الاثنين، 27 مايو 2019

• الحقيقة المرة... والكذبة الحلوة


العالم فريقان، واحد تعجبه الكذبة الحلوة ويفضلها على المرة ولو كانت الحقيقة نفسها، وآخر يحب الحقيقة حتى الموت، وليس بالضرورة موته بقدر ما هو موت الآخرين (!) يعني أنه يفضل الحقيقة، وسماع الحقيقة ولو كانت علقما.

وكنت أعتقد أن "الشرقي" وحـده بخياله الجامح وعالمه المسحـور وقدراته الخارقة على "فك رقبة" الحقيقة، هو من فريق تشجيع الكذبة الحلوة، خاصة في السياسة، عندما يصرخ الزعيم بالقوم "كل الحقيقة للجماهير" فيهتف له القوم مؤيدين مع معرفتهم التامة بأن ما يقصده هو "كل الحقيقـة للجماهير، أما كل السلطة فهي.. لي". كانت تلك قناعتي إلى أن قرأت دراسة ممتعـة عن دار نشر في بريطانيا تحمل اسم "ميلز ويوت" تبيع سنويا 200 مليون نسخة من الكتب التي تصدرها.
وهذه الكتب التي تباع مستعملة أيضا - بمعنى أن القراء يزيدون على الـ 200 مليون سنويا - تقتصر على روايات الحب الخيالية، وهو الشرط الذي تطرحه الدار ليأخـذ العمل طريقه إلى النشر.. أما لماذا تصر الدار على أن يكون هذا الحب "خياليا" فالسبب - كـما تقول إحـدى القارئات المدمنات - لأن نصف حالات الزواج تنتهي بالزوجين إلى الطلاق، أما النصف الثاني فينتهي إلى الخيـانة، إذن عن أي حب تتحـدث؟ من هنـا فإن دار النشر قررت أن تبيع الناس الكذبة الحلوة لأنهم يفضلونها على الحقيقة المرة، ونجحت إلى حد هائل. وللكذبة الحلوة شروط أولها أن تنتهي الرواية نهاية سعيـدة كـما في كل الأفلام الهندية والمصرية، أي بعد أن يعيش البطل والبطلة أهوال الغواية وأخطار الفراق يعـودان فيلتقيان ليعيشا إلى الأبد معا، وثاني هذه الشروط أن تأتي القصة مروية على لسان "البطلة" وليس البطل، وهذه البطلة غالبا ضئيلة غارقة في المشاكل، مغلوبة على أمرها، غير أنها عندما تواجه الفارس الأسمر (هو أسمر غالبا - طلياني، إسباني مثلا) فإنها تتمكن من ترويضه وتعليمه كيف يصير "فتى أحلامها"، ومع أن حبل الكذب قصير كما يقال إلا أنه في روايات دار النشر المذكورة فإنـه أطول من جدار الصين.
هنا تتدخل السلطة الدينية، أي الكنيسة، رغم أنها في الواقع لا تملك أية سلطة، فيعلن أسقف "يورك" أن دار النشر لا تحترم الحياة المسيحية الحقة لأنها تخلق لدى الناس الكثير من الأوهام، فهم عندما يتزوجون استنادا إلى هذه الروايات يحسبون أنهم يدخلون الجنة، بينما الحقيقة أن هذا القدر من السعادة نادر ولا يأتي من أول نظرة. أطباء علم النفس يختلفون عن الكنيسة في هـذا التوجه، ويقول أحـدهم: "صحيح أن هذه الروايات الخيالية تعطي جـرعة كبيرة من السعادة الوهمية إلى القارئ، غير أن هذا هو الجانـب السلبي فقط، أما الإيجابي فهو أن كثيرين من القراء سوف يبذلون جهدهم كله للـوصول إلى هذه السعادة الخيالية، وربما ينجحون في الحصول أخـيرا على جزء كبير منها، إنها تمنحهم الحلم ومن دونه ليس هناك حب".
وأعتقد أنه بعيدا عن منصات الشهود في المحاكم فإن كثيرين منا يفضلون أن يعبوا من كأس الكذبة الحلوة حتى الثمالة، ورحم الله سقراط الذي شرب كأسه وسقط صريعا من أجل الحقيقة، بينما ما زال تلميذه أفلاطون يعيش حتى اليوم في خيالنا الذي ساهم في صنعه.
أنور الياسين




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق