الرفاهية
يشهد العالم اليوم تنامياً مطّرداً في امتداد أثر الدعوة إلى التنمية المستدامة على قطاعات منتجات وخدمات الرفاهية، مــثل ماركات الـــمـــلابس الـــفـــاخـــرة والـــساعات والمجوهـــرات وأدوات الـــتـــجـــميل والسيارات الفارهة وقطع الأثاث واللوحات والتحف باهظة الثمن، إضافة إلى ما تقدمه المقاصد السياحية من فـــنادق ومطاعم وخدمات أخرى، تدر دخولاً تقدر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً.
وسواء أحرز هذا التقدم نتيجة لوعي القائمين على هذا القطاع أو ذاك، أو نتيجة لسيل الضغوط والانتقادات التي وجهت إلى أسواق البضائع الفاخرة - منها ما يتعلق بتشجيع الاستهلاك غير الضروري والتبذير، والإساءة للبيئة، واستغلال العمالة - فقد بدأ هذا القطاع أخيراً في وضع سياسات وممارسات الحفاظ على البيئة وتحمّل المسؤولية الاجتماعية على رأس أولوياته، وأعاد النظر في جوانب ذات علاقة بالمواد الخام المستخدمة والتصاميم من حيث تماشيها مع ما تطرحه التنمية المستدامة من قيم ومبادئ تهتم بالتجديد والإبداع وسبل السيطرة على الأخطار البيئية المحتملة.
تعميق العلاقة
تقول ماريا أوجينيا في تقديمها لكتاب Sustainable Luxury إن العلاقة بين الرفاهية والاستدامة بدأت تتعمق على أثر ثمة حقائق، منها بث فيلم «عبيد الرفاهية» من جانب شبكة RAI الإيطالية في نهاية 2007، الذي شاهده الملايين عبر الإنترنت، وكشف عن حقائق متعلقة بسلاسل إمدادات ماركات ملابس شهيرة، ومعاناة المهاجرين الصينيين غير الشرعيين في إيطاليا الذين يقومون بصنع قطع الإكسسوار لمصلحة ماركات عالمية.
وفي العام نفسه، نشر الكاتب الإيطالي روبيرتو سافيانو روايته «غومورا»، التي وصفت صناع البدلة البيضاء، التي ارتدتها الممثلة الأمريكية الشهيرة أنجلينا جولي على سجادة الأوسكار الحمراء، بالمجرمين والقتلة.
ورغم أن سافيانو لم يشر إلى ماركة بعينها، فإن جمهور القراء تمكّن من معرفتها، وكانت هي نفسها الماركة المتهمة في الفيلم سابق الذكر. وفي عام 2007 أيضاً، صدر كتاب دانا توماس الأكثر مبيعاً وهو Deluxe، الذي تناول قضية كيفية فقد الرفاهية لبريقها، وأرسلت عبره بضعة علامات إنذار.
هذا إلى جانب تقرير «رفاهية أعمق» الذي نشره صندوق الحفاظ العالمي على الطبيعة WWF في بريطانيا، والذي أشار إلى أن بعض مستهلكي منتجات وخدمات الرفاهية هم في الحقيقة متأثرون بطموحات محملة بقيم عميقة كالقضايا البيئية والاجتماعية. وهؤلاء على استعداد لفعل ما في وسعهم لمساعدة الناس، وأكد التقرير أنهم أقل الأشخاص إنتاجاً للمخلفات.
وفي 2009 عقدت مؤتمرات مهمة في هذا المجال خاطبت قضايا وركزت على موضوعات تتعلق بتغير المستهلك والمفهوم الجديد للنجاح من أجل بلوغ رفاهية مستدامة.
ومن بين هذه المؤتمرات، مؤتمرا «الرفاهية المستدامة» الذي عقد في نيودلهي بالهند؛ و«قمة الأعمال والرفاهية» الذي عقد في موناكو.
وفي عام 2010 تم تأسيس مركز لدراسات الرفاهية المستدامة بهدف مساعدة الشركات في قطاع الرفاهية على التحول نحو الاستدامة. وأطلقت في العام نفسه أول جائزة سنوية للرفاهية المستدامة.
وشهدت الأعوام التالية صدور عدد من التقارير التي تناولت قضايا الأداء الأخلاقي لماركات الرفاهية، وكيف يمكن لقطاع الرفاهية والمجتمع أن يغيّر الواحد منهما الآخر إلى الأفضل. كما صدرت في وقت لاحق كتب ناقشت الرفاهية المستدامة وريادة الأعمال الاجتماعية، وقدمت قصص نجاح لرواد أعمال في قطاع الرفاهية.
قواسم مشتركة
تكشف التحليلات العميقة أن بين الرفاهية والتنمية المستدامة مساحات وقيم مشتركة؛ ففي مقابل الأسعار المرتفعة التي يدفعها مستهلك بضائع الرفاهية، يبحث عن جودة عالية لخامات تصمد عبر الزمن، وإتقان صنعة أيد عاملة ماهرة يعتمد عليها، ومستوى جمالي فريد ونادر يحقق المطلوب من التمييز والشعور بالثقة والمكانة الاجتماعية المرموقة.
كما أنها تحقق في النهاية أرباحاً يذهب جزء منها للفقراء عبر الضرائب أو عن طريق المساهمات والدعم للمشروعات المجتمعية، مثل تلك التي تخصص لتنمية نساء إفريقيا من المعيلات والأرامل والمرضى.
وفي جوهر هذه القيم وسواها مضامين مستدامة، فبعض منتجات الرفاهية تورث لأجيال بعد أخرى كالمجوهرات وقطع الأثاث والأعمال الفنية والسيارات؛ ونظراً إلى نفاستها يحافظ أصحابها عليها ويقتصدون في استخدامها لتعيش أطول فترة ممكنة. ولا تتحول بسهولة إلى مهملات، لأنها حتى بعد تقادمها تكتسب قيمة متحفية جديدة.
وبرغم وجود دراسات تبين حقيقة أن مستهلك البضائع الفاخرة نادراً ما يضع الاستدامة في اعتباره أثناء اتخاذ قرار الشراء، فإن دراسات أخرى أشارت إلى أن هناك فئة من المستهلكين يهمها أن تكون - أو تبدو - واعية وتتمتع باتجاه إيجابي نحو مبادئ الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية التي تتضمن التجارة العادلة الهادفة لإعطاء كل صاحب حق في سلسلة الإمدادات حقه، وتحافظ على البيئة بالتزام سبل تخفيف العبء عن الأرض كشراء منتجات مصنعة من خامات معاد تدويرها ومواد تغليف صديقة للبيئة، والحد من استهلاك بعض الخامات النادرة، مثل الأخشاب والجلود والفراء، والأحجار الكريمة والمكونات الأخرى.
وقد بينت دراسة أجرتها أخيراً رامشانداني وزملاؤها لمعرفة اتجاهات المستهلك الهندي نحو النظارات الشمسية الفاخرة المصنوعة من مواد معاد تدويرها، استعداداً واضحاً لقبول هذه السلعة لأنها صديقة للبيئة، والقلة التي لم تفضلها جاء قرارها بسبب مقاومة الجديد وعدم الثقة به. كما كشفت الدراسة أن الإناث أكثر ميلاً لشراء المنتجات المستدامة مقارنة بالذكور.
سياسات مستدامة
اعترافاً من قطاع صناعة الجلود بالآثار السلبية لهذه الصناعة على البيئة ومساهمتها من ثم في تلوث الهواء وأزمة المياه وظاهرة التغيير، ورغبة في خلق نوع من التوازن، يسعي هذا القطاع نحو وضع سياسات مستدامة تضبط سلسلة الإمدادات وفقاً لمعايير الاستدامة؛ كاستخدام جلود حيوانات تربت في مزارع عضوية.
وقد أكد المجلس الوطني الفرنسي للجلود، الذي أشار إلى وجود ندرة في الجلود على أثر الانخفاض في استهلاك اللحوم الحمراء، أن منتجات بعض حقائب «ديور» المصنعة في إيطاليا، مثلاً، تنتج نسبة أقل من ثاني أكسيد الكربون مقارنة بتلك المصنعة في الصين. كما ترفق حقائب «غوتشي» المصنعة بالبرازيل بصورة مستدامة بشهادات تثبت تفاصيل خاماتها وتاريخها ومصادرها وطرق نقلها.
وفي قطاع صناعة السيارات الفاخرة، نجد أمثلة مثل «بورش» و«رولز رويس» ومجموعة «بي إم دبليو» قد وضعت لنفسها أهدافاً لخفض انبعاثات الكربون والتقليل من الاستهلاك في منتجاتها بنسبة تقترب من النصف مع حلول 2020؛ إضافة إلى الاتجاه نحو تصنيع مركبات كهربائية صديقة للبيئة.
وهناك عديد من نماذج ريادة الأعمال أقامت أعمالها الجديدة في قطاع الرفاهية المستدامة على مبادئ التنمية المستدامة، إلى درجة أن اتهم بعض خبراء الرفاهية التنمية المستدامة بأنها قد غذت الرفاهية على نحو ما، وساهمت في ظهور حاجات جديدة لم تكن موجودة، فالدعوة للعودة إلى الطبيعة، على سبيل المثال، تطلبت بناء سلاسل من المدن والقرى والمنتجعات البيئية بما يتضمن ذلك من منتجات خضراء تتعلق بالطاقة والمياه والزراعة وغير ذلك.
وإلى جانب ذلك، ترفع الماركات الفاخرة شعارات بنكهة مستدامة مثل «اختر جيداً، واشتر أقل». وتستقطب المشاهير والأثرياء من مستخدمي منتجات الرفاهية الفاخرة من أجل المساعدة في لفت الانتباه إلى أهمية التنمية المستدامة، وذلك من خلال قيادة مبادرات خضراء أو نشر قيم مستدامة.
وهكذا تضع شركات منتجات الرفاهية لنفسها رؤى تقترب من خلالها نحو الطبيعة التي تمثل في جوهرها تعبيراً عن الرفاهية؛ كما تحاول فهم قيم ومعتقدات وأساليب حياة مستهلكيها الحاليين والمحتملين في محاولة لأخذهم بجولة مستدامة، كمن يستلهم من تصميمات الماضي التراثية ليضيفها إلى قطع معاصرة جذابة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
ضعف الذاكرة عند
الأطفال: أسباب وعلاج
كيف تغير نظرة
الآخرين لك اتنال احتراماً أكبر
مظاهر العزلة لدى
المراهقين وأبرز طرق علاجها
كيف تتعاملين مع
الطفل غير المطيع
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق