نور الهدى
بدأت ألكسندرا نقولا بدران( نور الهدى لاحقاً)، مثلها في ذلك مثل مطربات عصرها، مهتدية بالهواية، متكئة على الموهبة. لم يتيسّر لها أبداً أن تتلقّى درساً في معهد موسيقي، كما أنه لم يتهيأ لها أن تبلغ دروساً كافية في القراءة والكتابة، ولا في شؤون الأدب واللّغة وما إليهما. وبعد هذا وذاك كان ممنوعاً عليها أن تحترف الغناء، أو أن تميل إلى الهوى، أو أن تقول: «ميلي ما مال الهوى، ميلي يا عينيّ».
كان من نتيجة عدم المرور بالمدارس والمعاهد، أن ألكسندرا بدران كانت في أيام عزها وشهرتها تعزف على العود في حدودٍ ضيّقة، وتقرأ وتكتب في سطور قليلة، إلّا أنها سطّرت في الغناء سطوراً كبيرة واضحة ومقروءة ومسموعة.
وتوجهت ألكسندرا منذ البداية نحو الغناء الصّعب الذي يتطلب، إضافة إلى الصّوت الجميل، الدراية والمعرفة، كالموّال الذي يحتاج إلى المقدرة على الارتجال والانتقال المتواصل بين المقامات، والدّور الغنائيّ الذي يختلف كثيراً عن غيره من الصيغ الغنائية، من حيث قيام بنائه اللحني على الترداد والتغيير التصاعدي في الألحان، والتبادل التلقائي في الجمل اللحنية بين المغني أو المغنية، والمذهبجية المردّدين، خصوصاً في حالات ما يعرف بالهنك والرنك (الآهات وما إليها)...، إلّا أنّ الفتاة تخطّت تلك المصاعب بواسطة الرغبة والموهبة والتمرّس المبكر.
ومن دلائل توجّهها المبكر نحو الغناء، نصيحة الملحّن نقولا المنّي لذويها بضرورة انتظار «أن تكبر البنت»، قبل ضمّها إلى قائمة المغنيّات (وذلك حين قصدوا بيته في غفلةٍ عن والدها، راغبين في الحصول على رأيه بصوتها، وعن مدى استعداده لتشجيعها والتّلحين لها).
وقد كانت والدتها توافق الأقارب في السماح لها بالغناء، على العكس من والدها الرافض رفضاً تامًّا لمثل ذاك التوجه، وكان من حسن حظّ هؤلاء أنّه كثيراً ما كان الوالد المعاكس يترك مسكنه العائلي للعمل في شؤون البناء بأماكن بعيدة.
ومن الدلائل على ذلك التوجّه المبكر، نصيحة مماثلة من محمد عبدالوهاب الذي أحضروها للوقوف في حضرته بمدينة عاليه اللبنانية، في دارة ثريا بيضا، حيث كان يمضي إحدى صيفياته. أمّا الدليل الثالث فهو الفستان الصغير الذي كانت ترتديه حين غنّت لأول مرّة أمام الجمهور، والذي كانت تحتفظ به، وكان والدها يتذكّره هو الآخر منذ أن ضبطها في غنائها ذاك، فانهال بالضرب المبرّح عليها... وعلى ذلك الفستان.
في مقابل النّصيحة بالترّوي من نقولا المنّي وعبدالوهاب، كانت اللّفتة المشجّعة التي أنارت الطريق وسهّلت المشوار لفتة الملحّن خالد أبوالنصر، إلى جانب الملحّن سليم الحلو، والعوّاد إلياس القطريب، والرقاق رفّول، الذين أمسكوا بيدها مرحّبين مشجعين.
اللّحن الأوّل الذي صاغه أبوالنّصر لألكسندرا كان لكلمات قصيدة تمّ اقتطاعها من إحدى الصحف، عنوانها ليلى، ويقول مطلعها:
ليلاي إن هجرت لن أنساكِ
فلقد أخذتِ القلب يا بشراكِ
وقد أتبع أبوالنّصر لحنه ذاك بألحان أخرى كانت في معظمها لكلمات الشاعر اللاذقاني نوفل إلياس، الذي توطّدت علاقته بها لاحقاً حين أصبحت تقوم بجولات فنيّة في سورية بين دمشق وحلب واللاذقية، منشدةً الموشحات والأدوار والقصائد. وكان بين تلك الألحان قصيدة:
أهواكِ لا أدري لمَ أهواكِ
وسواكِ لن أهوى ولو برضاكِ
وقصيدة:
أرى سلمى بلا ذنبٍ جفتني
وكانت أمس من بعضي ومنِّي
وقد شدت بهاتين القصيدتين المطربة زكيّة حمدان في وقتٍ لاحق، وكان تعاون أبوالنصر معها وثيقاً تماماً، كما كان مع ألكسندرا، خصوصاً بعد انتقال الأخيرة إلى مصر.
وأمام إصرار الفتاة الناشئة، وبعد ملاحظة نجاحاتها الأوليّة، وافق الوالد على توجّهها الفنّي، مشترطاً أن يرافقها في كلّ حلٍّ وترحال، أيّاً كان المكان أو الزّمان، وهذا ما شجّعها على إخراج رغبتها الرئيسة إلى العلن، وهي الرّغبة في الانتقال إلى أرض الكنانة.
وقد سنحت الفرصة أمامها ليس في بيروت، مدينتها، بل في حلب البعيدة. ففي سنة 1942 كانت ألكسندرا تغنّي بحلب في وقت كانت فرق مصريّة عديدة تحضر إلى تلك المدينة الأصيلة للتمثيل والغناء؛ ومنها فرق كل من ببا عزالدّين، وليلى حلمي، ويوسف وهبي( فرقة رمسيس المسرحية).
وقد حضر يوسف وهبي إحدى حفلات هذه الفتاة اللبنانيّة فأعجب بفنّها، وسأل عن أهلها، فتولّى الطبيب الفنّان فؤاد رجائي تأمين اللقاء بهم في حفلة تكريمية كانت الفنانة الشابة نجمتها.
وثق وهبي بجمالِ صوتها وطلّتها، ولفتته جرأتها وحيويّتها ووضوح شخصيّتها، ووجد فيها المواصفات المطلوبة للعمل السينمائي الناجح، فاقترح عليها عقداً للعمل معه مدّة خمس سنوات في مصر، مقابل مئة وخمسين جنيهاً عن كلّ فيلم تشترك فيه، ووعدها بتأمين تأشيرة السفر إلى هناك بعد ثلاثة أشهر، وقد تولّى والدها التّوقيع على العقد.
وهكذا كان، ففي أواخر نوفمبر 1942 وصلت ألكسندرا إلى القاهرة بواسطة القطار عن طريق فلسطين، وكان في الانتظار يوسف وهبي والمنتجان السينمائيان غبرييل وإدمون نحّاس.
وبدأ التفتيش على الملابس في الحال، وكان اعتماد الاسم الفنيّ الجديد «نور الهدى» من قِبل وهبي ومحمد كريم وأحمد بدرخان ومخرجين وفنانين آخرين، بواسطة القرعة، ويقال إنه كان بين الأسماء المطروحة اسم صباح.
في السينما المصرية
كانت الإطلالة السينمائية الأولى لنور الهدى في فيلم جوهرة، وهو جوهرة أفلامها. وقد تكوّنت فرصة اشتراكها فيه بعد الخلاف الذي حصل بين يوسف وهبي من جهّة، والمخرج توجو مزراحي والفنانة ليلى مراد، من جهّةٍ أخرى.
وانسحبت ليلى مراد فحلّت نور الهدى محلّها، وكرّت السبّحة من فيلمٍ إلى فيلم حتى الفيلم الثالث والعشرين، مع أكثر من كاتب ومخرج وملحّن وممثّل وممثّلة، وقد أتبعت ذلك بفيلم أخير في لبنان سّنة 1958 بعنوان «لمن تشرق الشمس» (حوار شكيب خوري، وسيناريو نقولا حلاق، وتلحين شفيق أبوشقرا ويعقوب طاتيوس ويوسف فاخوري ويوسف فاضل، إخراج يوسف فهدة).
أمّا عناوين أفلامها في مصر فكانت وفق تدرجّها الزمنيّ بين 1943و1953، كما يأتي:
جوهرة، برلنتي، مدموزيل بوسة، أميرة الأحلام، مجد ودموع، لست ملاكاً، غدر وعذاب، المنتقم، قبّلني يا أبي، حياة حائرة، نرجس، المستقبل المجهول، مبروك عليكِ، هدى، أفراح، غرام راقصة، الشرف غالي، شباك حبيبي، ما تقولشِ لحدّ، مصري في لبنان، عايزة أتجوّز، حكم الزمان، حكم قراقوش.
أما المخرجون فكانوا وفق الترتيب الهجائي: صلاح أبوسيف، أحمد بدرخان، هنري بركات، أحمد جلال، عبدالفتاح حسن، حلمي رفلة، أحمد سالم، حسين صدقي، فطين عبدالوهاب، جياني فرنوتشو، عباس كامل، محمد كريم، نيازي مصطفى، يوسف وهبي.
وناظمو الأغاني: أبوالسّعود الإبياري، نقولا بدران، جليل البنداري، حسن توفيق، بيرم التونسي، أحمد جلال، صالح جودت، بديع خيري، شريفة خيري، أحمد رامي، عبدالعزيز سلّام، حسين السيّد، مصطفى السيّد، عبدالفتاح شلبي، كامل الشنّاوي، مأمون الشنّاوي، حسن عبدالوهاب، مرسي جميل عزيز، كمال عطيّة، فوزي العنتيل، محمود فهمي، فتحي قورة، عباس كامل، عبدالفتاح مصطفى، أحمد منصور.
أمّا الملحّنون فلم يتأخر أيٌّ منهم عن التعاون معها في الأفلام التي قدّمتها: زكريّا أحمد، فريد الأطرش، محمد البكّار، عزّة الجاهلي، موسى حلمي، رياض السّنباطي، محمود الشّريف، عبدالغني الشّيخ، يوسف صالح، أحمد صبرا، أحمد صدقي، فريد غصن، علي فرّاج، محمد فوزي، محمد القصبجي، محمد الكحلاوي.
يذكر أنّ ألحان السّنباطي والقصبجي توزّعت على معظم أفلام المطربة نورالهدى، أما ألحان زكريّا أحمد فقد توزّعت بين الأفلام الآتية: مدموزيل بوسة (1945)، أميرة الأحلام (1945)، نرجس (1948)، حكم قراقوش (1953).
وتوزّعت ألحان فريد الأطرش بين: ما تقولش لحدّ (1952)، عايزة أتجوّز(1952)، اللذين تولّى تلحين أغانيهما كاملة، وكان له لحن واحد في فيلم حكم الزمان (1953) يا ساعة بالوقت إجري( نظم عبدالعزيز سلّام). أمّا ألحان عبدالوهاب فتركّزت في فيلم لست ملاكاً ، )1946) إضافةً إلى لحنٍ واحد في كلّ من الأفلام الآتية:
- قبّلني يا أبي (1947)، الدنيا ساعة وصال( نظم مأمون الشنّاوي).
- المستقبل المجهول: (1948) أقولك إيه وعينيّ كلّها نجوى (نظم أحمد رامي).
- حكم قراقوش: (1953) قولوا لشاكي الهوى (نظم بديع خيري).
ومن أغانيها السينمائية التي استمرّت علاقة المستمعين بها إلى ما بعد عروض الأفلام التي تضمّنتها:
- الدنيا ساعة وصال( وقد ورد ذكرها أعلاه).
- يا أوتوموبيل يا جميل محلاك: نظم التّونسي، تلحين السّنباطي( فيلم جوهرة 1943).
- يا ربّ سبّح بحمدك كلّ شيءٍ حيّ: نظم التّونسي، تلحين الكحلاوي (فيلم جوهرة 1943).
- يا ساعة بالوقت إجري( وقد ورد ذكرها أعلاه).
- يااللي تحب الفلّ: نظم مأمون الشنّاوي، تلحين القصبجي( فيلم قبّلني يا أبي 1947).
- يا نا يا وعدي: نظم التّونسي، تلحين غصن( فيلم جوهرة 1943). ومن دواعي الاستغراب ألّا يشتهر بصوت نور الهدى أي لحن من ألحان زكريا أحمد، على الرغم من طول باعه ورسوخ أصالته في الموسيقى العربية، وعلى الرغم من إعجاب هذه المطربة بألحانه، وبتشجيعه الواضح لها كما كانت تذكر دائماً، إذ إنّه كان يخفّض القيمة الماليّة التي يطلبها منها عن كلّ لحن، في وقتٍ كان يطلب ضعف ذلك من المغنيّات والمغنّين الآخرين.
العودة إلى لبنان
في عودتها إلى لبنان عام 1953 اقتصر نشاط المطربة نور الهدى على تسجيل أغنيات مختلفة لدى شركات الأسطوانات، كما أنّها أنشأت لنفسها شركة باسم نورفون، لم يكتب لها النجاح ولم تستمر طويلاً.
وفي أواسط الستينيات ركّزت نشاطها في تقديم مسلسلات إذاعية لمصلحة القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، تمّ بناء أغانيها على تراث الشعر العربي من اختيار وإعداد سعيد الهندي، أمّا الملحّنان فكانا توفيق الباشا وزكي نصيف، وعناوين المسلسلات هي: ملكة المسارح، طروب، حبابة.
وفي مطلع السبعينيات انتقلت إلى تقديم مسلسلات تلفزيونية لتلفزيون لبنان بعناوين:
ليالي الأندلس، الغريبان، نوّارة.
شاركها فيها إلقاءً وتنفيذاً عبدالمجيد مجذوب، كما كان من الممثلين ميشال تابت.
الملحّنون في المسلسلات الثلاثة كانوا: جورج أبيض، وشفيق أبو شقرا، ورياض البندك، وجورج تابت، وميشال خياط، وناصيف عرموني، ومحمد محسن، وسعيد الناشف.
وكانت بعد ذلك فترة تقاعد طويلة غابت فيها نور الهدى عن مسرح الغناء.
لماذا تعثّرت مسيرتها الفنيّة؟
1 - اقتصار حظّها من النجاح على الغناء في السينما:
النجاح الأشدّ وضوحاً لدى مطربتنا كان في السينما، خصوصاً على الصعيد الغنائي، إذ إنّها منذ البداية لم تكن متخصّصة في التمثيل، سواء المسرحي أو السينمائي، ولم تكن متّجهة إليه لا من باب الهواية ولا الاحتراف، ولا من باب الحريّة الاجتماعية التي كانت مستبدلة عندها بالمحافظة والتزمّت.
يضاف إلى ذلك أن الأدوار التي أسندت إليها لم تكن رئيسة مئة في المئة، (وهي شكت من ذلك في بعض المرّات (ففي فيلم لست ملاكاً، كان دورها التمثيلي دور فتاة عمياء، وقد اضطرت إلى أن ترضى به، لأن حلمها منذ بداية طريقها الفني كان أن تغنّي إلى جانب عبدالوهاب، الذي كان بدوره يرغب في أن تشاركه نور الهدى في نصف بطولة الفيلم، إلى جانب الممثّلة راقية إبراهيم.
وهي كانت عاتبة عليه لسبب آخر أيضاً، وهو أنّها اعتبرت أنّه استردّ لحنه «شبكوني ونسيوني أوام»، الذي لحّنه لها خلال تحضير الفيلم، لكنّه عند التّصوير النهائي، ترك لها أن تقدم المقطع الأوّل ليس إلّا، ثم تابع هو غناء اللّحن كاملاً.
وهكذا فإنّ توقّف المطربة عن الغناء في السينما، وفي المصريّة بالتحديد، وضع حدًّا لانطلاقتها. وكان هذا هو الحدّ الأوّل. وقد تراجعت عروض الملحّنين بتقديم الألحان إليها، وتراجعت هي في طلب تلك الألحان، والسّبب ماديٌّ هنا قبل كلّ شيء، أمّا في حال ألحان الأفلام فقد كان المردود المادي مضموناً إلى حدٍّ بعيد، اللهم إلّا إذا فشل الفيلم أو ترافق عرضه مع أزمة سياسية أو اجتماعيّة.
والواضح أنّ من بين الملحّنين الذين استمرّوا في التّعاون مع نورالهدى خارج الأفلام كان السّنباطي وفريد الأطرش، وممّا غنّت من تلحين الأوّل: إلى الحبيبة،( نظم الأخطل الصغير بشارة الخوري)، التي يقول مطلعها:
نم إنّ قلبي فوق مهدك كلما
ذكر الهوى صلّى عليك وسلّما
ومن ألحان فريد الأطرش: لأ مش كده( نظم إسماعيل الحبروك). وكان فريد مشجّعاً للمطربة في مسألة رجوعها إلى القاهرة، بعد أن استقرّت في بيروت، إلّا أن ظروفها لم تسمح بذلك، كما أنّ حساباتها لم تنطبق على هذا الموضوع، على الرّغم من رغبتها الدّفينة به.
أمّا عبدالوهاب فلم يبقَ على تجاوبه السابق معها، على الرغم من إيجابيّته تجاه صوتها منذ بداية توجّهها نحو الفنّ، وقد كان يحرص على أن يرافقها بالعزف على عوده عند تحفيظها أغاني الأفلام، وهي تذكر أنّه كان ميّالاً إلى أن يعرف من خلالها أيّ شيء عمّا يحضّره الآخرون لها من ألحان، وعلى وجه الخصوص زكريا أحمد.
2 - الميل المفرط إلى العرض الصوتي:
ورثت نورالهدى ذلك الميل عن والدها. صحيحٌ أنّه عارض بشدّة توجّهها نحو الفن في البداية، وكان لها منه أنواع وأساليب من القمع والمنع، قبل أن يضطرّ إلى المرافقة، مشترطاً مرافقتها في الذهاب والإياب، إلّا أن طبعها الغنائي مستمدّ منه قبل غيره، وكثيراً ما تحدّثت عن أنّه كان صاحب صوت جميل، خصوصاً في أداء الموّال المعروف في بيروت بالموّال البغدادي، الذي اشتهر بأصوات كبيرة مثل أصوات محيي الدين بعيون وإيليّا بيضا وإلياس ربيز.
من هنا كان ميلها الأوّل في أسلوبها الغنائي إلى مواويل فتحيّة أحمد، ومواويل عبدالوهاب وقصائده القديمة التي لم تكن بعيدة عن أجواء المواويل.
لذلك فإنّ ما أدّته من أغانيها التي وضع ألحانها كبار الموسيقى العربية في عصرها وفي كلّ عصر، كان بالنسبة إليها خاصاً ملتصقاً بالأفلام، وكانت تنصرف عنه بعد الانتهاء من تلك الأفلام لتؤدّي في جلساتها الخاصة وفي حفلاتها القليلة مع الجمهور ألحاناً ليست لها: دور «أصل الغرام نظرة» مع ما يسبقه من ليالٍ، قصيدة «يا جارة الوادي»، قصيدة «يا ناعماً رقدت جفونه»، حتّى قصيدة «غيري على السلوان قادر» (التي يتوزّع المؤرخون بين إعادة نصّها الشعري إلى ابن الفارض أحياناً، وإلى البهاء زهير أحياناً أخرى)، فإنّها لو مالت إلى أدائها في مناسبةٍ ما، فلا بدّ أن تؤديها بلحنها القديم الذي وضعه أبوالعلا محمد، مع أنّها أدّتها في فيلم شباك حبيبي (1951) بلحن رياض السّنباطي.
والسّنباطي هو مَن هو في عالم التلحين، لكنّ لحنه هذا كان مخصّصاً للفيلم، حيث لا لزوم للعرض الصوتي ولا لأجواء الليالي والمواويل. بأيّ حال، لم يكن مطلوباً حينذاك من الأفلام قضايا كبيرة ترتكز إلى روايات شائكة وألحان مشبعة بالطّرب تشغل الفكر والخيال، إنّما كان المطلوب تقديم دفعات متقطّعة من الغناء في قالب قصصي مختصر، مبنيّ على حسن الصّياغة في الإخراج والتّمثيل والأداء والتّصوير.
بين مصر ولبنان
اضطرت نور الهدى إلى توزيع شخصيتها بين الطابعين المصري واللبناني، وفي مصر شكت من مضايقات مختلفة كثيراً ما ذكرتها بمرارة وأسى.
وفي الشكوى من ذلك، وجّهت رسالة إلى الرئيس عبدالناصر عبر مجلّة الشّبكة في 2 أبريل 1956، قالت فيها «إن الإجراءات التي فرضتها الرقابة المصرية الصارمة علينا، نحن أهل الفن في لبنان وسورية، تتنافى وروح الثّورة التي كان من أسس قيامها تقوية العلاقات الطبيعيّة بين مصر وكلّ قطر عربي. لماذا يا سيادة الرئيس يُفرض علينا أن نتوجّه إلى وزارة الداخلية في مصر، طلباً للموافقة على منحنا سمة دخول، بينما لا يَفرض لبنان في المقابل سوى طلب بسيط تتقدّم به الفنانة المصرية إلى السفارة في القاهرة لا إلى وزارة الداخلية بلبنان»؟
وكتب سعيد فريحة في المجلّة نفسها في 19 مارس 1965 إن الفنانين الشّوام لا يستطيعون الدخول إلى مصر إلّا إذا كانوا مرتبطين بعقد، ولا يستطيعون الحصول على ذلك العقد إلّا إذا اتّضح أنّه ليس بين المصريّين من يحلّ مكانهم، وإذا اتّضح، وهذا قليل، قيل لهم: تفضّلوا ادخلوا بشرط أن يقتصر عملكم على فيلمين اثنين في السنة.
إنّ مصر هي قاعدة الفنّ في العالم العربي، ولا يجوز أن تخشى مزاحمة شقيقاتها الصغيرات في شخص نور الهدى أو نور الصباح.
إلّا أنّ هناك من يقول في المقابل، إنّ المضايقات الفنيّة أمر ممكن الحصول، وقد يعانيها الفنان والفنانة حتى ولو كانا داخل وطنهما، ففي لبنان أيضاً شكت نور الهدى من الصدود بشكلٍ أو بآخر، ومن الإعراض والمقاطعة.
كما أنّها عند عودتها إليه وجدت أنّ الفنانات والفنانين الذين تركتهم في بداية الطريق قبل سفرها إلى مصر، قد استقرّ كل منهم في طريقه الفنيّ واختار زاويته الفنيّة، ولم يكن سهلاً بالنسبة إليه أن يفتح بابه لأيٍّ كان. وهي بدورها كانت تنظر من عليائها إلى هؤلاء فتُعرض عنهم في أحيان، وتميل إلى التعاون معهم في أحيان أخرى.
أذكر هنا أنّه لدى تنظيم لائحة شاملة بأغانيها خلال إعداد كتابي عنها «من الأَرز إلى الهرم: المطربة نور الهدى»، كانت ميالة إلى توثيق ما غنته في مصر بأكمله، وإلى الاختيار بين هذه وتلك من الأغاني التي غنتها أو سجّلتها خارج مصر.
تعثّر إدارتها لنشاطها الفنّي
صحيح أنّ والد المطربة كان ملازماً لها، ومواظباً على الوقوف إلى جانبها ظلًّا دائماً، سواء عند شروق الشمس أو عند غروبها، إلّا أنّ ذلك كان لدواعٍ اجتماعيّة لا فنيّة، هذا على الرّغم من مشاركته في كتابة بعض النصوص الغنائية أو التمثيلية لها.
وقد كان ذلك مصدر انتقاد متواصل من النّقّاد المتابعين، إضافة إلى شكوى المجتمع الفنّي من وجود هذا الحارس المراقب إلى جانبها، الواقف سدًّا منيعاً وحاجزاً مرتفعاً بينها وبين ذلك المجتمع. وهكذا يمكن القول إنّ المطربة نور الهدى كانت وحيدة في الطريق الفنيّ الشائك، ولم تستطع أن تكوّن فريقاً متخصّصاً يعمل إلى جانبها.
وبسبب استمرار غياب مثل هذا الفريق، فإنّها اعتادت على القول في سرّها، ومن باب الكبرياء والثّقة العارمة بالنفس، إنها ليست محتاجة إلى أحد، وإن إمكاناتها الصوتية كافية وشافية لضمان بلوغ المراتب العليا، وحجز المقعد الدّائم في دنيا الخلود، لكنّ ذلك لم يكن يكفي بالتّأكيد .
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
ضعف الذاكرة عند الأطفال: أسباب وعلاج
كيف تغير نظرة الآخرين لك اتنال احتراماً أكبر
مظاهر العزلة لدى المراهقين وأبرز طرق علاجها
كيف تتعاملين مع الطفل غير المطيع
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق