الأربعاء، 29 مايو 2019

• الفيل الذلول الفاشل الثمين


الفيل الذلول الطيب الفاشل تاريخيا ذو الأنياب الثمينة فنيا
الفيل حالة من الوداعة الضخمة الرقيقة، انسابت منذ العصور القديمة حتى وصلت إلى عصرنا المضطرب، يثير في النفس قدرا مذهلا من الاطمئنان حتى ولو شابت سيرته أحداث عنيفة دموية وغاضبة، ويكاد يكون الفيل هو الحيوان الوحيد الذي ظل مرتبطا بالدنيا القديمة - وسط إفريقيا وشبه القارة الهندية - دون أن يكون له مماثل أمريكي أو استرالي.

وأثمن ما في الفيل - قبل الأخلاق - أنيابه، المصدر الوحيد للعاج، تلك الأنياب الطويلة المشرعة المهيأة للفتك والبقر والاجتياح والتدمير، لكنها تسامت وتشكلت أصابع بيانو، وكرات بلياردو ومقابض عكازات أنيقة، ثم مادة ممتازة وطيعة، لإبداع منمنمات الصور الصغيرة والأيقونات والتركيبات الدقيقة البارعة في اللوحات الثمنية، ثم شاع أكثر ليصبح أجزاء فاخرة في أريكة عرش الملوك وذوي السطوة وزخارف مذابح المعابد في جميع الأديان، ثم مقابض الخناجر ومؤخرات البنادق والمسدسات ذات الحظوة عند أصحابها من أساطين الصيد والراغبين في الاقتناء، حيث تكاد كل الحضارات القديمة تكون قد تركت آثارا عديدة من فنون العاج: مصر وآشور وبابل واليونان والرومان والهند والصين واليابان وقبائل اليمن.
ولعل الفيل هو الحالة التاريخية الوحيدة غير الموفقة: الطير الأبابيل قطعت عليه الطريق حفاظا على الكعبة المشرفة أيام أبرهة الأشرم، وخطط قادة الرومان حالت دونه ومداهمة روما المستهدفة من القائد الإفريقي العظيم هانيبال. ومن المؤكد أن ثمة مواقع تاريخية أخرى فشل فيها الفيل لم يهتم بها التاريخ، لكنه - حين ننزع عنه عدم كفاءته الحربية - نراه حيوانا رصينا هادئا يستجيب لمرح الطفولة، وعبث الصبية، له قدراته الفائقة على تحمل سخف البشر وصلافتهم، دون أن ينسى حقه في الانتقام - تماما مثل الجمل - وإن كان الجمل لا يتحمل الهذر أصلا.
ويقتسم الفيل كثيرا من موروث الحكايات القديمة والحديثة المنشأة للأطفال، في الصبر والذكاء والوفاء وحسن الإدراك والثأر والانتقام، وهي القيم والمبادئ التي بدأ الإنسان العصري يتناساها، سواء بسبب ضجيج العصر الذي حطم إرادة الفرد، أو لأن الفيل ذاته دخل مرحلة الانقراض لتقوم المحميات بالحفاظ على أفراده الباقية في غابات وسط إفريقيا أو جنوب آسيا، أو في حدائق الحيوان المنتشرة في كل العواصم، وبعض القصور النادرة لمهراجات الهند التي ورثت عصور الإقطاع المندثر، وتحت خيام السيرك، حيث يحتفظ الفيل بألعاب السيرك بقدرته الفذة على إثارة الدهشة، وتفجير إعجاب المشاهدين من شتى المستويات ومختلف الأعمار.
ومنظر الفيل - رغم اسوداده - يثير البهجة، وقد زينته الهند وجملته، وأقامت له المهرجانات، واستخدمته في الأفراح والاحتفال بالمناسبة القومية والشخصية والدينية، ثم في إنتاجها السينمائي الضخم حيث حمل لواء الإبهار في ثورته واجتياحه، وفي رصانته وامتثاله، بصفته حيوانها القومي المتغلغل في أعماق تاريخها، وهو ما فشلت فيه الأمم الأخرى - ذات الفيل، أو ذات الخرتيت، أو أي حيوان عظيم آخر.
محمد مستجاب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق