الثلاثاء، 21 مايو 2019

• الدم حامل المتناقضات


هو هذا السحر الأرجواني الغامض، المنساب في العروق ناراً وعشقاً وهدوءاً وصدقاً ورغبة، وخادماً أمينا يحمل لكل أعضاء الجسد القوت والشراب، يتدفق من القلب في نبضات هي منبع بحور الشعر، ومصدر آهة الألم الكبرى، وطاقة السعي والدأب والعناد والاسترخاء والاسترحام والأشواق.

ومع ذلك فكثيرون يمكنهم الحياة دون أن يكون لديهم ذرة من الدم: المتطفلون والمتنطعون والغشاشون والجواسيس والخباصون والناكرون للجميل، وهؤلاء يختلفون عن ذوي الدم البارد مثل الحلاقين والضفادع وخدم الحانات وقاذفي القنابل والأسماك وكتبة النصوص الأدبية الرديئة أو المذكرات الشخصية التي تنال من شخصيات نظيفة، وحرّاس ثلاجات الموتى، وفاقدي الاتجاه الهائمين في محطات السكك الحديدية والمطارات والأمم المتحدة والبرك والمستنقعات والمتلاعبين فيما لا يصح التلاعب فيه، ويقابلهم ذوو الدم الحار الذين يلتهبون في المواقف حمقاً، أو كرامة، أو جهلاً، أو اختناقاً، ويقعون في منطقة الغرق بين ما يريدون وما يستطيعون، ونماذجهم من الكثرة والخطورة حتى أني أخشى أن أكون منهم مالكاً لدم صعيدي مصري عربي - ثلاث تركيبات مرعبة ومعقدة من الدم الأهوج الحار.!!
والدم في أجمل حالاته هو إشارة الطبيعة للأنثى منبهاً أنها وصلت إلى المنطقة الحرجة في تكويناتها، ثم.. وحين تتورد خدودها خفراً وحياء، وحين - فوق كل ذلك - يسيل الدم هادراً مدفئاً مولودها الصارخ خارج إطار سجن التسعة شهور الأولى مضمخاً بكل حنان الدنيا، وكأنه لم يكن وراء كل النار الدموية التي صنعت التاريخ والمواقع والتقدم والمشانق والفلسفة والطب والحروب والأوبئة، ولذا فإن الناس يتعاملون في لغة الدم متناقضين: بينك وبيني دم، أي ثأر لا علاج له إلا بالقتل، وبيني وبينك دم، أي علاقة قرابة وثيقة، في حين أن لغة الدم تعني سقوط لغة الدبلوماسية، وهي لغة عالمية مفهومة ومشروحة دروسها في فلسطين والصومال ودويلات يوغوسلافيا، وغير ذلك من دروس يلعق التاريخ في دمها دون أن يصل أحد إلى مرحلة الاتعاظ.
والدم أول المحرمات شرعاً قبل الميتة ولحم الخنزير، لكنه يظل أشهى ما يتغذى عليه الحقد، وأثمن ما تسبح فيه الجراثيم، وأخطر ما يمكن الطعن به في نقاء أصل صاحبه، ودم الغزال أجمل ما يمكن به وصف كعب فتاة كاعب، والتي تتأود صابغة بالحناء قدميها، ودم التمساح استخدم فترة لإصلاح أمور العشق بعد عوائق الزواج، وتأكل بعض الجماعات التي تعيش على الفطرة الكبد الدافئة الطازجة بديلا عن عادة مذمومة ومحرمة كانوا يتوسلون بها للحصول على الشجاعة المبكرة من شرب الدم. وقد ظلت دورة الدم في الجسم غامضة حتى كشف عنها ابن النفيس المصري (ت 1288 م)، لكن الغربيين يسقطونه من تاريخ التشريح ليحل مكانه مايكل سرفتوس الإسباني الذي مات محترقا على الخازوق عام 1553 م حتى لا تنسكب منه قطرة دم واحدة، ويردفون عليه وليم هارفي المتوفى عام 1657م
والعدو الأكبر للدم: الكذب والغرام والخداع، يضطرب بسببهما اضطرابا كبيراً، ونقص أو ارتفاع السكر، وازدياد البولينا، والمفاجآت غير المتوقعة في الأموال والإنجاب والخيانة والسكاكين والطعن من الخلف - بالكلام أو بالحراب- وتفسده السيولة الشديدة أو الكثافة الشديدة، لكنه يعود إلى طبيعته حينما يهدأ على وقع ابتسامة متألقة، أو نص أدبي ساحر، أو منظر غروب الشمس تسعى لآخر خطوط الأفق، أو مستقبلة في الصباح أول خطوط الأمل.
محمد مستجاب مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق