الاثنين، 27 مايو 2019

• النخلة الصامدة على مر التاريخ


الممتزجة بأخـلاقنا وتقاليدنا وقدرتنا الفائقة على الصمود
في التعريـف بأمـة العرب، انصب اهتمام علماء التـاريخ والاجتماع والجغرافيـا على الـدين واللغـة والتقـاليد، دون الانتبـاه الكافي للنخلة، هذه السامقة الشامخة المتأودة مـع النسيم المقـاومة للريح على شـواطـىء النيـل، ودجلـة والفرات والعـاصي، وعلى سواحـل البحرين والكويـت وعمان حتى المغرب وموريتانيا، ولا يخلو بلد عربي من غابة لها أو أجمة أو عـدة أفراد تتراقص بين الحقول وفي عمق الصحراوات...

شهدت النخلة بكـور العقل وتفاعل الأساطير مـع الخرافـات ومـولـد الأديان وحكمـة السماء واجتياح الطوفـان وظهور السجون والحدود والكتب والكتاتيب، لترى العيال وقـد جلسوا يتلقون العلوم على قفص مـن جريـد وتحت سقيفة من الفلق المنشق من سيقانها، ورغم تعدد الأنـواع من عائلة النخيل في الهند وجنوب آسيا والدنيا الجديدة "أمريكـا" وإسبانيـا وبعض مناطق وسـط وجنـوب إفريقيـا، إلا أن النخلة العربية متفردة في صفاتها وفي ثمارها، وحتى وقت قريـب لم يكن يخلو بيت- كوخا كان أو قصرا- من أثر في بنائه من أجزاء النخلة، ولأمة العرب درايـة في شق جـذوعها لتصبح أفـلاقا "جمع فلق" تعـالج في لماء وتجفف فترات طـويلـة حتى تكتسب صلابة ومناعة ضد السوس والحشرات لتصبح ركـائز وسقوفـا، كما يعالج الجريد ليصبـح سقفا قابلا للتحمل والضغوط، لكـن أمـر الجريد- دون أغصان بقيـة أشجار العـالم- تسلـل من أحقـاب إلى الأقفـاص والأسرة والمقـاعـد والكراسى والموائد، قرى الشواطىء الراقية الآن لا تزال تتعامل بشكل فني رقيق مع عناصر الجريد لخفته وقدرته على إذكاء نـوع من التشكيل الفني البديع، لكن السعف يتفرد وحـده ليصبـح صلبـانا يحملهـا المحتفلون في اعياد الأقباط يومي أحـد السعـف وسبـت النـور استحضارا لموعظة محاولة صلب النبي عيسى بـن مريـم تلك التي أجاءها المخاض إلى جـذع النخلة، والتي أكلت منها رطبا جنيا، عليهما الصلاة والسلام.
والرطب الجني- ذلك الذي لا مثيل لحلاوته وليونته وقدراته الشفائية- يقودنا إلى هذه الأنواع المتعددة من بلـح النخيل: اللين والخشن والأخضر والرطب والأصفر والأحمر واليابس والتمر والـرملي والعجـوة والأمهـات والزغلول، هي الثمرة الوحيدة التي تتعدد بتعدد النخيل وتعدد مناطق زراعته على غـير ما ألفنا من جميع النباتات التي قـد لا يزيد تعـدد أنواعها على أربعة في أكثر الحالات كالبرتقال مثلا، ويحصي ابن البيطار وأبـو زكـريا بـن العـوام وداود الأنطاكي في كتبهـم عن النباتات والعلاج بالأطايب والثمار ما قد يصل إلى ثـلاثمائة نوع مـن بلح النخيل، ومـع ذلـك فـإن النخلة تستعصي على التطعيـم أو التلقيـح مزجـا بينها وبين أي نبات آخر كـما حدث في البرتقال مثلا، ولذا فإن النخلة تظل شجرة أمينـة مخلصة لا تمنح نفسها إلا لذكر النخيل، وتجد ذكر النخيل واقفا وسط إناث النخل شامخا غليظ الرقبة وكأنه ديك وسط الدجاجات، وفي الحالات التي تشاء الظروف فيها أن يبقى هذا الذكـر وحيدا دون إناث فإنه لا يلبث أن يضطرب ويحتقن ويتجهم ويصبـح وكرا للثعابين والزنابير والغربان الضالة، وهو ما يصـف به الناس فاقد التواصـل مع الغير "يعيش فلقا ويموت فلقا "، وأصحاب المأثور من الطـب العـربي يعتبرون البلـح غذاء له قـدرتـه على تقوية جهاز المناعة ضد الأمراض، وخصوصا إذا ما تم تناوله مـع اللبن، ويؤثـر المسلمون عادة أن يفتتحوا إفطـار صوم يوم رمضان بالبلح: خالصا أو مخلوطا بالأشربة، ولا يزال كثيرون يعتبرونه خير زاد للسفر، وللـذهاب إلى المدارس، وخير مفتتـح لتكريـم ضيف، ولكن المثلبة الكبرى للنخلة كـانت في هذه الوقائع المؤلمة التي ربـط فيها الجبابرة بعـض الفقراء والمناوئين لهم في جذوعها وسقوهم الـويل حتى الهلاك، حدث هذا في عصر الوليد بن عبدالملك والحجاج ابن يوسف الثقفي، وفي عصور المماليـك والمداهمين ومحطمـي الأوطـان وذوي القـدرة على الاجتياح، قديما وحـديثا، حتى أن قـاذفـات اللهـب وحـامـلات الصواريخ لم توقفهـم عن ولعهـم بهذا الفعل في العصور الحديثة، لكن النخل سوف يظل نخلا، فيه كثـير من صفات هذه الأمة التـاريخية، يمتزج بـأخـلاقهـا وبأغـانيها وبسلوكها، ثم بقدرتها الفائقة على الصمود وا لاستمرار.
محمد مستجاب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق