ظلّت عصا "أبو رِجل مسلوخة" مهيمنة على عقلي
منذ سنوات الطفولة والصبيانية "حتى الآن"، كان هذا الرجل طويل القامة
ممزق الملابس معصوب العين، ساقه اليمنى- أو اليسرى- تفح بألم الأربطة البالية،
يتوكأ على نوع من العصي غير المشذبة والتي يفوق طولها قامته.
كان أبو رِجل مسلوخة يداهمني في الكوابيس الليلية
متسللاً من حكايات أمي وجدتي (قبل أن يستولي التليفزيون على وظيفة الحكي المأثور
بلا حنان أمي أو جدتي)، كما كانت عصاه قادرة على الانتشار السريع في الدروب
والحقول، ومسارب الجبال، أي في أيدي المتسولين وأبطال حلقات التحطيب وكبار السن
ورعاة الغنم والفتوات والمدرسين وشيوخ الكتاتيب، متعددة الأشكال - هذه العصى حسبما
يكون لصاحبها من وجاهة أو وظيفة، تكون طويلة أنيقة ذات طرف مكسو بالجلد في حالات
الوجاهة والأناقة، وتظل تقصر حتى تتخلص من أناقتها ونعومة ملمسها لكي تصلح أداة
عقاب للحيوانات وصغار العمال والتلاميذ، قد تكون مصنوعة من الخشب، أو من سيقان
أشجار الخيزران (الغاب الهندي) أو فروع أشجار السنط أو التوت أو الجميز، أما العصى
التي تصنع من جريد النخيل فتقتصر على شئون الرعي دون الوجاهة.
وأخطر
عصا تاريخية في القصص الديني - هي عصا النبي موسى عليه السلام، والتي حلت له -
ولقومه - مشكلة العطش سورة البقرة آية 60 فقلنا أضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه
اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم (الآية 60 من سورة البقرة)، والثانية
حينما هزم سحرة فرعون مباراة إثبات الذات واستعراض القدرة، فقد ألقى السحرة بعصيهم
لتصبح ثعابين تسحر عيون الناس وتسترهبهم، وحين ألقى موسى بعصاه تحولت إلى حية مروعة
التهمت انجازات سحرة فرعون (وردت القصة مرات في القرآن الكريم- منها ما جاء في
سورة الأعراف من الآية 105 إلى الآية 117)، ثم كانت هذه العصا هي التي استخدمها في
ضرب البحر فينفلق ليتيح له ولقومه الهروب من فرعون الذي يداهمهم بجيوشه.. (وقد ورد
ذلك أيضا في مواقع عديدة بالقرآن الكريم منها سورة الشعراء، الآية 63).
أما
أكثر العصى شهرة في الأدب الشعبي فهي التي يمتلكها جحا، ويقوم بالتلاعب بها حين
يداهمه أمر الحكمة الساخرة، مثلما ورد في حكايته مع ابنه حين سار خلفه وقد أركبه
الحمار مما أثار تعليقات الناس، فقام جحا بامتطاء الحمار مع ابنه مما أثر- على
الحمار شفقة الناس، حينذاك قام بالأنفراد ركوبا للحمار تاركا ابنه يسير خلفه مما
أثار انتقادات الناس، بعد ذلك أصبح مناسباً أن يعلق جسد الحمار في عصاه ويحمله مع
ابنه لتصل الموعظة إلى منتهاها دون أن يريح الآخرين، وربما كانت هذه الحكايات هي
بدايات فلسفة الوجودية التي وصلت إلى أوجها في العصر الحديث على يد الفرنسي جان
بول سارتر، حينما جعل الآخرين طرفاً جديرا بالانتقاد (أو الإلغاء) إذا ما كنت تبحث
عن تحقيق قيام الذات دون كدر.
وقد
لوحظ أن كثيرا من علماء الدين لا يستغنون عن العصا دون أن يكونوا في حاجة كي
يتوكأوا عليها، وربما كانت العصا ذات الرأس الملتوي-أي العكازة- أشهرها، هي عادة
قديمة- أي موروثة- ربما ترجع إلى هدف الحماية عن عوائق حرية الحركة في الدروب
والطرق ايام الخوف المبكر من الكلاب، هذا إذا لم يكن القصد الأصلي هو الاستعانة
بها في السير بالنسبة لمن تكون ظروفهم الشخصية غير موائمة لحرية الحركة لخلل في
الأقدام أو السيقان أو العيون، مع أن كثيرين من الوجهاء - في العالم كله - كانوا -
ولا يزالون - يتمتعون بامتياز استخدام العصى الصغيرة - أو القصيرة: الباشوات
والكونتات والدوقات، وهناك عصا المارشالية الشهيرة والتي كان الرئيس أنور السادات
مغرما بها - مثل عظماء قادة الجيوش، ولها رأس من ذهب مزخرف يعطيها شكلاً فاخراً،
وخاصاً كما أن جزءا أساسيا من الهيئة الملكية - وحتى الآن أيضاً - يعتمد في تشكيله
الرائع على العصا الملكية، والتي تحمل رأسها - عادة - شعار الملكة، وأشهر عصا
روائية كانت تلك التي يمتلكها شرلوك هولمز طوال فترة أدائه القصصي عند السير أرثر
كونان دويل، كانت قصيرة وجميلة وبها زخارف جلدية أنيقة، يعبث بها حين يجلس في
غرفته محاولاً فك طلاسم الاغتيالات المتوالية - مع أهمية تدخين سيجارة مصرية - وهذه
ظاهرة ولا علاقة لها بكوني كاتباً مصريا - أما العصا الفرعونية - والتي نشاهد لها
أشكالاً فائقة الزخرفة في الهياكل الفرعونية القديمة - ذات رءوس تحمل رموز أرباب
الفراعنة - فقد ظلت مطمعا لأخطر تجار ومهربي الآثار، آخرها عصا توت عنخ آمون التي
سرقت من فوق صدره المعروض بجناحه الخاص بالمتحف المصري.
لا
أود أن استغرق في جذب عالم فن العصا المرتبط بألعاب التحطيب والفروسية، أو تلك
العصا الرفيعة الخيزرانة، والتي كانت جزءا من تشكيل هيئة العريس القروي، حينما
يخبط بها - مع التصفيق الضاج والصارخ - على الباب الذي تكون العروس خلفه مستعدة
لاستقباله الاحتفالي - تمهيدا لأن تنتهي مهمة العصا الاحتفالية، لتبدأ وظيفة أخرى
قد تتعلق بتربية العيال أو الذود عن الحقول والحيوانات والبهائم، أو في مجال تأديب
الطرف المصون، والذي أثرنا موضوع الاحتفاء بالوصول إليه أو إليها من سطور قليلة.
المصدر:
1
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق