الأحد، 26 مايو 2019

• الباراسيكولوجي... علم المستقبل


الباراسيكولوجي هو علم البحث في الظواهر الخارقة والقوى الغامضة، مثل التخاطر والجلاء البصري والسمعي، والقدرة على تحريك الأشياء بالفكر، واختراق الماضي والمستقبل، والتعرف على مكان الماء أو المعادن في الأرض، والوجود في مكانين في وقت واحد، والطرح النجمي أو الخروج من الجسد، وغير ذلك من طاقات بدأت تخضع للأساليب العلمية والمعملية منذ عدة عقود، وشهد البحث فيها طفرات من التقدم مع تطور الأساليب التقنية.

ورغم أن هذا الفرع من المعرفة لا يزال يلقى إنكار الكثير من العلماء والباحثين، ممن يعتبرونه دخيلا على التصنيف العلمي، فقد أفردت له الجامعات ومراكز الأبحاث أقساما خاصة يقوم عليها علماء خالصون، يؤمنون بأن هناك من الظواهر الغريبة ما يمكن جمعه في إطار هذا الفرع وإخضاعه للبحث العلمي المجرد، وهو ما يهدف في الأساس إلى محاولة رصد هذه الظواهر على طبيعتها بأساليب موضوعية ومحايدة، واكتشاف آلياتها وما وراءها من " قوانين " عبر مناهج التثبت من الفروض العلمية، وتحويلها في الأحوال الإيجابية إلى نظريات تخضع بدورها للتجارب، لحين استقرارها.
ويقع هؤلاء العلماء في منطقة وسط بين المنكرين من جانب، والمؤيدين من جانب آخر، وتنتظم الفئة الأخيرة من يرون أن الظواهر الخارقة لها قوانينها الخاصة، التي لا تخضع لأساليبنا العلمية المعروفة، وأن الأخذ بها بلا إنكار وبلا محاولات عسفية لتطبيق قوانيننا العلمية عليها، هو الخطوة الأولى في اكتساب حقائقها، لأنها مع التدرج العلمي ستكشف نفسها بنفسها عبر ما يعرف بالمصادفات العلمية.
وفيما عدا طرفي النقيض، وهما المنكرون على الإطلاق والمسلمون على الإطلاق، فإنه يبدو أن علماء المنطقة الوسط هم الأقرب إلى الصواب، وذلك من عدة وجوه:
أولا: إن العلم في حد ذاته هو انطلاقة لا حدودية في آفاق المعرفة الإنسانية، بل نكاد نقول إن العلم بالنسبة للعالم هو ضرب من التوجه العقلي القسري، بمعنى أن العالم الحقيقي لا يستطيع الإفلات من إلحاح العلم عليه، كي يحرز في ميدانه تقدما، حتى الذين صنعوا أسلحة الدمار صنعوا أصولها النظرية أولا تحت ضغط عقلياتهم العلمية وسطوتها عليهم، ثم استنكروا تطبيقاتها وتنصلوا منها وندموا عليها بل وحاربوها أحيانا، وبعضهم آثر الهرب إلى المعسكر الآخر ليكشف فيه عن أسرارها حتى يضمن بذلك نوعا من الردعالسلبي المتكافيء، الذي يمنع كلا من الطرفين من استخدامها ضد الآخر.
من هنا يصح لنا أن نقول إن العلم على هذا النحو لا يمكن حصاره وحظر نشاطه في أبواب ومجالات معينة، أو إخضاعه لأيديولوجيات أو عقائد تنهى عن خوضه في بعض ظواهر الحياة والكون، أو حتى فيما حققته دول وشعوب أخرى في بعض الميادين. وهذا، مثلا، هو الخطأ المهلك الذي وقع فيه ستالين عندما أعلن الحرب على نظرية الوراثة لعدم اتفاقها مع التعاليم الماركسية، وأنكر الحاسب الآلي الذي وصفته الموسوعة السوفييتية طبعة 1955 بأنه أداة استعمارية لاستعباد الشعوب، ولما تنبه المسئولون بعد ذلك إلى أهمية هذين الفرعين من العلوم وانتشار استخداماتهما في مجالات حيوية بالغة التنوع، كان الاتحاد السوفييتي قد أصيب بأضرار إنمائية كبيرة جعلته متخلفا عشر سنوات في الأقل عن الغرب، وهي السنوات التي حاول ولا يزال يحاول إلى الآن تعويضها، واضطرته في بعض المراحل إلى تنشيط عمليات التجسس الصناعي.
وثانيا: أن المنهج العملي نفسه ينطوي على فكرة الإنكار، ولكنه لا يسلم بإطلاقها، فهو يبدأ بالفرضية التي تتحمل الصواب أو الخطأ، ولا يبدأ بابتداع نظريات من الفراغ، وهذه الفرضية تضيق من ناحية وتتسع من ناحية تدريجيا، إلى أن يغلب تصويبها معدلة أكثر من مرة، فتصاغ في نظرية تظل بدورها محل البحث والتجريب، والتجريح والتعديل، حتى تثبت كلية أو يثبت أحد أشطارها يقينا.
وثالثا: أن المنهج العلمي بالمثل لا ينكر مبدأ المصادفة، أو الظهورالتلقائي العفوي للقوانين، وتاريخه حافل بذلك، وكم من علماء كانوا في طريقهم إلى اكتشاف شيء فوقعوا على شيء آخر، وسواء نجمت هذه المصادقة عن عشوائية البحث المعملي أو الميداني، أو كانت ثمرة حدس أصاب نفسا علمية راقية، أو كانت كشفا قدريا مقننا في حجمه وزمانه ومكانه من السماء، فإن النتيجة واحدة، وهي أن المنهج العلمي يترك هامشا للمصادفة، أو هي تقع على هامشه دون إنكار مطلق أو تسليم مطلق.
طاقات كامنة
من هذا كله نتبين أن البحث العلمي المعملي في ظواهر الباراسيكولوجي هو أمر منطقي ومقبول، بل هو الطريق الوحيد الصحيح لاستجلاء غوامض هذه الظواهر واكتشاف جذورها وعوالمها وفروعها ومساراتها وأسبابها، وكيف تقود إلى نتائجها، ثم الأهم من ذلك هل يمكن استثمار آلياتها لصالح الإنسان وتقدمه؟
بداية، عندما نطرح هذا السؤال عقلانيا، فإننا نلمس على الفور إجابة مؤيدة، إذ إن الشواهد التاريخية استخدام كل المكتشفات العلمية، إذا ما قننت لخير البشرية، حتى تفجير الذرة غلبت عليه الاستخدامات السلمية، لكن السؤال الذي يلي ذلك هو: هل هذه الظواهر خاصية إنسانية؟ أم هي مجرد فلتات بشرية؟ هنا يستحيل القطع في هذه المرحلة من معرفة الباراسيكولوجي ، ولكن قد يغلب الترجيح بأن تلك الظواهر تنتمي إلى طاقة أو طاقات كامنة في الإنسان، وهذا اعتقاد كثير من العلماء الذين يبحثون بحياد وموضوعية في هذا المجال، إذ يرون أن هذه الطاقة يولد بها المرء، ولكنها تنكمش داخله، دون أن تفقد خواصها وفعاليتها، بسبب رتابة العيش في المدن، ويستدلون على ذلك بأن الإنسان، في تطوره التاريخي، نشأ بها حيث لاتزال ظواهرها منتشرة في المجتمعات البدائية، بل إنها تكاد تكون مصاحبة "للعيش الخطر" المفعم بتحديات الموت في كل لحظة، ولكنها تضمحل في أحوال الاستقرار والاعتياد، الأمر الذي صاحب الحياة منذ اكتشاف الزراعة، ومع ذلك فإنه يمكن أن تعود في حالات الاضطرابات الهستيرية مثل الحروب الفظيعة أو الكوارث المرعبة، حيث تشتد التحديات وتتنوع ويصبح الإنسان مهددا من كل جانب، فتتحفز في داخله هذه الطاقة وتنطلق في شتى مظاهرها بغير إرادة من صاحبها، وإنما لتواجه هذه التحديات، كل حسب قدراته.
العين الثالثة
وهناك فرضية أخرى ترى أن هذه الطاقة تنبعث من الغدة الصنوبرية التي تقع في مخ الإنسان، وهي التي سماها الهنود القدماء "العين الثالثة"، لأنها تقابل في الجبهة منتصف ما بين العينين، وفي بعض الفرضيات الإسلامية أنها تنشط بكثرة السجود، وهو ما يفسر خوارق الأولياء وكراماتهم.
كذلك يسود الاعتقاد بأنها متوافرة لكل طفل إلى سن البلوغ، حيث تبدأ الغدة المذكورة في الضمور، لكنها في حالات استثنائية تظل عاملة نشطة إلى سن متأخرة.
ومهما يكن من أمر فإنه يبدو منطقيا إذا كان الإنسان قد تكيف في كل مراحل تطوره مع مقتضيات العيش والبيئة، فإنما كان ذلك لقدرات منبثة فيه لاءمت بينه وبين الظروف المحيطة به في كل مرحلة، ومن ثم حالت دون انقراصه، وهذا ما يرجح أن هذه القدرات لاتزال تحتفظ له بخاصية التأهيل لمسايرة ما هو قادم، ولايزال غيبا، من ظروف الحياة.
ومن ثم يكون التساؤل لماذا نستثني أن تكون قدرات الإنسان الكامنة كفيلة بأن تحافظ على بقائه في ظروف التقدم العلمي المقبلة، وعلى سبيل المثال، لماذا ننكر أن يتمكن الإنسان بفضل هذه الطاقة من أن يتلاءم مع الأحوال التي ستكون عليها الأرض بعد ألف عام أو بضعة آلاف من السنين؟ أو أن توفر له العيش والاتصال مع غيره من كائنات ومخلوقات إذا ما انتقل لسكنى كواكب أخرى، بعيدا في مجرتنا التي تنتمي إليها مجموعتنا الشمسية؟
آفاق لنقلة حضارية
وفى مراحل أدنى من هذه المستويات الراقية نجد أشخاصا عاديين يتمتعون بواحدة أو أكثر من هذه الظواهر، والملاحظ أنه إذا كانت طاقتها تبرز عند بعض هؤلاء من عامة الناس نتيجة رياضات نفسية أو روحية، فإنها تظهر تلقائية عند آخرين، بل إن بعض الدراسات قد عثرت عليها في بيئات يغلب عليها التخلف العقلي النسبي، أو هي على الأقل تظهر "كمعجزات " تعويضية من جانب أشخاص تعجز أذهانهم عن بلوغ مستويات عادية من الذكاء أو المهارات، مثل بعض الأطفال الذين يمتازون بسرعة كمبيوترية مذهلة فى الحساب، دون أن تظهر عليهم أية آثار أخرى من النبوغ أو التفوق غير العادي، بل قد تبدو عليهم البلادة في متوسط الأنشطة الذهنية الأخرى.
مجمل القول أن الباراسيكولوجي يمكن أن تفتح للبشرية آفاقا واسعة من التقدم الحضاري ، ولو صح التثبت من انتساب ظواهرها للهوية الإنسانية العامة، وأمكن استثمار طاقتها لدى كل فرد وتوجيهها لصالح البشرية جمعاء، إذن لأصبحت الإمكانات الباراسيكولوجية تؤذن بنقلة حضارية جديدة تضارع نقلتي الزراعة والصناعة، بل تفوقهما في إبراز المكنون الروحي الحقيقي للإنسان الخليفي.
أحمد عادل / مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق