغزو المغولي
لبغداد وحوادثه موثقة في أربعة مراجع تاريخية أولية هي "الحوداث
الجامعة" وهو أرشيف حي ليوميات الاحتلال ولايعرف مؤلفه و"رسالة استيلاء
المغول على بغداد" للطوسي وكتاب احتلال بغداد لرشيد الدين فضل الله ومعجم ابن
الفوطي، وهي جميعا خالية من ذكر إتلاف هولاكو للكتب.
لقد
أمعن المغول في الانتقام من مدينة بغداد ومن شواهدها الحضارية وقد قتلوا، بين من
قتلوا من السكان، العديد من العلماء المقربين من قصر الخلافة "يقول الفرطي
إنهم 14 عالما" منهم النساخ اللامع ابن أبي الفتح البغدادي والفقيه ابن
البديع وابن القصاب والأمدي وابن أبي البقاء، ولكن تحقيقات في سيرة الإنتاج الفكري
لتلك المرحلة تؤكد أن ثمة العشرات من العلماء كانوا يقومون بنشاطهم الأدبي أواخر
العصر العباسي وقد استمر ذلك النشاط، ودونما صعاب، إلى مابعد احتلال المغول
وانهيار الدولة العباسية، ومنهم ابن الدوامي وابن أبي الحديد وابن أبي الجيش وابن
العلقمي وابن النيار وابن طاووس والزنجاني واين عكبر والشيخ الصوفي وابن عبدالعزيز
العدل وإياز النحوي وصفي الدين الحلي والمستعصمي والقاضي
روح الانتقام
وإذ
أعاد ابن خلدون إمعان هولاكو بإحراق خزائن الكتب في بغداد إلى روح الانتقام
المغولية "ردا على ما فعله المسلمون بكتب الفرس " فقد أخطا هـنا مرتين،
الأولى، حين تحدث عن المغول والفرس كملة واحدة خلافا لما هو معروف عن كونهما ملتين
مختلفتين، وأن المغول أبعد ما يكونون عن أديان الفرس وعقائدهم المعروفة، والثانية،
حين تحدث أن المسلمين الأوائل أتلفوا وأحرقوا كتب الفرس مما لاثبت له في المصادر
وما لم يأخذ به أحد من مؤرخي تلك المرحلة المعتمد على رواياتهم.
وقد
يفترض أصحاب الإشارة إلى الإتلاف بأن خزائن قصر المستعصم التي أستبيحت من قبل جنود
هولاكو كانت تضم كل كتب ومؤلفات العاصمة العباسية، وهي فرضية هشة إذا ما أعيدت
قراءتها على ضوء الحقائق التاريخية المعروفة عن المرحلة، فإن كتب المدرسة النظامية
التي أسسها الناصر لدين الله "الخليفة 34" قبل سبعين سنة من الغزو
المغولي بلغت حسب ابن الأثير "في الكامل" عشرة آلاف مجلد، وقد ترك لأحد
العلماء أمر المكتبة وحركة التأليف، وتفيد إشارات غير قليلة أن هذا الخليفة نقل
إلى المدرسة المستنصرية الشهـيرةن وفي نفس الفترة، ما حمله مائة وستون حمالا من
الكتب النفيسة أو ما يقدر بثمانين ألف مجلد، كما أن خزانة كتب مؤيد العلقمي وزير
الخليفة المستعصم الذي قاتل هولاكو واستسلم له زادت على عشرة آلاف مجلد من نفائس
الكتب وقد بقيت بعيدا عن العبث لأن العلقمي استمر في الوزارة إلى حين، فيما لاحقته
شبهة التواطؤ مع هولاكو ومراسلته عشية الإغارة على بغداد، وثمة أكثر من إشارة إلى
أن تجارة الكتب انتعشت في بغداد بعد أشهر من احتلال المغول لها، وأن ابن بطوطة
الذي زارها بعد سبعين سنة رصد حلقات العلم والتأليف في المدرستين النظامية
والمستنصرية.
وفي
تنقيبات المؤرخ المعروف عباس العزاوي الخاصة بأوراق غزر المغول لانجد الإشارة إلى
إغرق الكتب أو إحراقها حيث "أوقعوا بالاهلين ما لم يخطر على بال" وسجل
أن الخليفة المستعصم سلم لآسريه المغول حوضا مملوءا بالذهب و700 من النساء
والسرايا وألفا من خدم، وذهب إلى أن هولاكو أبقى الشرائع على حالها وترك الشئون تجري
بمقتضى عقائد السكان حيث " يتعرض الفاتح للمؤسسات الدينية" ولكنه لا حظ
"ضياع الكتب وبعض المكتبات" أو الذهاب بها إلى "مراغة".
لقد
وقعت الذاكرة التاريخية ضحية المبالغة والغلو في تحميل "الأجانب"
مسئولية الكوارث التي أحاقت بالعرب، حين أخذت الروايات الكيدية عن مصائر كتب بغداد
على يد المغول دونما تدقيق، وعذر هذه الروايات أن المحتلين الذين نكلوا وقتلوا
ونبهوا لم يكونوا ليتورعوا عن فعلة أقل بشاعة من القتل مثل التنكيل بالكتب، وهو
استطراد يحمل من الظنه أكثر مما يحمل من التوثيق وينكر الاختلاق بين دوائر الأفعال
وشروطها، ويفقد حصانته إزاء المكائد السياسية واعتباراتها التي كانت، كما يبدو،
حاضنة الغلو، وينتهي في خاتمة المطاف إلى تبرئه خلفاء عباسيين أمعنوا في كم
الأفواه وأحرقو وأتلفوا كتبا نفيسة لاحصر لها ولاحدود لأهميتها العلمية والتاريخية
والفقهية، وإلى تلفيق صورة زاهية عن العهد العباسي في طور انهياره بخاصة، حيث
استسلم للمغول، بل إنهم اجتاحوا الدولة العباسية من ثغرات في إدارتها.
وتشاء
دورة المغالاة أن تلف بالنسيان حقيقة أن مدينة بغداد وقبل عامين من أحتلال هولاكو
تعرضت إلى فيضان لا سابق له حيث التقى دجلة بالفرات وأغارا على خزائن الكتب والبشر
وغمرت موجاتهما الجامحة سطوح المنازل وانصاف شاهق المنائر، مما يتعين، في الأقل
إعفاء المغول من العبث بمصائر الكتب التي جرفتها تلك المياه الغاضبة.
المصدر:
1
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق