عكا:
على شواطئها تتكسر الأمواج والجيوش الغازية... لا محالة اترك قناديل البحر لبحرها
يارفيق؛ وابحث عن قناديلك أنت تعرفها، فما بين البحر وبين السور متسع لتأمل تاريخ أكبر
كثيرا من المدينة. ولا تبكِ كثيرا، فلن يفيد البكاء.. ولا تبتئس فلم تضيّع أنت
المدينة. هي المدينة مهملة وضائعة يارفيق..
والبحر غير البحر رغم تشابه الماء..
فامض زائراً كما زار غيرك. - ولكن عليك إن لم تعد عكا.. صنع شيء تقدر عليه.. - أن
تعيد الرواية من جديد! - أو أن أحمي المدينة بالخل والبخور! - كان ذلك يجدي في
الحماية من الطاعون.. هل من شاعر هنا كي نلوذ بكلماته؟ هل من ناثر؟ من كاتب؟ من
دمع؟ وموسيقى؟ من يسعفنا في كتابة المقدمة والنهاية؟ هل من أمل؟ لا بدّ منه حتى لو كان
الواقع كئيباً! «لقد أنستني عكا عظمتي» عبارة قالها الجنرال الفرنسي الكبير
نابليون بونابرت وهو يولي منهزمًا عن المدينة، تلك المدينة الصغيرة التي تقع على الساحل
الفلسطيني، استطاعت أن تهزم أقوى الجيوش في ذلك الوقت.
أسير
في عكا وأنا مثقل بالتاريخ.. إنه أكبر كثيرا من جغرافية المدينة. أتأمل العكيين فأتذكر مما
قاله عنهم الشريف الإدريسي في وصفه لعكا، بأن ناسها أخلاط، أي من جنسيات وقوميات
مختلفة نتيجة وضعها التجاري، فقد كانت ميناء دوليا لقرون، أما أنا اليوم فلا
أرى أنهم كذلك، فالمدينة الأسيرة لا تجذب الزوار..
عند
مدخل المدينة ثمة مشهد تتشابه معه وبه الأحداث، أسوار مسيطر عليها، أسوار تحتضن بيوتا
قديمة عطرت المكان والزمان بعبق التاريخ، خانات، مساجد، كنائس، برج الخزنة حمام
الباشا كنيسة مار أندراوس خان واحتلال عمره 63 عاما.
منذ
النكبة غيّرت إسرائيل أسماء المعالم والشوارع والساحات العامة، إذ تحول السوق الشعبي في عكا
إلى سوق ماركو بولو والميناء إلى رصيف رمبام وساحة الصيادين إلى فنيسيا.
عكا
لم تعد حرة، ولم يعد الصيد حرا كما كان، إن سلطات الاحتلال تلاحق صيادي الأسماك وتمنعهم من
الوصول الى بعض الأماكن من البحر، إضافة الى محاربتهم بفرض الضرائب والرسوم
الباهظة.
فمنذ
عام 1948 وأهل عكا يجابهون قائمة طويلة من القوانين والممنوعات التي تحرم عليهم ترميم
بيوتهم، وتمنعهم من الترخيص كي لا تتيح لهم بناء مساكن جديدة، حيث الدكاكين والبيوت
عرضة للاندثار بفعل الطبيعة وبفعل طبيعة القوانين الإسرائيلية الظالمة التي
تدفع السكان العرب للهجرة.
لعكا
بابان تاريخيان: هما الباب البري والباب البحري. في عكا مسجد الزاوية الشاذلية، ومسجد
الزيتونة، وجامع الرمل، وهو أقدم مساجد عكا، وجامع ظاهر العمر الزيداني. كنا قد
تركنا مدينة حيفا إلى عكا، بعد أقل من نصف ساعة لاحت عكا من بعيد بتلتها ومآذنها الرفيعة
ذات النمط العثماني، ولاح السور جار البحر القديم..
تحيط
مياه البحر عكا من الجهتين الغربية والجنوبية، وتتصل باليابسة من الجهتين الشرقية والشمالية.
وخليجها محظوظ بأنه التجويف الوحيد المحمي من العواصف والأنواء.. وهو ما بين عكا
وحيفا 12 كيلو مترا.. أما عكا عن لبنان فهي لا تبعد 17 كيلو مترا..
قبل
تعرض بلاد الشام للاستعمارين البريطاني والفرنسي كان بوسع العكيين والحيفاويين الوصول إلى
لبنان في وقت أسرع من وصولهم للقدس، ثم بدأ الإنجليز بالتعامل مع المكان كأنه
لهم، فغيروا في نظام ملكية الأراضي، وألغوا حرية التنقل بين فلسطين وبلاد الشام بشكل
خاص منذ عام 1922، فأثروا سلبًا على الوحدة الثقافية لهذا الإقليم، بل كشف
الجنرال اللنبي بوقاحة عن حقد دفين تجاه البلاد حين قال في القدس: «الآن انتهت الحروب
الصليبية»، في إشارة واضحة لنية سيئة؛ فلم تعد سكة الحديد توصل عكا بلبنان..
ولا سكة حديد يافا توصل فلسطين بمصر..
نتوقف
عند الساحة الرئيسة أمام المدينة القديمة، إلى اليمين القلعة التركية وسجن عكا، نزور سجن
عكا باحثين عن شيخ كبير في السن شهد إعدام الثوار الفلسطينيين الثلاثة محمد
جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي فلا نجد..
لماذا
يلح علي الشهداء الثلاثة الذين خصهم إبراهيم طوقان بالثلاثاء الحمراء؟
هل
لأن مقبرتهم في الخارج كما هي لم تمسّ بسوء؟
أردد
بصوت حزين:
من سجن
عكا طلعت جنازة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي
عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه وعموما.. حتى المقطع الذي يقول: تنده ع عطا من
ورا الباب وقفت تستنظر منه الجواب..
ويقول
حجازي أنا أولكم خوفي يا عطا أشرب حسرتكم
عطا
يا عطا زين الشباب اهجم ع العسكر ولا تهابونه........ .... »
سأدخل
القلعة التي تحولت إلى متحف، وسأعلم أن آخر إعدام كان هنا هو إعدام الشهداء الثلاثة..
تفاصيل
المكان التاريخي، المبنى العالي، مكان الإعدام، تدخلنا التاريخ أكثر فأكثر، وتحضر معها مسحة
حزن وغضب..
أترك
المكان كارها للذكريات الأليمة، وألوذ بمسجد أحمد باشا الجزار، الذي قيل إن لقبه جاء من
إمعانه بالقتل، أو إكرام الضيف، ونحن هنا ضيوف الجزار في بلده، وفي المسجد البديع
الصغير الذي أقامه..
دخول المدينة
يشبه
مسجد الجزار المساجد التركية ومسجد قلعة محمد علي باشا بالمقطم بمصر القديمة، خمس قباب
خضراء صغيرة تتوسطها قبة أكبر منها، فوق المدخل الرئيس، هارمونية عناق قباب المسجد
الكبيرة والصغيرة تنسجم مع عشرات القباب التي تعلو الأروقة، التي كان لها عزّ
أي عزّ أيام عكا، وأيام حلقات العلم في حاضرة عكا العريقة.
لقد
كان ابن جبير على حق حينما ذكر في زيارته لها في (578-581) أن عكا «مشبهة في عظمتها
بالقسطنطينية». نصلي الظهر جماعة، ونشرب من ماء الكأس، أتأمل المصلين، أتحدث معهم. ثم
أطوف في المكان، أقرأ شواهد بعض القبور لشخصيات مشهورة. أهبط من الدرجات، ألتقي
الكاتب أنطوان شلحت ابن عكا، نزور الوكالة القديمة، مقرّ التجارة القديمة، فقد كانت
عكا مركزا تجاريا مهما على البحر المتوسط لدرجة أن وضعها التجاري كان من أسباب
التنافس والصراع عليها، بل وكان من أسباب الهدنات لأسباب تجارية أيضا..
سندخل
المدينة من جانب السوق المسقوف الكبير، نشرب عصائر شعبية، ونأكل كنافة نابلسية لذيذة لكن في
عكا لا في نابلس.. السمك كثير ومتنوع.. لكن بشكل عام فإن الحركة التجارية محدودة..
وقد شاهدت مساءً كيف تنام عكا مبكرة مع المساء.. تقفل المحلات والدكاكين أبوابها،
والعكيون يمضون إلى صلاة المغرب.. فأفاجأ بعاصمة البحر كيف كانت مدينة لا تنام في
يوم مضى إلى مدينة تنام مع الطيور.. لعلهم طيور هؤلاء العكيون!
في
محل حلويات، لم نستطع مقاومة الكنافة العكية، تناولناها بشهية، آخرون استساموا للعوّامة.
تبادلنا الحديث مع صاحبة المحل، سيدة خمسينية تشكو قلة الحركة. ورغم ذلك ففي السوق
حياة، ينادي الباعة على معروضاتهم، وأحيانا يقولون للمارة: تفضلوا.. فنسلّم
ونتحدث، ويسعدون بأننا قادمون من القدس ورام الله ونابلس وجنين والخليل وبيت لحم،
يسألوننا عن الضفة الغربية، ونجيبهم، ثم نسألهم عن عكا والبلاد التي طلبت أهلها!
بلاط
السوق في الأرض يستدعي زمنا قديما، أدقق النظر به محنيا ظهري، ثم أرفع البصر متأملا مهرجان
الألوان في أعلى السوق حيث تتدلى المناديل والإكسسورات الملونة.
أطفال
عكا ينتشرون هنا، بعضهم يساعد في البيع، وبعضهم عائد من المدرسة، ملامحهم ولغتهم وكل
ما فيهم ينطق بالعروبة، نتحدث معهم، فيسألوننا ونجيب، ونسألهم فيجيبون، ثم يمضون
باسمين في حين نمضي مطرقين: متى سنعود معا كما كنا؟
من
السوق سنسير إلى الزواريب، ومن هناك سنصعد سورا، وسنرى كيف أن عكا كانت محاطة بأكثر من سور..
سنرتفع عن البحر، نتأمل صخرة كبيرة هي جزء من سور مهدم، نمر عبر مطعم علوي وآخر عند
البحر، نمر قرب قباب كثيرة، أتأمل الزواريب (الأزقة) مرة أخرى، أرى جدران المباني
مرتفعة فوق الرأس، بعضها قناطر قديمة، وبعضها مبانٍ بطوابق ثلاثة..
وددت
لو أشارك الأطفال والفتيان القفز من أعلى جزء من بقايا سور إلى البحر، منظرهم مدهش وهم
يقفزون من علو 10 أمتار أو يزيد.. أي بحر وأي سور، وأي دعوة لي لدخول التاريخ من الماء
والسور؛ فما بقي إلا جزء من السور الخارجي، فقد غلّف العكيون مدينتهم بسورين..
نصل
البحر والميناء الصغير الذي كان يوما ميناء كبيرا ومشهورا.. مقابلي مسجد سنان، ومطعم
خريستو وأطفال و«مراكبية» يدعوننا لرحلة بحرية.. على ظهر مراكبهم الصغيرة..
على الشاطئ القديم
تناوبت
الموسيقى الشرقية والغربية التي كان يطلقها جهاز التسجيل في مطعم خريستو على شاطئ
المدينة، ربما يعود لعائلة يونانية، وحين كانت الموسيقى والغناء ينسجمان مع المكان
على مستوى اللحن الشرقي الحنون واللغة العربية، كنا نحس بشيء يتكسر على صخور عكا
وكتلها الإسمنتية، ليس تكسر الأمواج فقط، أتصور في خيالي نابليون بالذات، الذي كانت هزيمته
فضيحة في فرنسا وأوربا والعالم، وها هو قادم الى المدينة ينظر إليها بمنظاره،
ويحسب أنه سيحتلها بسهولة كما حصل مع يافا وغزة، أتخيل تكبره كما أتخيله وهو يفر من
هناك.. . هنا جانب السور المليء بتاريخ المكان الذي لا يكاد ينتهي ولا يتوقف إلا
إذا توقف الموج!
هل
كان ينظر إليها من طرفها الجنوبي باتجاه حيفا أم من البحر؟
هنا
في عكا المحتلة منذ عام 1948، تجد نفسك مسكونا بالتاريخ أكثر من الحاضر!
لكن
«الحاضر» في زمان الاحتلال يشهد كيف تحاول إسرائيل سرقة التاريخ والزمان كما سرقت المكان!
دخول المدينة: من جهة
المنارة حيث الخندق
سأترك
عكا وبابها البريّ، وسأذهب إلى باب البحر، هكذا تصورت أنه من جانب البحر، وهنا يفاجئني
السور، حيث إنه ما زال واقفا بقوة، فهو في الجهة الأخرى مهدم جزئيا، بسرعة ارتقي
درجات السور العريض، فأجلس فوقه ليس أمامي غير البحر.. تتذكر قول جدك «وقف على سور
عكا وغاب» من هو الذي وقف وغاب؟ لا أحد يدري، كنت طفلًا حين كان جدي يردد تلك
العبارة، وهاأنذا الآن أقف على سور عكا وأغيب عن الحاضر قليلاً..
«هي
أحسن بلاد الساحل»، هكذا قال عنها ياقوت الحموي عام 612 للهجرة، كذلك القزويني بعد ذلك بعقود
عام 682.. أين أنتما يا يا ياقوت ويا قزويني!
وماذا
تراني أكتب الآن عن عكا بعدما مرّ عليها من تاريخ وغزوات!
نحن
الآن في الغزوة الأخيرة، وعكا لم تعد أحسن بلاد الساحل، لأن المحتل لا يريدها إلا أن
تتآكل وتختفي، فهو لم يبدع فيها حجرا على حجر..
البحر
أزرق أزرق، سأطيل التأمل، تاركا المدينة ورائي، الدير والعلالي الجميلة، التي تحتاج إلى
ترميم. تمتاز عكا بالبيوت ذات الطوابق المتعددة، وسبب ذلك كان أن معظم المباني تم
حشرها داخل السور.. أنقل بصري إلى المدينة، فأراها حزينة، ترثي حالها، مهملة، تعاني
الأسر.. أهب للبحر والتاريخ..
أطيل
التأمل بالقناطر والأقواس والزواريب، برودة الظل هنا تذكّر ببرودة ظل المدن التاريخية
كالقدس والخليل ونابلس ودمشق والرباط.. أرى المكان كلوحة لكثرة الفن المعماري في
البناء؛ لن أشبع من المدينة أبدا، ففي كل ركن قصة حضارة مدهشة..
ألمح
صبية نضرة الوجه تنظر من نافذة قديمة، خشيت إلقاء السلام حتى لا يقال متجول ومتغزل، لكن حين
مررت تجاه البحر من داخل بوابة السور، مررت قرب عكيّة ناصعة البياض ممشوقة القد،
هيفاء تمضي لطريقها مسرعة وأنا أتسكع بطيء الخطوات، فأعود إلى التاريخ الاجتماعي
وكيف كانت عكا عاصمة للجمال أيضا وليس للتجارة والحرب!
أتابع
الدوران لعل باب البحر مفتوح، هنا يتسع السور، ثمة خندق طويل وعريض.. لا أسأل عنه، فهو
الخندق الذي كان يملؤه المحاصرون في عكا بالنفط، حتى إذا حاول المعتدون اجتيازه أشعله
العكيون.. منيعة جدا أسوار عكا..
إلى الوراء أكثر.. حيث
نابليون ومقاومة شعب عكا..
في
عام 1999 أقيمت ندوة بعنوان «مائتا عام على انتصار الشعب الفلسطيني على نابليون أمام أسوار
عكا»، أُقيمت برعاية اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم في فلسطين، وأشرفت
عليها الجمعية الفلسطينية للدراسات التاريخية ومؤسسة الأسوار (في عكا)، وقد قدم
الباحث الفلسطيني د. عبدالرحمن المغربي مداخلة في الندوة حول المقاومة الشعبية في عكا
لحملة نابليون عام 1799، خلص من ورائها الى أن المقاومة الشعبية كانت
عاملاً حاسمًا في تحقيق النصر على الفرنسيين حيث تكاتف الأهالي وأقاموا بأجسادهم
أحيانًا جدرانًا للدفاع عن المدينة، حين كان يحدث الغزاة في السور ثغرة، وأجبر الغزاة
في كل مرة على التراجع تاركين وراءهم مئات الضحايا، كما شكل أهالي عكا مجموعات
ضاربة أغارت على قواعد الفرنسيين، كانت تضرب ليلًا وتعود في الصباح...
فهل
بسالة العكيين تفسّر لنا كيف انتشر الهذيان والجنون في جيش الغازي نابليون!
بعد
قرنين أو يزيد على حملة نابليون على الشرق وحصار عكا، أدرجت المنظمة العالمية للتربية
والثقافة والعلوم (اليونسكو) مدينة عكا القديمة ضمن المواقع الأثرية في قائمة
التراث العالمي. وكانت إسرائيل قد تقدمت بطلبها تسجيل المدينة ضمن القائمة
المذكورة، إلا أن المجموعة العربية داخل منظمة اليونسكو احتجت على أسلوب التقديم، وفقًا
لمصادر اللجنة الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، وذكرت المصادر أنه بسبب
احتجاج المجموعة العربية تم اتخاذ القرارين الآتيين بالنسبة لمدينة عكا: الأول: وينص على
أنه تم تصحيح التسميات التاريخية وذلك باستعمال اسمي «أرض كنعان» و«أرض فلسطين»
بدلًا من «أرض إسرائيل» وتمت الموافقة على ذلك من قبل اللجنة. والثاني: تم تثبيت
الفقرة التالية بالنسبة لوضع السكان الفلسطينيين في مدينة عكا القديمة «توصي
اللجنة الدول المعنية بالقيام ببرنامج اجتماعي واقتصادي لتمكين أهل المدينة من
البقاء في أماكن سكنهم الحالية» وتمت الموافقة على هذا الاقتراح.
سأتذكر
البند الثاني وأنا أسمع أغنية لصديقي العكيّ خير فودة التي أبدعها بعد سنوات على توصية
اليونسكو برعاية سكّان البلدة القديمة في عكا.
بيوت
على البحر كانت بيوت عزّ، فكيف صارت أطلالا!
مرة
أخرى أبحث عن وجه امرأة يثير فيّ الأمل.. عن عيني عكية أسافر فيهما والبحر..
المنارة
صغيرة على البحر، لكنها جميلة تذكر بأزمان جميلة.. هي مرممة ونظيفة.. تعلو السور قليلا.. .
لا
باب بحر هنا، ربما تهدم، لكن ثمة بوابات تحت القناطر ندخل من خلالها إلى الزواريب، فنجد
أنفسنا في المدينة القديمة الأكثر عراقة، والتي مازالت تقاوم الفناء وعوامل التعرية
والنفي..
جريمة
ما يحدث هنا من طمس للعراقة ووضع العراقيل أمام الحفاظ عليها كتراث عربي وإنساني.
ممتلكات ثقافية عربية
الخلاف
الذي ثار في أروقة اليونسكو حول إدراج عكا القديمة ضمن قائمة التراث العالمي يمكن أن يثير
نقاشًا حاميًا أيضًا ليس فقط حول من يتقدم إسرائيل أم العرب، بل حول أمر جوهري حول
من هو المخول بالحديث والوصاية على الممتلكات الثقافية؛ فعكا ممتلكات
ثقافية فلسطينية وعربية وإسلامية حتى ولو خضعت للحكم الإسرائيلي، والتي هي أصلًا
ليست سيادة شرعية حقيقية، فوفقًا لخارطة التقسيم الأممية لعام 1947، كانت عكا
تقع ضمن أراضي الدولة العربية، وأنه قد تم احتلالها عسكريًا عام 1948، وطبق على
أهلها على مدار أكثر من عقدين قانون الطوارئ الإسرائيلي العسكري؛ وهناك الآن خبراء
في القانون الدولي يوصون بالعودة إلى القرار الدولي 181، أي إلى خارطة التقسيم عام
1947..
عكا العربية
عكا
عربية موغلة في عروبتها، موغلة في إسلاميتها، موغلة في الحضارة العربية الإسلامية، راسخة
مثل أسوارها التي هزمت الغزاة، وأضاعت هيبتهم، واستخفت بعظمتهم المزعومة كعظمة
بونابرت الفرنسي.
والذي
يعود لتاريخ المكان هنا، يكتشف أن اليهود كانوا زاهدين بعكا قبل قيام دولتهم، وأنهم لم
يكونوا طامعين بها.
وهذا
يعود إلى أن اليهود لا يرون أنهم يرتبطون بعكا، كما لا يرتبطون بعسقلان أيضا، وأنه لا تاريخ
توراتيًا لهم فيهما.
لذلك
لم يستطع الخبراء والساسة الدوليون منذ ما يعرف بلجنة «بل» التي ابتدأ بها الحديث بدولتين
عربية ويهودية في فلسطين حتى خارطة التقسيم المشهورة، لم توضع عكا ضمن الدولة
اليهودية التي اقترحوها على جزء كبير من ساحل فلسطين ما عدا يافا وغزة، وهكذا فحسب
التقسيم بحسب اللجنة الملكية (بعد لجنة بيل) البريطانية عام 1938، وحسب مشروع الحكومة البريطانية لتقسيم فلسطين 1944، وحسب مشروع
الدولة الاتحادية الفدرالية الذي أوصى به الخبراء البريطانيون
والأمريكيون (مشروع مدريسون غراردي) 1946 وحسب مشروع
التقسيم الذي أوصت به أكثرية أعضاء لجنة التحقيق الدولية (UNSCOP) وحسب مشروع الدولة الاتحادية
الذي أوصت به أقلية الأعضاء في ذات اللجنة الدولية السابقة للعام 1947،
وحسب مشروع التقسيم الأخير الذي تم الموافقة عليه في مجلس الأمن الدولي عام 1947،
حسب كل هذه التقسيمات! لم يفكر الساسة ولا الخبراء الدوليون في وضع عكا ضمن
الدولة اليهودية، بل كانت عكا تصر على عروبتها على أكثر من مستوى، ففي عام 1945 بلغت
نسبة ملكية الأراضي ( كما هو في سائر فلسطين ) العربية في عكا 87% مضافًا إليها 10%
ملكية عامة، ولم يمتلك اليهود سوى 3% كأي جالية تعيش في أية مدينة . بلغت نسبة
السكان الفلسطينيين 96% . (المعلومات من كتاب خمسون عاما على نكبة فلسطين، د. وليد
الخالدي)
لكن
حرب عام 1948 حسمت الحدود وأدخلت عكا في الدولة العبرية، فهاجر من هاجر بعد عمليات تصفية
وإعدامات للمناضلين وغيرهم خلال الحرب وبعدها بعد سقوط المدينة، ولم يبق فيها غير
عدد محدود، لكن الغريب في الأمر، أن اليهود لم يقيموا في البلدة القديمة، وتركوها
للعرب، وهذا يتفق مع ما يذكره ابن عكا الكاتب أنطوان شلحت -الذي صاحبنا في تجوالنا في
المدينة- بأن اليهود كانوا يترددون في دفن موتاهم هنا، وأنه لأجل هذا الفهم، فقد أسسوا
مقبرة خارج حدود المدينة.
أصل الحكاية: حين احتلت عكا
عام 1948
تغيرت
الدنيا، بسلامها وحربها، ولم تعد الأماكن تحمي سكانها كما كانت!
قديما،
ساعد موقع المدينة على سهولة الدفاع عنها منذ نشأتها، إذ كانت محاطة بالحواجز الطبيعية
(امتداد أقدام جبال الجليل ومستنقعات نهر النعامين شرقا) والتي عرقلت تقدم الغزاة
نحوها، وتميز موقع عكا بأنه من نوع المواقع السهلة الممتنعة؛ فهو يطمّع للوهلة
الأولى المعتدين لسهولة الوصول إليه عن طريق البحر المتوسط، أو عن طريق سهل
فلسطين الساحلي، لكن سرعان ما يتبين لهؤلاء أنه موقع منيع غير ميسور..
وقديما
كان موقعا استراتيجيا، فقد كان منفتحا عن طريق البحر والبرّ، والدليل تعاقب الطامعين
للاستفادة من هذه الصفة التي تضمن دوام الاتصال مع أوطانها الأصلية..
كان
الموقع نعمة ونقمة؛ نعمة بانفتاحه على العالم وما يتبع ذلك من تبادل تجاري وحضاري، ونقمة
بما عرّض المدينة لأطماع الطامعين في السيطرة عليها.
وحديثا
لم تعد الأمور كما كانت.. فلم يعد للأسوار تلك الأهمية..
سقطت
عكا، لم تستطع صدّ الغزاة الجدد إلى ما لا نهاية.. بعد أن طال انتظار قوات الإنقاذ العربية..
نقرأ في كتب التاريخ: بعد سقوط مدينة حيفا في 21 / 4 / 1948، بدأ اليهود الصهاينة، بعد أن استتب لهم الأمر، بتنفيذ خطتهم
المسماة «بن عامي» لاحتلال عكا بتطويق
المدينة، وقطع الطريق المتجهة منها الى الشمال، واحتلوا تل الفخار (تل نابليون)
الواقع شرق عكا، ولم يكن يدافع عن التل سوى سبعة من المناضلين ثم هاجم
الصهيونيون المدينة بعد قصفها بالمدافع يوم 25 نيسان (أبريل)، وتمكن عدد منهم من احتلال
المقبرة الإسلامية الواقعة جنوب شرق المدينة، ثم أخذ سكان عكا ينزحون عنها بسرعة عبر
الطريق البرية وطريق البحر، حتى لم يبق منهم ومن لاجئي حيفا سوى سبعة آلاف. وزاد
الصهيونيون ضغطهم على المدينة بتلويث مياه نبع الكابري بجراثيم التيفوئيد، ووقع على
عاتق اللجنة القومية مهمة إضافية هي محاولة تأمين العلاج بالإضافة الى الطعام
والمياه التي بدأت تنضب، وأخذت وفود المدينة تطرق مختلف الأبواب محاولة الحصول على
السلاح دون جدوى، لذلك قرر سكان المدينة الدفاع عنها بإمكاناتهم. وفي ساعة مبكرة
من صباح 15/5/1948 شن مناضلو عكا هجومًا على الصهيونيين الذين تسربوا الى بعض أحياء
المدينة كمحطة السكة الحديدية الواقعة جنوب شرق عكا وأحد المباني الرسمية في
شرقها، وقد زاد أمل المناضلين بقرب دخول القوات النظامية العربية، ولكن المدفعية
الصهيونية أجبرتهم على الانسحاب بعد أن خسروا عددًا من الشهداء وكبدوا العدو خسائر
كبيرة بلغت 60 قتيلًا .
وفي
16 أيار (مايو) لم يبق في المدينة سوى 17 مناضلًا، إذ انسحبت وحدة جيش الإنقاذ للمساهمة في
القتال مع فوجها في المالكية وضواحيها، ولم تصل الى المدينة أية نجدة رغم دخول
الجيوش العربية النظامية الى فلسطين، وأثر في المدافعين عن المدينة قلة الذخيرة
والتعب والجوع والعطش والمرض، فقرروا الاستسلام مساء اليوم ذاته، وحينما دخل الصهيونيون
المدينة ارتكبوا مذبحة راح ضحيتها واحد وتسعون عربيًا، بينهم عدد غير قليل من
الشيوخ والأطفال والنساء، وأصدر الصهيونيون فور دخول المدينة أمرًا يمنع التجول، وطلبوا
من الباقين من سكانها التوجه فرادى الى مبنى الشرطة، حيث تم جمعهم وتفتيشهم، وقتلوا
بعض الشبان، واعتقلوا من بقي منهم، وأقام الصهيونيون نصبًا تذكاريًا لقتلاهم كتب
عليه «تخليدًا لذكرى الـ750 من المقاتلين الذين سقطوا أمام أسوار عكا« كما ذكرت
الموسوعة الفلسطينية.
وقد
حشر الصهيونيون الأهالي في جامع الجزّار، وقد جاء على ذكر ذلك إميل حبيبي في روايته
«الوقائع الغريبة في اختفاء أبي النحس المتشائل».
سقطت
مدينة عكا مثلما سقط الساحل الفلسطيني وقبلها بزمن كانت قد تغيرت أساليب الحروب، حيث لم تعد
الأسوار وحدها كافية للدفاع عن البلاد، والمدن، فلا بأس أن تتضامن المجموعة العربية
داخل «اليونسكو» على سبيل «وذلك أضعف الإيمان»، وتضغط باتجاه بعض القرارات فيما
يخص عكا كمدينة توضع على قائمة التراث العالمي.
أطماع صهيونية رغم الزهد
التوراتي!
لم
ينته الصراع على عكا رغم الحسم العسكري قبل 63 عاما.. فعلى مدار أسبوع تقريبا قبل 3 أعوام
شهدت المدينة نزاعا بين العرب واليهود، أعادنا إلى البدايات الأولى لتاريخ
الصراع هنا، كأن الماضي عادت له الروح، ليؤكد أن المشكلة القديمة لم تحل بعد، ومازال
التنازع والصراع على الأرض مستمرا.
سيكون
اسم الشاب العربي توفيق جمال مشهورا، إنه سائق السيارة المشهورة التي زعم اليهود أنه من
خلالها انتهك حرمة العيد المقدّس في عكا، لكن هل القضية هي توفيق جمال؟
منذ
سنوات، وانسجاما مع العقلية الصهيونية التي تخطط للخلاص من الفلسطينيين أينما كانوا في
أرض فلسطين التاريخية، بمن فيهم فلسطينيو عام 1948، صار الإسرائيليون يخططون لتفريغ
بعض المدن، ومنها عكا، من الفلسطينيين، خشية من العامل الديموغرافي، حيث صار سكان
عكا الفلسطينيون يشكلون أكثر من ثلث سكان المدينة البالغ عددهم 50 ألف نسمة، وليس فقط
الثلث حسب الرواية الإسرائيلية، في ظل عدم وجود إحصائية للعدد كون العدد أمرا
حساسا للإسرائيليين؛ فالمتحدث الرسمي باسم الشرطة الإسرائيلية ميكي روزنفيلد
ذكر في بداية الأحداث التي شهدتها عكا، أن عدد السكان هو 50 ألفا، ثم عاد بعد يومين
ليذكر أن عددهم هو 64 ألفا..
تزايد
العرب في المدينة أثار حفيظة الإسرائيليين، خصوصا المتطرفين من اليمين، فكيف يتقبلون أن
تصبح عكا كعاصمة الجليل ذات أغلبية عربية لا يهودية؛ لأجل ذلك ليس من الصدفة أن ينتقل
إلى عكا مئات المستوطنين القادمين من قطاع غزة والقدس أيضا.
لذلك
يبدو أن الإسرائيليين يسعون إلى تفريغ المدينة أو الحد من إقامة العكيين الفلسطينيين، لضمان
وجود أغلبية يهودية في عاصمة الجليل، وذلك عبر إيجاد بؤر توتر بين المناطق
الفلسطينية والإسرائيلية في أحياء عكا، ودفع الأقلية العكية في الأحياء ذات الأغلبية
اليهودية لمغادرتها، كذلك من خلال التضييق الاقتصادي، حيث يعاني العكيون مشكلات اقتصادية
خانقة، إضافة إلى الاتجاه نحو السيطرة على البلدة القديمة، من خلال الشراء،
والاحتيال في عمليات الشراء، حتى لا يتنبه السكان لذلك.
الكاتب
ناحوم برنياع في صحيفة يديعوت أحرنوت أوضح في مقالته في عزّ النزاع الشهير عام 2008: «خط
التقسيم الديمغرافي في عكا هو خط سكة الحديد من نهاريا. نصف السكان يعيشون
غرب الخط والنصف الآخر من الشرق. في الجانب الغربي ينقسم السكان بصورة متساوية يهودًا
وعربًا. أما في الجانب الشرقي فتبلغ نسبة اليهود 99 في المائة. الواحد في المائة 20
-30 عائلة عربية، الذين اشتروا شققًا في المجمعات السكانية الكبيرة من الإسكان
الشرقي، هي التي تقع في عين العاصفة».
وبث
في ثنايا المقال وصفه للعلاقات الشكلية بين العرب واليهود والتي تشكل تعايشا بسيطا يقتصر على
رد السلام وحسب.
ويرى
المراقبون هنا، أن الخطط الإسرائيلية تجاه تهويد عكا لن تتم بسهولة كما تم ذلك بشكل ظاهر
في كل من يافا واللد والرملة، والسبب كما قال أنطوان شلحت، يعود إلى وجود قرى
عربية خارج عكا تستطيع مدّها بالعنصر البشري.
التاريخ القريب
«ولعت»،
هكذا كنا نقول حين كنا أطفالا نشهد حدثا أو نزاعا بين عائلتين أو مجموعتين من الطلبة
يتخاصمون، لكن هذه المرة، يضيف أبو خليل، ولعت بين السكان العرب واليهود، ولابد من
إطفائها.
«كنا
نتوقع أن يمضي الشباب من كلا الطرفين ليلة واحدة من التنازع، لكن أن يستمر النزاع عدة أيام،
فهذا ما لم يكن بالحسبان، كما أن المشكلة دفعت بالقائمين على المهرجان المسرحي إلى
إلغائه، وهذا ما سيتسبب بتضييع فرصة وجود قادمين لعكا، والذين كانوا ينعشون سوقها»
بهذه الكلمات ابتدأ السيد أبو خليل حديثه، ملقيا المسئولية على المتطرفين
اليهود، فليس السبب مجرد عبور شاب عربي (هو توفيق جمال) بسيارته في عيد الغفران، بل
هناك سوء نوايا، والمشكلة فيهم كونهم يرفضون وجودنا لافتا نظري إلى المثل الشعبي
«مش ع رمانة بس القلوب مليانة».
العكيون
يرون أن هناك دوافع عنصرية واضحة، فحسب عضو المجلس البلدي المشترك بين اليهود والعرب
أحمد عودة فإنه لا يوجد قانون يمنع سير السيارات في عيد الغفران اليهودي، فهناك
سيارات يقودها يهود، لكن الخلفية عنصرية.
ويتساءل
آخرون هل من الصدفة وجود 1500 شاب عنصري من يهود الحي الشرقي وآخرين تمت الاستعانة بهم من
الأحياء الأخرى؟ أم أنه جرى التحضير لهذه الهجمة على العرب، وما حادثة قيادة
السيارة العربية إلا ذريعة. ويضيف عودة أن هذا الاعتداء ليس الأول من نوعه، ففي كل عام
يعتدي يهود على عرب، حيث حاولوا إحراق بيوت من قبل، كما حاولوا الاعتداء على «جامع
المنشية» القريب من الحي الشرقي باستمرار وبشكل ممنهج.
لسان
حال أحمد عودة هو لسان حال العكيين من مسلمين ومسيحيين، يرون أنهم يحترمون كل الأديان وكل
الأعياد، ففي شهر رمضان، لم نكن نفرض على الزوار اليهود أي سلوك، فكانوا
يأتون ويأكلون ويشربون في المدينة، ولم نكن نمنعهم بسبب شهر الصيام، لذلك لن نقبل بأن
يفرضوا علينا منع التجول وهجوم العنصريين.
فهل
يمكن قراءة شيء ما في الموقف الرسمي، من باب تفضيل استخدام أسلوب غير مباشر لتخفيف وجود العرب
في عاصمة الجليل بعيدا عن العنف الذي يثير الرأي العام المحلي والدولي إسرائيل في
حل منه؟
ليست
المسألة محاكاة ساذجة لمسلسل باب الحارة السوري، بل هناك ما هو أعظم تحت السطح، وإن تفاعلت
الأمور بشكل نزق بين الشبان كما حصل في حارتي باب الحارة!
لقد
توقف النزاع، لكن من يضمن ألا يعود مستقبلا وبوتيرة أشد؟
الحل
يكمن في إدارة المدينة من منظور غير عنصري، فهل ستلتقط السلطات هذه الإشارات أم ستتركها
مستقبلا لتذهب إلى آخر مدى تكون النتيجة هجرات جديدة للعرب؟
هادئة
عكا اليوم، وتسير بشكل عادي كأن لم يجتمع هنا المئات من فلسطينيي عكا واليهود
المستوطنين للتنازع.. .
على صخرة أسمع وشوشة البحر
والرمل..!
أجلس
فوق صخرة على الشاطئ مقابل خليج حيفا (ويسمى أيضا بخليج عكا وهذا أشهر لقدم المدينة).. أسمع
وشوشة البحر وهدير الموج وخشخشة الرمال تداعب الحصى..
لا
أدري من أين أبدأ وأين أنتهي، فهذا الحاضر بنزاعه الجديد ليس إلا رجع صدى لتاريخ طويل بدأ
هنا، ولربما قبل أكثر من قرن الصراع العربي - اليهودي على فلسطين.. .
هنا
الميناء الصغير الحيوي، الماء قريب تكاد تلمسه، هنا يصطاف الناس، يركبون العربات التي تجرها
الخيول.. الأطفال باعة الذرة والمثلجات.. وهذا حصان قصير القوائم لم نعهد وجوده هنا،
يؤجره الأطفال لمن يرغب بركوب حصان صغير.. رائحة شواء السمك والكباب.. ومجموعات
كثيرة من الزائرين تدخل هنا وتمارس عشقها لعكا ومأكولاتها.. .
مقابل
البحر يرتفع برج الساعة الجميل بمعماره الباقي.. كم الساعة الآن؟
وكم
مرّ على البناء؟ العلم العثماني مازال محفورا عليه.. الهلال والنجمة والشمعدان.. هو نفس
علم تركيا اليوم لكن بدون الشمعدان..
أعود
للصخور هنا التي تتكسر عليها الأمواج.. أتأمل من مرّ غازيا هنا وهم كثر، لكن على شواطئها
تتكسر الجيوش الغازية كما الأمواج .. . لا محالة.
تأملات
الكبار هنا تعانق تأملات العشاق ايضا.. والعاشقات الخجولات.. من زرقة السماء إلى زرقة
الماء عند الشاطئ حيث الزبد يشكل لوحات لونية مثيرة للتأمل أيضا..
عكا الباقية
تعد
عكا من المدن العريقة في فلسطين والمشرق العربي، والتي كانت حتى عام 1936 ميناء مهما.. ومن
أهم معالم عكا الحضارية الرائعة: جامع أحمد باشا الجزار ومساجد المينا والمجادلة
والزيتون والرمل وخان العمدان، وخان الإفرنج وخان الشواردة والسوق الأبيض والقلعة
والأسوار المحيطة بالمدينة القديمة.
سور
عكا لم يعد قادرا على حماية المدينة، منذ 63 عاما سقطت مدينة عكا مثلما سقط الساحل الفلسطيني
وقبلها بزمن كانت قد تغيرت أساليب الحروب، حيث لم تعد الأسوار وحدها كافية للدفاع
عن البلاد، والمدن.
أي
بحر يستطيع أن يأسر الإنسان، أما بحر عكا بالذات فهو قادر على الأسر والسلب أكثر من غيره
من البحار .. . كعربي وفلسطيني، أسعد بالتجول في زواريب عكا، وأكاد أضم الفلسطينيين
الذين بقوا في المدينة، أسعد بالناس هناك، أحدثهم بمناسبة وبدونها، فقط أود
الحديث مع العكيين .
كانت
صيفًا حين تسللنا مرة الى المدينة، ضمن رحلة أطفال، وحين هبطنا الى الشاطئ، واغتسلنا بماء
بحر المدينة القديم ظهر الجرح أكثر وبدا ناصعًا بدون دم، ها نحن ننظر الى عكا من
البحر.. .
لعلنا
نهبط الى الشاطئ، لنغتسل بماء بحر المدينة القديم، فيما تبقى من صيف، لتظهر عكا على تلها
القديم تتابع عشقها المقيم للبحر غير عابئة بأصوات الغزاة.. أو لعلنا نرتفع فوق
سورها لنسمو عن الحاضر قليلًا..
طابع
المدينة ومعمارها، ومآذنها التي تشبه مآذن تركيا ومصر، تلك المآذن الرشيقة التي تشبه
مآذن إسطنبول بشكل كبير، ما أجمل تلك المآذن التي تتطاول برشاقتها. هي المآذن تدل على
عروبة المكان .. وحضارته .. هل يمكن أن تتابع وصف المدينة العريقة من البحر؟
في
أسواق عكا، تشعر تماما كأنك في أسواق القدس القديمة، فباستثناء رائحة السمك، فإن عبق
التوابل والزعتر يفوح من محلات العطارين، أما إغراء الصناعات الشعبية والأطعمة فلن يسهل
الفكاك منها.. هي عربية إسلامية حتى النخاع بعد 63 عاما من نكبة فلسطين. لذلك ستنسى
الاحتلال وأنت فيها، وتشعر أن عكا مختلفة.. عن باقي مدن فلسطين من يافا حتى راس
الناقورة!
التاريخ القديم والرمل الحار
«وكان
قد جرى تأسيس المدينة في الألف الثالثة قبل الميلاد على يد إحدى القبائل الكنعانية العربية
المعروفة بالجرجاشيين التي جعلت منها مركزًا تجاريًا مهمًا ودعتها «عكو» أي الرمل
الحار، ويروي المؤرخ الروماني يلني المتوفى عام 113م أن هؤلاء القوم هم مستنبطو
صناعة الزجاج، بعد أن نزل ملاحو سفينة لهم محملة بنترات البوتاسيوم على شواطئها ذات
الرمال الناعمة، وجعلوا من كتل البوتاسيوم هذا أثافي يضعون القدر عليها لطهو
طعامهم، وأضرموا النار فاختلطت نترات البوتاسيوم هذه بالرمال فكان الزجاج...».
سقطت
المدينة عام 1479 فبل الميلاد في أيدي الفراعنة بقيادة تحتمس الثالث، أما العبرانيون فلم
يستطيعوا السيطرة عليها لا في غزوات يوشع بن نون ولا خلال حكم الملك داود
(1000-970) قبل الميلاد، وظلت كنعانية عربية إلى أن خضعت للملك الأشوري شلمناصر الخامس في
القرن الثامن قبل الميلاد.
في
القرن السادس أصبحت جزءا من الإمبراطورية الفارسية، وفي القرن الرابع قبل الميلاد خضعت
لسلطان الإسكندر المقدوني الكبير.. فالبطالسة في الفترة 285 الى 247 قبل الميلاد، الذين
غيروا اسمها إلى بتولماس، ثم السلوقيين، ثم دخلها الملك الأرمني ديكران عام 69
قبل الميلاد..
ونتيجة
لتداخل الثقافتين السامية الأصلية واليونانية الوافدة فقد تكونت الثقافة الهلنستية
واستمرت تلك في العصر الروماني.. حيث زارها القائد المشهور يوليوس قيصر.. عام 47 قبل
الميلاد.
التحرير العربي الأول
والثاني والثالث لعكا
وجاء
التحرير لعكا في سياق تحرير فلسطين من الاحتلال البيزنطي، كان ذلك على يد القائد شرحبيل بن
حسنة عام 16 هجرية الموافق 636 للميلاد..
حين
زارها معاوية بن أبي سفيان، وجد أحواض بناء السفن الموجودة من العهد البيزنطي فشغلها،
فاشتهرت عكا في صناعة السفن بعد الإسكندرية.. ومنها كانت الحملة على رودس 649 م وقبرص
654 م، وعكا إذن كانت أول ميناء عربي قام به العرب بأولى حملاتهم البحرية..
تناوب
الأمويون والعباسيون والإخشيديون والفاطميون والسلاجقة على حكم عكا، حتى احتلتها الجيوش
الفرنجية (الصليبية) حين سقطت عام 1104 وصارت ميناء لمملكة القدس اللاتينية.
حررها
ثانية صلاح الدين الأيوبي عام 1187 وهو عام معركة حطين وتحرير القدس، ولكن للأسف لم تمض
بضع سنوات حتى أعاد الصليبيون تأسيس قوتهم في صور، ولم يمض عام 1191 حتى أعاد
الصليبيون احتلالها، وقد حزن صلاح الدين الأيوبي كثيرا لأنه لم يستطع تحريرها، وكان شيخا
كبيرا في السن.. وهكذا بقيت قرنا كاملا تحت الاحتلال وفيها تكونت مملكة لاتينية
جديدة، هي وريثة مملكة القدس.
أما
التحرير الثالث فكان على يد المماليك بقيادة الأشرف بن خليل بن قلاوون مستفيدا من الظرف
الدولي السائد، وقد دمرها حتى لا تعود رأس حربة للفرنجة، وهكذا فقد ضمرت في القرنين
الرابع عشر والخامس عشر، حتى أحياها العثمانيون في القرنين السادس عشر والسابع
عشر، فعاد إليها جزء من أهميتها التجارية.
ثم
كانت نهضتها الحقيقية في عهد الشيخ ظاهر العمر الزيداني عام 1750، الذي سعى لإيجاد أول كيان
فلسطيني زمن الدولة العثمانية.
وتلاه
أحمد باشا الجزار الذي بنى الأسواق ومنها خان المعمدان، وتم إتباع دمشق لولاية عكا عام
1780..!!
وقد
بلغت أوج عظمتها ومجدها عام 1799 حين أوقفت زحف نابليون على الشرق، بعد حصار دام من 21
آذار (مارس) حتى 20 أيار (مايو).. أي 59 يوما.. حيث أقام نابليون معسكره في تل الفخار
الذي سمي باسم نابليون..
وكان
نابليون يريد أن يصنع كما فعل الإسكندر الكبير، لكن عكا ضيعت عليه حلمه!
لذلك
قال نابليون عبارته الشهيرة «لقد أنستني عكا عظمتي» بعد حربه الخاسرة، التي كانت فاصلة في
حرب عالمية قديمة لعلها الأولى من نوعها قبل قرنين من الزمان عام 1799م .
حكمها
إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر وبقي فيها منذ عام 1832 حتى عام 1840، مدة 8 سنوات،
في سياق نزاعه مع العثمانيين.
ويستشف
من عودة المصريين إليها أنها كانت مهمة لمصر استراتيجيا، وما حكم احمد بن طولون
والإخشيديين والفاطميين والسلاجقة من قبل إلا انطلاقا من هذه الأهمية.
بعد
جلاء القوات المصرية تم إلحاق عكا بولاية سورية!! هي الأيام دول..
بعد
مدّ الخط الحديدي بيروت - دمشق عام 1895 فقدت عكا نصف تجارتها..
ثم
فقدت النصف الآخر بعد مدّ خط درعا - حيفا كامتداد لسكة حديد الحجاز (دمشق-المدينة المنورة) عام
1904.. فانحسرت القوافل عن خاناتها الكبيرة، مما أدى إلى نزوح جزء من الأهالي.
دومًا
كان لها أهمية عسكرية وتجارية وزراعية وصناعية وإدارية وتعليمية..
بعد
إعلان الدستور العثماني عام 1908 سمح للعكيين بالبناء خارج السور، فبنيت ضاحية عكا الجميلة
الجديدة.
بعد
الحرب العالمية الأولى، سقطت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، فعاد لعكا بعض الانتعاش، حتى أصبح
فيها عدة مدارس حكومية، منها مدرستان حكوميتان للبنات، و10 مدارس خاصة.
لكن
الانتعاش لم يدم.. فسرعان ما تعرضت لطمع الغزاة من جديد.. أو لعل الغزاة الإنجليز سلموها لهم
مع ما سلموا من فلسطين.
والدمع الحارّ
وهكذا
سرق الغزاة الاسم، ولم يبقوا لنا الرمل الحار، وأعارونا بدلًا منه الدمع الحار، ولينظر
الخبراء والمندوبون العرب في اليونسكو وغيرها من المنظمات الثقافية والسياسية من خلف
العدسات الزجاجية لمناظيرهم لعلهم يرون الأمور بعيدًا عن طول النظر أو قصره .. .
لعلهم يرون عكا تناديهم .. . فهل سنكون مجانين إذا طالبنا بالإشراف على مدينة عكا
القديمة وهل نكون خياليين إذا طالبنا بعودة عكا الى الدولة العربية حسب خارطة التقسيم ؟
أسئلة كثيرة ستظل تثار مادام هذا الجرح مفتوحًا .. . وللأجيال حرية الإجابة عن الأسئلة بعد أن
يقرؤوا تاريخ بلادهم.. .
أصلي
العصر في مسجد سنان، بعد صلاة الظهر في جامع الجزار. هي ساحة الميناء، حيث مازال
«المراكبية» يدعون المصطافين لرحلة بحرية، وددت خوض البحر بقارب صغير او متوسط.. أتحدث مع
الأطفال، بعضهم يؤجر العربات والخيول، واحد منها حصان قصير نراه في العادة في عروض
السيرك.
نصعد
معا سفينة صغيرة، من طابقين، أصعد الطابق العلوي، حيث ما إن تمخر السفينة عباب البحر حتى يبدأ
الزوار بالرقص على أنغام الأغاني العربية السريعة..
أنظر
في البحر، وأرى العديد من قناديل البحر.. هي فضية تلمع قريبا من السطح بسبب مكون الفسفور..
أعجبني تأمل قناديل عكا التي يشتهر بحر عكا بها.. شاب ينظر بفرح طفل للبحر قد سلب
فؤاده كما حسناء..
في
سفينة «الليدو» فلسطينيون من كل مكان، كأن السفينة وطن وحدنا، لهجات مختلفة، أما الشباب
والصبايا فرقصوا، عاتبتهم ثم زال العتاب؛ بعدما منحوني الأمل بأننا هنا سنكون..
ندور
في سفينة حول عكا، فتبدو المدينة من البحر عربية تماما، كأي حاضرة عربية إسلامية،
بمآذنها الرشيقة وقبابها البيضاء وسورها العظيم، الذي تهدم في أكثر من مقطع.
تنظر
شابة نحو البحر تتأمله، وينظر شاب نحوها يتأملها والبحر، وأنظر تجاههم جميعا والبحر.. ثم
أقترب وألقي السلام..
- ........ ........ ........ .. .
- من
الجليل.. وأنت؟
- من
القدس..
- وأنت؟
- من
المثلث..
- هو من
نابلس وهي من رام الله.
- ........ ........ ........ .. .
- رحلة
إلى عكا..
- ........ ........ .
- مثلكما..
حوار
الداخل فينا أعمق من الكلام تفضحه العيون التي تفضح شعورنا القومي، لا فرق بين فلسطيني
هنا أو هناك..
هنا
أشاهد الميناء والسور ومطعم خريستو وجامع سنان وجامعا آخر. نبتعد عن البرّ بعيوننا، فتقترب
عكا من قلبي أكثر.
أترك
قناديل البحر لبحرها، وأرقب المدينة الكاملة، أرى منطقة المنارة حيث باب البحر الذي لم يعد
بابا سوى للريح، السور يحيط بعكا كالمعصم..
في
السفينة أطلب الاستماع إلى ألبوم لفرقة «ولعت» للصديق العكاوي خير فودة وصحبه، يلبي الشاب
رغبتي فأسمع:
لو
شربوا البحر أو هدوا السور
لو سرقوا الهوا أو خنقوا السور
ما بيعا لعكا بالدنيا كلها
وما ببدل حارتي ولا بقصور
المينا وكل البحرية وشخاطيرها النايمة ع المية
وشباكها الخضرا المطوية صورة راح تبقى بقلبي دهور
لو شمس الصبح وقمر الليل ونهار الغربة وليل الويل
أخذوا روحي على نجم سهيل أنا روحي بزواريبا بخور
لو رمل الشط اللي ما بنعد وصدفاتو المخلوقة ع القد
ومزحات الدهر اللي صاروا جد ركعولي ما بترك هالسور
لو سرقوا الهوا أو خنقوا السور
ما بيعا لعكا بالدنيا كلها
وما ببدل حارتي ولا بقصور
المينا وكل البحرية وشخاطيرها النايمة ع المية
وشباكها الخضرا المطوية صورة راح تبقى بقلبي دهور
لو شمس الصبح وقمر الليل ونهار الغربة وليل الويل
أخذوا روحي على نجم سهيل أنا روحي بزواريبا بخور
لو رمل الشط اللي ما بنعد وصدفاتو المخلوقة ع القد
ومزحات الدهر اللي صاروا جد ركعولي ما بترك هالسور
مضمون
الأغنية لا يحتاج الى تفسير، فهو يقدم نفسه معلنا البقاء في عكا، باق بحبه وانتمائه
ولهجته، باق رغم سوء الحال، والعكاوي باق رغم الترغيب والترهيب بالرحيل. وقد حمل
اللحن نبرة التحدي والقوة والإصرار بشيء من الشجن والحميمية..
تسير
في شوارع وأزقة المدينة القديمة التي بقيت عربية، تسمع صاحبك يدندن «من سجن عكا طلعت
جنازة .. » تدندن معه، يبتسم، وغمامة من الحزن تغطي وجهيكما ثم تعيدان الابتسامة، حين
تريان عكاويين يتوافدون الى مسجد الجزار من اجل صلاة العشاء.. فتشعران ببعض
العزاء كونكما عدتما إلى ابتسام من جديد، فعكا هي عكا مكانها لم تبرحه!.. .
64 عاما..
هل
سيطول الزمان إلى قرن آخر كما كان القرن الفرنجي من قبل!
أقول
ذلك لصاحبي فيقول: دائما هناك شمس تشرق من جديد!
نقرأ
الفاتحة على أرواح الشهداء الثلاثة، والشهداء (الواحد والتسعين الذين سقطوا في المذبحة)،
تسير بنا الحافلة مودعين عكا، فما أن نخرج منها حتى نرى محيطها المستلب، فنعود ثانية
إلى التاريخ نعبره ماكثين فيه لعلنا نتعزى به عن حاضر مؤلم.
تحسين يقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق