·
سجّل طه حسين، في رسالة
الدكتوراه الأولى في الجامعة المصرية، بعنوان «ذكرى أبي العلاء» (1914) أول خطوة
في النقد، فجعلها في النقد التطبيقي
·
محنة أبي العلاء، أو لنقل
تشاؤمه، «لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور
بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة.. ومن نعيم ولذة»
·
نراه يصعّد في الشك ليطول
وضّاح اليمن، مُسَفِّها افتتان «بعض أساتذة الأدب المحدثين» ممن فُتن به ثم هو يشك
في وجود هذا الشاعر «شكّاً قوياً»، ويعتقد أن اليمانية «اخترعت» وضّاحاً وشعره
·
«نعم! وسينتهي بنا هذا
البحث إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن
وتأويل الحديث، وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر
وتأويله»
أثار طه
حسين، من حوله، وتحديداً في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، جدلاً كبيراً، في ما
قدمه من نتاج فكري عامة، وما أذاعه في الناس من درس أدبي انتقادي، خاصة. وقد صخب
هذا الجدل إثر نشر أطروحته الأولى «ذكرى أبي العلاء» (1915)، وظل يصخب إلى يوم
صدور ما جمعه وحققه نبيل فرج من وثائق (2004). ومن ثم، تجمّع لدينا سبعة وسبعون
كتاباً، إضافة إلى عشرة كتب مترجمة، فتحصّل إنتاج طه حسين على ستة وثمانين
عنواناً، في فنون الأدب والنقد والاجتماع والتربية والسياسة والتاريخ.
بقدر ما
كان الجدل يعنف من حول أديبنا حيناً، ويهدأ حيناً، كان، بالموازاة، هناك جدل ونقد
وتأمل، مقيم، كان يمور ولا يهدأ، إلا قليلاً، في كيانه، في عقله ووجدانه وعصبه،
فهو في أول أمره، كان يعيش مزاجاً صاخباً بين حالين متغايرين في الأزهر، حال ما
يراه نكداً في طرائق تعليم الكثيرين من شيوخه، وجمود عقولهم، وضآلة ثقافتهم، وحال
ما يراه فسحة رجاء، تتمثل في القلة من رجال الأزهر، وفي مقدمتهم الشيخ سيد المرصفي
(توفي سنة 1931)، فعنه أَلِف تفسير النصوص الأدبية، وحذا حذوه في انتقاد بعض شيوخ
الأزهر، ومناهجهم في التفكير، وفي الدراسة. وهو ما شكّل بذرة حية تنبت في تربة
فكرية خصبة، سيكون لها نماؤها في النقد المرير الذي أعلنه طه حسين، في حق مناهج
الأزهر وأساليب التعليم فيه.
وفي
القدر نفسه، كان «الفتى الأزهري» شديد الكلف بأفكار الشيخ محمد عبده (1849 -
1905)، وبما يلقيه من دروس في تفسير القرآن الكريم، و«دلائل الإعجاز» لعبدالقاهر
الجرجاني، ولشدّ ما أسره أسلوب الدرس، وفيه يقول: «أما منهجه في التدريس، فقد كان جديداً
كل الجدة، وكان يعني خروجاً كاملاً على الإسكولائية الأزهرية، وكان يحرص أشد الحرص
على كل ما من شأنه أن يحفز على التفكير والتمعن، وينتهي بذلك إلى أن يفتح لهم
(للطلبة) آفاقاً غير معروفة، وقد غرس فيهم الرغبة في الاطلاع والنقاش، ودفعهم إلى
حب حرية الفكر، وعلّمهم التعبير عن آرائهم» (من الشاطئ الآخر، ص47).
أما
القلق المقابل، في كيان أديبنا، فقد نتج من وعي الفارق المعرفي، الذي تبدى له حين
أخذ يرتاد الجامعة المصرية، في عهدها الأول، وإذ أخذ ينصت بشغف مطرد إلى محاضرات
الأساتذة المستشرقين (حضر دروس أجناتسيو جويدي، وليتمان، ونللينو وماسينيون
وميلوني ولوي كليمان...). وفي الجامعة يقول: «إنها غيّرت رأيي في الأدب ومذهبي في
النقد التغيير كله»، وتجلت له خطوط المنهج الجديد، وذلك في جعل دراسة الأديب دراسة
لعصره وبيئته، وتصوره في الوقت ذاته من خلال المؤثرات التي يزخر بها عصره.
التجديد
في صوغ النقد التطبيقي والنظري
وأخصر ما
يقال في هذه المرحلة، أنها أنتجت أطروحته عن المعري «ذكرى أبي العلاء»، إضافة إلى
ما تجمّع لديه من مفاهيم أولى، أساسية، ستغدو في مرحلة تالية أكثر نضوجاً
وتكاملاً، وهي في مجملها تندرج في ست نقاط، هي:
1 - لم
يكن واثقاً من قدرة الدارسين، حتى تلك الفترة، على كتابة تاريخ الأدب، بسبب غياب
العناصر التكوينية لهذا العمل، وهي ندرة ما أُنتج من تحقيق التراث، والنقص الكبير
في الدراسات اللغوية والفقهية والمعاجم التاريخية.
2 -
ضرورة التيقن من جلّ المسلّمات السياسية.
3 -
ضرورة المزاوجة، على صعيد النقد، بين طريقة العرب وأساليب المستشرقين المستحدثة.
4 - لا
جدوى من الحاجز القائم المصطنع بين التاريخ والنقد والفن، فالتاريخ الأدبي لا
يفرّق، بسبب اتساعه، بين ما هو نقد وما هو تاريخ.
5 -
إيلاء الدراسة الواحدة ما تتطلبه من استقلالية في منحاها وفي أسلوبها، بحيث لا
تكون - بالضرورة - استكمالاً لسابقاتها، وبشكل تطوري، على الرغم من الاعتراف بوجود
بعض المظاهر المشتركة بين دراسة وأخرى.
6 -
تعزيز مفهوم «المقياس الأدبي» القائم على فكرة الجمع بين العلم والفن.
لقد سجّل
طه حسين، في رسالة الدكتوراه الأولى في الجامعة المصرية، بعنوان «ذكرى أبي العلاء»
(1914) أول خطوة في النقد، فجعلها في النقد التطبيقي، وأول دراسة أكاديمية تمثلت
فيها مفاهيمه وخصائصه الفكرية، بالإضافة إلى أسلوبه في العرض والتحليل واستخلاص
النتائج، ولنا أن نقول، إن ملامح «المقياس الأدبي» أخذت طريقها إلى صفحات هذه
الأطروحة بعلمها وفنها، فقد جعل دراسة أبي العلاء لعصره وبيئته، وتصوّر المعري في
الوقت ذاته من خلال المؤثرات التي يزخر بها عصره: «جعلت درس أبي العلاء درساً
لعصره، واستنبطت حياته مما أحاط به من المؤثرات، ولم أعتمد على هذه المؤثرات
الأجنبية وحدها، بل اتخذت شخصية أبي العلاء مصدراً من مصادر البحث، بعد أن وصلت
إلى تعيينها وتحقيقها، وعلى ذلك فلست في هذا الكتاب طبعياً فحسب، بل إن طبعي نفسي،
أعتمد فيه ما تنتج المباحث الطبعية ومباحث علم النفس معاً» (تجديد ذكرى أبي
العلاء، ص13).
ثم، هو
في هذه الأطروحة، يسوق الأشياء ويقيّدها بنظام صارم من الجبر التاريخي،
فـ
«الحياة الاجتماعية إنما تأخذ أشكالها المختلفة، وتنزل منازلها المتباينة بتأثير
العلل والأسباب، التي لا يملكها الإنسان، ولا يستطيع لها دفعاً ولا اكتساباً»
(ص19)، وبمقتضى هذه الحتمية فإن «الحادثة التاريخية وكذلك القصيدة الشعرية،
والخطبة، والرسالة، كل أولئك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية، يخضع للبحث
والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء» (ص20). غير أن هذا المنحى المتشدد، سيشهد مع
قابل الأيام، اعتدالاً متدرجاً يتسم بالحيوية والمرونة، كما هو الحال في كتابيه
«عثمان»، و«علي وبنوه».
وهو إذ
يتوسع في جلاء مفهوم النقد الذي ينتهجه، وما تميز به من عقلانية بدت صارمة في
«ذكرى أبي العلاء»، نراه يعمد إلى قسوة ذات مظهر آخر، يتبدى فيها أثر الإحساس
العملي الواقعي، إذ يقيم نقاشاً عميقاً «مع أبي العلاء في سجنه» (1939)، تنجلي فيه
المقاربة الذاتية الحميمة في التحليل، فمحنة أبي العلاء، أو لنقل تشاؤمه، «لا مصدر
له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون
فيها من جمال وبهجة.. ومن نعيم ولذة» (ص13). وهي محنة تصدر عن عدم تلاؤم مع الواقع
الطبيعي والاجتماعي، وهو ما يدفع إلى الاتجاه التشاؤمي، فهل كان المعري صاحب فكر
وشعر وانتقاد، وما كان صاحب إصلاح وعمل؟ هذا الفصام الذي يلحظه أديبنا بين الفكرة
والعمل عند المعري، كأني به، يمثّل طه حسين، ذلك الوجه المقابل، الذي ينكر هذا
الفصام، وينكر الفصل بين التفكير والتدبير، ويرفض عدم التلاؤم، وهو يمضي بهدي عقله
الصارم، وإرادته القوية، في ما نذر نفسه له. فتجربة أديبنا، إذن، تضاد ما كان
يعيشه المعري من عدم اقتدار على الجمع بين العقل النافذ وإنفاذ الإرادة. بمعنى
آخر، نحن أمام مقاربة نقدية تصدر عن عقل مريد، نفّاذ، فعّال، لا يرضى لنفسه ما لم
يستطع إليه المعري سبيلاً.
أما
الخطوة الثانية التي سجلها طه حسين في أطروحته عن المعري، فهي تندرج في النقد
النظري، المتمثل في زعزعة أركان «النظرية المدرسية» عموماً، واعتماد ذلك في تأريخ
العصر العباسي وقسمته، بوجه خاص. فهو ينكر على دارسي الأدب (جرجي زيدان، وأحمد
الإسكندري، وجماعة دار العلوم، مثلاً) «أن يتخذوا في تحديد العصور، وتقيّدها
بالشهر والعام، كما يصنع المؤرخون السياسيون في توقيت الحوادث (تجديد ذكرى أبي
العلاء ص40)، وهم في هذا الصنيع يغفلون الفروق الظاهرة الأثر في الآداب حين جمعوا،
مثلاً، بين عصر الديلم وعصر السلجوقيين، وهم في هذا الصنيع يسقطون الانحطاط
السياسي على النتاج الأدبي، في ذلك العصر، فيحيلونه عصر جمود أدبي. فالقاعدة التي
بنى عليها مؤرخو الآداب تقسيمهم للعصر العباسي، هي، إذن، خاطئة من هذا الوجه.
ويضيف
مستغربا: «ولعمري إن عصراً ينبغ فيه من الشعراء الرّضي والمتنبي وأبو العلاء، ومن
الكتّاب ابن العميد وابن عبّاد والصابئ، ومن الفلاسفة الفارابي وابن سينا وابن
لوقا، ومن الأدباء أبوهلال وابن المرزبان والآمدي والجرجاني، ومن النحويين ابن
خالويه وابن جني وأبو علي الفارسي والسيرافي في عصر ينبغ فيه هؤلاء وغيرهم من
أمثالهم، ومن المؤرخين والجغرافيين والفلكيين، لخليق أن يكون عصر رقي ونهضة، لا
عصر ضعف وانحطاط في العلوم والآداب» (تجديد ذكرى أبي العلاء، ص40). وجلي أن طه
حسين، في هذين النقدين: التطبيقي والنظري يُعلي من شأن «الظاهرة الأدبية»، ويُعنى
بتاريخها، في آن، شريطة أن تكون الظاهرة الأدبية أصلاً في ذاتها، أولاً، ثم قد
تتصل أو تقترن هذه الظاهرة بحدث سياسي، أو اجتماعي، أو بيئي، فينتج من هذا الاتصال
أو الاقتران ما قد يكون تأثيراً أو تأثراً، يتجلى في الأثر أو الظاهرة، وهذا أمر
يقرّ به الدرس الأدبي، طالما بقي متحرراً من إسقاط المسلمات أو الأفكار المطلقة السائدة،
عليه.
هذا
النقد الهادف إلى زعزعة «النظرية المدرسية»، والدعوة إلى محو آثارها، سوف يعنف
كثيراً في كتاب «في الأدب الجاهلي»، لكن الإنصاف في بيان ظهور هذا الاتجاه في
الدرس الأدبي، يقتضي، منا أن نذكّر بما ظهر من ملامحه في دروس حسن توفيق العدل
(1862 - 1904)، وأحمد علي ضيف (1880 - 1945) في كتابه «مقدمة لدرس بلاغة العرب»
الذي قدم رؤية نقدية لعلاقة الأدب بالمجتمع، وجعل مصطلح «الصورة» إشارة إلى ما
يعكس قدرة الأديب على تبيّن الواقع وتصويره، واعتبر «التمثيل» فعلاً يشير إلى
انعكاس الأبعاد الاجتماعية التي ينطوي عليها العمل الإبداعي.
مسألة
التجديد في «حديث الأربعاء»
قدّم طه
حسين، في كتابه «حديث الأربعاء» (ثلاثة أجزاء، نشرت على التوالي، في العام 1925،
1926، 1945) مجموعة دراسات، لها تقنية المقالات، وما كانت تقتضيه أحوال الصحف
اليومية والأسبوعية، في ذلك الوقت. وهي مقالات تعنى بشعراء من الجاهلية وصدر
الإسلام، والعصرين الأموي والعباسي، إضافة إلى بعض الأدباء المحدثين. وقد صرّح
المؤلف بالمقدمة بأن فصول هذا الكتاب ليست متصلة، ولا ملتئمة، ولا تخضع للفكرة
المتحدة. لكن روح الكاتب فيها واضح بيّن، ومذهبه فيها ظاهر جلي، فهو يثير مسألة
تأريخ الأدب، وطريقة التقليديين في تبويب وتحقيب النتاج الأدبي. وهو يسجل ثانية
وبشدة تحفظه تجاه هذا التقسيم السياسي للأدب، باعتباره «لا يكفي لتصنيف الشعراء»،
فالظاهرة الأدبية - برأيه - تمتد في الواقع، لا في تلك العصور السياسية. ثم هو
يستأنف الحديث عن مسألة «الجبر التاريخي» أو «تمثيل الشاعر لعصره» أو «تمثيل
الشاعر لبيئته».
أما
المسألة الأولى، التي أثارت جدلاً جديداً، في هذا الكتاب، فهي مسألة ما نحله
القصاص في شعر العذريين، وعنى بهم مجنون ليلى، وقيس بن ذريح، وعروة بن حزام، وجميل
بن معمر. فقد أنكر ما تكلفه الرواة تحلية لقصصهم وتزييناً لها، وتعليلاً لما ورد
فيها من أخبار. وقد زعم أن هؤلاء الشعراء الغزليين، في العصر الأموي، بين اثنتين:
إما أن يكونوا أثراً من آثار الخيال قد اخترعهم اختراعاً، وإما ألا تكون لهم شخصية
بارزة ولا خطر عظيم، وإنما عظّم الخيال أمرهم، وأضاف إليهم ما لم يقولوا وما لم
يعلموا، واخترع حولهم من القصص ألواناً وأشكالاً لهم في الأدب العربي هذا الشأن
العظيم الذي لا يكاد يقوم على شيء. وهو يزعم «أن هذه الطائفة من الشعراء.. لم يكن
لهم في تاريخ الأدب العربي من الشأن ما يظنه الناس إلى الآن» (1/170)، ثم يخلص،
مستدركاً وموضحاً، أنه لا ينكر وجود هؤلاء، ولكنه يزعم «أن هذه الأخبار التي تروى
عن (حب هؤلاء) مصنوعة متكلفة في أكثر الأحيان، وأن تكلفها أحدث.. فناً نثرياً
جديداً هو فن القصص الغرامي» (1/187 - 188). ما قدمته هذه النظرة النقدية، يتكشف
عن ثلاث أفكار جديدة، فهي توجه الدارس إلى نهج التحقق في المرويات وروزها روزاً
دقيقاً، وهي تريد أن تقيم مكان تلك الطائفة من الشعراء الغزليين، أشياء، لا
أشخاصاً، وهي تحيل ما روي عنهم إلى فن القصص الغرامي.
وفي سياق
الوصل في حديث الأفكار الذي أثاره أديبنا حول الغزل البدوي في العصر الأموي، نراه
يصعّد في الشك ليطول وضّاح اليمن، مُسَفِّها افتتان «بعض أساتذة الأدب المحدثين»
ممن فُتن به، «حتى خُيِّل إليهم أنه اخترع الشعر التمثيلي وأضافه إلى تراثنا
الأدبي القديم» (1/228). ثم هو يشك في وجود هذا الشاعر «شكّاً قوياً»، ويعتقد أن
اليمانية «اخترعت» وضّاحاً وشعره، حتى لا يقال إنها خلت من شاعر غزل في الإسلام،
وهو يزعم أن الذي أنشأه إنما هو «ناظم جاهل، لا حظ له من قوة، ولا نصيب له من فن،
في القرن الثالث أو الرابع للهجرة»، ويخلص إلى أن أمر وضّاح هذا «كله نكر في نكر،
فشخصه موضوع شك وشعره منحول، وأخباره متكلفة» (1/234). ما يشار إليه هنا، أن هذا
الشك في شخص وضّاح اليمن وشعره، الذي كتبه طه حسين في العام 1924، ستتسع دائرته،
في العام 1926، ليغدو شكّاً بعيد الدلالة وخطير الشأن، في كتابه «في الشعر
الجاهلي».
ولعل
أبرز مقالة له في مسألة القدماء والمحدثين، ما كان قد نشره في «السياسة» (31 كانون
الثاني / يناير 1923)، إذ يتساءل، أو يأخذ نفسه في حوار ذاتي: «إلام تقصد إذا عرضت
لشاعر من الشعراء وأردت أن تقرأ شعره وتفهمه ثم تنقده؟ فأجاب مضمناً قصده ثلاثة
أشياء: الأول: أن تصل إلى شخصية الشاعر، فتفهمها وتحيط بدقائق نفسه ما استطعت،
والثاني: أن تتخذ هذه الشخصية وما يؤلفها من عواطف وميول وأهواء، وسيلة إلى فهم
العصر الذي عاش فيه هذا الشاعر، والبيئة التي خضع لها هذا الشاعر، والجنسية التي
نجم منها هذا الشاعر، فأنت لا تقصد إلى فهم الشاعر لنفسه، وإنما تقصد إلى فهم
الشاعر من حيث هو صورة من صور الجماعة التي يعيش فيها... فأبو نواس وحده لا يعنيك،
وإنما يعنيك أبو نواس من حيث إنه كان يعيش، فالشاعر ليس شاعراً، لأنه يقول فيحسن،
وإنما هو شاعر لأن قوله الحسن هذا يمثل عواطف الذين يسمعونه ويقرأونه، والثالث: هو
اللذة الفنية حين تقرأ الشعر وتحاول نقده» (2/51 - 52).
فالنص،
على إيجازه، يرسم إطاراً للمجال النقدي الذي أراده طه حسين، في مستقبل دراساته،
وهو نص يحمل تصوراً للنقد ووظيفته، يشي بعناصر جديدة من ثقافة الغرب وفكره الأدبي،
لكن النص، بالمقابل، لا ينتصر لمقالات أذاعها أديبنا في الناس، كان يذهب فيها إلى
الحكم أن أبا نواس ومن في طبقته أو على شاكلته من الشعراء كانوا مثالاً صادقاً
للعصر الذي عاشوا فيه، وأن الرشيد والمأمون ذهبا من الشك والاستمتاع باللذائذ في
ذلك العصر مذهب أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون، وهو حكم، أقل ما يقال فيه أنه
يحتاج إلى تمحيص، وتيقن، وعدم إطلاق الحكم، وهي الأفكار ذاتها التي كان يوُصي بها،
أديبنا، ويلحّ في تطبيقها.
ثم، هو
يؤكد في عدد من المقالات، ما يعتقده في العصر العباسي، فهو - عنده - عصر انتقال
وامتزاج بين الأجناس والثقافات، وفي ظنه أن مثل هذا الامتزاج، هو ما جعل من القرن
الثالث مسرحاً للجديد في الشعر، ثم يتخذ من ظهور شعراء جدد كأبي تمام وابن المعتز
وابن الرومي، وظهور غيرهم من العلماء والفلاسفة، دليلاً على أن حياة القرن الثاني
بكل ما اشتملت عليه قد انتهت، ليبدأ عصر جديد، قوامه الجدّ، فقد تحوّل الشعراء في
هذا القرن من رجال يحفلون بالمجون والخلاعة، إلى رجال يحفلون بالثقافة، وبالتالي،
فليس من سبيل إلى أن نفهم من طبائعهم وأذواقهم في الشعر إلا إذا فهمنا هذه
الثقافات (العربية واليونانية والفارسية) التي تأثر بها هؤلاء.
أما
مسائل: النحل في الشعر، ومدرسة زهير الفنية، وتعريف الأدب والشعر، مما كان قد
أثاره طه حسين في «حديث الأربعاء»، وعاد فأدرجه في كتابه «في الأدب الجاهلي»، فقد
آثرنا درسه، في مكانه التأريخي، أي سنة صدور كتاب «في الشعر الجاهلي» (1924)، ثم
معدلاً «في الأدب الجاهلي» (1926)، وذلك لسببين، الأول: المحافظة على تدرج صدور النظرية،
والثاني: ما جاء من تأسيس للأحكام في تلك المسائل.
في
«الأدب الجاهلي» أو زوبعة الجدل الخصومة
قدّم طه
حسين، في هذا الكتاب رؤية شاملة لمشروع نقدي عربي، بدءاً باستخلاص تعريف للأدب، ثم
قدّم أفكاراً تؤسس لتاريخ الأدب على نحو منهجي، ينطلق فيه من مراجعة جذرية
للمسلّمات في الأدب، ويشك في «ثوابت الأحكام» التي ينقضها العقل والمنطق التاريخي،
ويبين استنتاجه انطلاقاً من حق الناقد ومؤرخ الأدب، غير المشروط، بحرية البحث.
وهو
يفتتح كتابه بنقد حاد للمذهب الذي كان قائماً في درس الأدب بمصر، في مدرسة القضاء،
ودار العلوم، وفي المدارس الثانوية كلها، ذلك «الخليط» الذي يسمونه «أدب اللغة
العربية» حيناً، و«تاريخ أدب اللغة العربية» حيناً آخر (ص8)، ثم هو «يزعم» أن دار
العلوم قد أصبحت لا تصلح لما يُطلب إليها الآن من إعداد أساتذة لتعليم اللغة
العربية وآدابها، «فليعدل عنها إلى المعهدين اللذين يستطيعان أن ينهضا بهذا العبء،
وهما مدرسة المعلمين، والجامعة» (ص18).
أما ما
أراده في تعريف الشعر العربي، ففيه ما هو قائم على عناصر لا خلاف عليها: من ضرورة
أن يكون موزوناً، ومقيداً بقافية ما، وأن تتحقق فيه الجودة الفنية للفظ الذي يتألف
منه، وأن يكون المعنى جيداً شريفاً قيماً، وفيه ما هو قائم على عناصر خلافية: مثل
اعتماد الشعر على الخيال، أو اعتماده على الحق والمقياس الذي يقاس به الجمال
الشعري. ثم هو يشير، في تصنيف متذوقي الشعر، ونقاد الأدب، إلى ما يرتاح إليه، ممن
يقفون من هذا الشعر موقف القصد والإنصاف والاعتدال: «وهؤلاء لا يزدرون الأدب
العربي القديم، ولكنهم لا يكتفون به، وإنما يقبلونه على أنه قد أدى ما كان ينبغي
أن يؤدي في عصوره المختلفة، ويريدون مع ذلك أن يكون لهم أدب ملائم للعصر الذي
يعيشون فيه. (ص316). وفق هذه الرؤية، يكون لكل شعر جيد ناحيتان مختلفتان، فهو من
ناحية مظهر من مظاهر الجمال الفني المطلق، وهو من هذه الناحية موجّه إلى الناس
جميعاً، مؤثر في الناس جميعاً، ولكن بشرط أن يعدوا لفهمه وتذوقه، وهو من ناحية
أخرى مرآة تمثل في قوة أو ضعف شخصية الشاعر وبيئته وعصره، وهو من هذه الناحية متصل
بزمانه ومكانه.
استكشاف
مدرسة مُضَر الشعرية
قدّم
أديبنا، في الفصل الخامس، بحثاً نقدياً، فيه من الجدة ما يستحق العناية به، فتحت
عنوان «الشعر المضري والنَّحل»، استصوب طه حسين البحث عن الشعر الجاهلي من حيث
المدارس التي أنشأت هؤلاء الشعراء، بمعنى أنه لا ينبغي أن نبحث عن الشعر الجاهلي
من حيث شخصية الشعراء الذين يضاف إليهم، وهو يعتقد أنه استكشف مدرسة مضرية، لها
خصائص فنية، وأنه يمكن أن يقوم ذلك على «مقياس علمي مركّب»، إذ نعتمد على اللفظ
والمعنى وعلى أشياء أخرى فنية وتاريخية، ويكون لنا من مجموع هذه الأشياء كلها ما
يمكن أن نستخلصه مقياساً يقرّب إلينا صواب الرأي في الشعر المضري، أو بعبارة أصح
في طائفة من هذا الشعر المضري الجاهلي، فالمراد هو الظفر بخصائص مشتركة للشعراء،
لا للرواة، كي نرجح أن لشعر هذه الطائفة نصيباً من الصحة، أما الشعر موضوع هذا
البحث الاستقصائي فهو شعر زهير، وأوس بن حجر والحطيئة والنابغة وكعب بن زهير.
وجليٌّ
أن المؤلّف يثير نقاشاً حول تأريخ الأدب بالمذهب الفني، وهي مدرسة عرفت بذورها عند
القدامى من مؤرخي الأدب، من ذلك ما جاء عند المرزباني في كتابه «الموشّح» وابن
رشيق في «العمدة»، وكان لها عند بعض المحدثين رعاية، من ذلك ما جاء في «الوسيلة
الأدبية إلى العلوم العربية» (الصادر في جزأين بين عامي 1872 و1879) للشيخ حسين
المرصفي، وفي محاولة روحي الخالدي، في «كتاب فيكتور هيغو وعلم الأدب عند الفرنج
والعرب» (1904)، وكان لها في النقد الأجنبي، أيضاً، حظ موفور.
وأبرز ما
يراه أديبنا مشتركاً في شعر «مدرسة زهير الفنية» هو الخيال المادي، شديد التأثر
بالحس، واتخاذ الشعر حرفة وصناعة وفناً يُدرس ويُتعلَّم، ويُنشئه صاحبه إنشاء،
ويفكّر فيه تفكيراً، ويقضي في إنشائه والتفكير فيه الوقت غير القصير.
فالجديد
في ما بحثه أديبنا، هنا، يتبدى في تسليط الضوء على «المدرسة الأوسية»، أو كما
أسماها «المدرسة الزهيرية»، فيحدد - بوضوح - أسسها، وأعلامها، بعيداً عما شهدناه
عند الأقدمين من تلميح وتلجلج، ثم هو ينقلها إلى نقد تطبيقي، مما جعلها مدرسة
قائمة بذاتها، يتعلمها الجيل التالي، ويطوّرها، فتصبح محور اهتمام ودراسات قيّمة،
كما هو حالها في كتابي د.شوقي ضيف: «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، و«الفن
ومذاهبه في النثر العربي».
مسألة الشك
مهّد طه
حسين لمسألة الشك، محور كتابه «في الأدب الجاهلي» بمقدمة سجّل فيها تصميمه على
دخول ما يكتنف هذه النظرية من صعاب، واحتجاج الساخطين عليه، وأنه لن يكترث بازورار
المزور، لكن هذا البحث - النظرية - سيرضي، برأيه، «هذه الطائفة القليلة من
المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة وذخر الأدب الجديد»
(ص61).
أما
عنوان هذا المدخل النقدي العسير، فهو «أن الكثرة المطلقة مما نسميه الأدب الجاهلي
ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل
حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أن
ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، ولا
ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة لهذا العصر الجاهلي» (ص65).
ثم يمضي
قُدماً في منهجه هذا إلى نحو آخر من البحث، ذلك هو البحث الفني واللغوي. وقد انتهى
به الأمر إلى اعتبار الشعر الذي يُنسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما
من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء،
ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن الكريم. «نعم! وسينتهي بنا هذا البحث
إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل
الحديث، وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله».
ويضيف:
«أريد أن أقول إن هذه الأشعار لا تثبت شيئاً ولا تدل على شيء، ولا ينبغي أن تتخذ
وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث. فهي إنما تكلّفت واخترعت
اختراعاً ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه» (ص67).
وهو
يصطنع في هذا النحو من الدرس المنهج الفلسفي الذي استحدثه «ديكارت» للبحث عن حقائق
الأشياء في أول هذا العصر الحديث (ص67). وهو يعزو ظهور هذا النحل إلى أربعة أسباب
رئيسية:
1 -
العصبية، وما يتصل بها من المنافع السياسية. ويبني على تسجيل ذلك، «قاعدة علمية»،
وهي أن مؤرخ الآداب مضطر، حيث يقرأ الشعر الذي يسمى جاهلياً أن يشك في صحته كلما
رأى شيئاً من شأنه تقوية العصبية، أو تأييد فريق من العرب على فريق. ويجب أن يشتد
هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قد لعبت - كما
يقولون - دوراً في الحياة السياسية للمسلمين (ص132).
2 -
تأثير العواطف الدينية على اختلافها وتنوع أغراضها، وهو يظن «من ثم، أن الشعر الذي
يسمى جاهلياً مقسم بين السياسة والدين» (ص147).
3 - ما
يوجه فن القصص الذي أزهر أيام بني أمية وصدراً من أيام بني العباس، فقد اجتهد
الرواة والقصّاص بتكثير الشعر الذي يحتاجون إليه لتزدان به قصصهم من ناحية،
وليستسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى (ص154).
4 - ما
نحله الشعوبيون من أخبار وأشعار وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين، ذكراً لمآثر
الفرس، وما كان لهم من سلطان ومجد في الجاهلية، وبالمقابل ما كان العرب مضطرين إلى
أن يجيبوا بلون من النحل أو تزيّد الشعر، في ما يشبه هذا اللون، فيذكرون مآثر
العرب، وما كان لهم من مواقف وأيام مجيدة، تصدوا فيها للفرس (165).
ولا يرى
طه حسين أن هذه الظاهرة الأدبية مقصورة على العرب، وإنما تتجاوزها إلى غيرها من
الأمم القديمة، فهذه العوارض التي عرضت لحياة العرب «مشبهة للعوارض التي عرضت
لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة» (114).
وأبرز ما
اتسم به هذا الكتاب، عدا الخروج عن المألوف، وإعادة النظر في الموروث، في ضوء
مناهج البحث الجديدة، هو رفض المذهبين النقيضين: إثبات الشعر الجاهلي على أنه شعر
قديم تاريخي قال به أصحابه، كله صحيح، باستثناء بعض النقود، ونفي الشعر القديم على
أنه كله منتحل، لا صحيح فيه، ومن دون أن يشير المؤلف إلى المحدثين الغربيين، خاصة
مرغوليوث. وجعل الحقيقة وسطاً بين المذهبين عن طريق الشك، وهي أن معظم الشعر
القديم منتحل، وأقله صحيح، وهو بهذا يكون قد التزم طريق البحث والاستقصاء.
وعلينا
أن نتساءل: إلى أي درجة، استغرق هذا الكتاب المنهج الديكارتي؟ وهل هو نهج توليفي
مركب من استرجاع لابن سلام، والشك في الشعر الجاهلي بأن قريشاً كانت أقل شعراً في
الجاهلية، فاضطرت إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً في الإسلام؟ أو أنه استئناف لما
كان قد فطن إليه مصطفى صادق الرافعي من سبب القصص في انتحال الشعر؟ أو أنه تكرار
للاستشراق في القرن التاسع عشر الذي يشكك في الصحة التاريخية للنصوص في العهدين
القديم والجديد، بل وفي التراث اليوناني القديم، وكان قد عبّر عن ذلك مقال مرغوليوث
الشهير عن الشعر الجاهلي؟ إن ما هو أقرب إلى ذلك كله أن المنهج المستعمل ليس منهج
الشك الديكارتي، بل هو المنهج التاريخي المقارن في دراسة الأدب العربي الذي يقوم
على اتصال العرب بباقي الشعوب.
أما ردود
الفعل على هذا الكتاب، فتمثلت في كتب ومقالات وسجال حفلت به الندوات والصحف.. وهي
جميعاً زادت من ذيوع أمر الكتاب، بطبعتيه الأصلية والمعدلة، وكان قد بلغ أثر ذلك
كله النيابة والقضاء والجمعية التشريعية. ما يذكر هنا، أن رئيس النيابة بدا ناقداً
أدبياً من طراز جيد، فجاء قرار الحكم أشبه بالدراسة النقدية، لا بقرار المحكمة.
ويبدأ هكذا: «نحن محمد نور رئيس نيابة مصر من حيث إنه بتاريخ 30 مايو سنة 1926
تقدم بلاغ (...)، ثم يخلص بعد الحيثيات إلى القول: «وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض
المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي
أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده
أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ
الأوراق إداريا. «القاهرة» في 30 مارس سنة 1927، محمد نور رئيس نيابة مصر».
لكن
زوبعة الكتاب، وعنف الرد عليه، جعلا من هذا الحدث الفكري مادة ثقافية خلافية،
سرعان ما تلقفها القراء في مصر والوطن العربي، وانقسموا بين متحمس له، ومنكر ما
جاء فيه، لكن أيا لا ينكر أن هذا الكتاب قد هز المشاعر والعقول هزاً عنيفاً، وحرك
بقوة الركود الذي كان غالباً على الحياة العقلية في تناولها أدبنا القديم. ولا أحد
ينكر أن كتاب «في الأدب الجاهلي» معلم في تاريخ النقد العربي، بما حمل من دعوة
ثورية إلى منهج متكامل في الدرب الأدبي. وقد لخصها طه حسين بقوله: «يجب أن ننسى
عواطفنا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها وأن ننسى
ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا
لمناهج البحث العلمي الصحيح».
في
الختام، بقدر ما لقي أديبنا من خصومة ورفض واتهام بالمروق الديني، كان بالمقابل
يلقى مؤيدين ومناصرين، فقد أنشد إليه وإلى مؤلفاته خلق من المثقفين كثير لما وجدوا
فيه من الشعور الصادق بالمسئولية نحو مواطنيه، وأدركوا أنه يريد أن يعرّفهم على
الأجناس الأدبية التي ذاعت في الأدب الغربي، قديمه (الإغريقي مثلاً) وحديثه
(ولاسيما الفرنسي)، وأن يقدم لهم كذلك قراءة جديدة في تأريخ الأدب، ومقياسه الأدبي
المعتمد في ذلك، واهتمامه الشديد بالنقد التطبيقي، القائم على الجمع بين العلم
والفن، إذ اختط نهجاً مبتكراً، فيه من العلمية ما يتصل بموضوع الدراسة الأدبية
(دراسة نصوص شعرية أو نثرية، أو دراسة أديب، أو ظاهرة أدبية) بالفحص والتحري
والتحقق، واستنباط الدلالات، مقرونا ذلك بدقة التفسير والتعليل والتحليل، والإحاطة
بالظروف التي أثرت في منشئيها، مع بيان ما بينهم وبين محيطهم وعصورهم من صلات،
وفيه من الفنية ما يتصل بنقد النصوص وتصوير شخصيات أصحابها، وما تُحدث في نفس
القارئ من متعة وفائدة ورغبة في التزيد، وهو ما يحيل التاريخ الأدبي إلى عمل يلذّ
العقل والشعور، ومن ثم تتبدى - من خلاله - خصائص المؤرخ الأدبي، العقلية، وملكاته،
وقدرته على طرافة العرض والتصوير، حتى لكأننا بإزاء عمل فني رائع. وكان أديبنا
يدرك في هذا الربط، ما بين العلمية والفنية، دور اللغة، من حيث الصرف والنحو
والبيان، وإبلاغية الأسلوب المشوق، مع ما ينبغي لهذا كله من الحس المرهف والذوق
المهذب، بحيث تتجلى شخصية الناقد في ما ينثر من أحكام وآراء، وفي ما يصوّر من
مواطن الجمال الفني في الآثار الأدبية المختلفة.
رياض زكي قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق