الثلاثاء، 28 مايو 2019

• عمر أبوريشة والذكريات سيمفونية العشق والإبداع


 
إن عمر أبا ريشة الدبلوماسي لم يكن سفيرا لبلده في دول شتى فحسب، بل كان سفيرا للكلمة العربية الشاعرة، الملهمة، التي قدر لها أن تمرع على شفتيه، كما ولا أروع، لتزهى به سورية، معتزة بأن ممثلها في هذا البلد أو ذاك، هو قمة باذخة في الشعر العربي المعاصر.
كنت أشارف العشرين من عمري حين التقيته، في أوائل الأربعينيات، في مقهى "البرازيل" بدمشق، وكان يرتاده بعض الكتاب والشعراء، وتنعقد حول طاولاته - على ضيق رقعته - حلقات شتى، تتشقق فيها مختلف الأحاديث والتعليقات الأدبية اللاذعة، الطريفة، ولفت نظري حين أطل، قامته الفارعة وجمال هندامه ومحياه المؤنس، وعيناه الشهلاوان المؤطرتان بنظارة أنيقة مذهبة، تنسرب من زجاجها الصافي نظرات تقطر رقة وعذوبة، وتنساق من شهد عينيه، شفافة واهبة لمن يروق له أن يتذوق ملاوتها بعض أسرارها الخفية.
وعرفته بنفسي، حين اتخذ مجلسه، قريبا من الطاولة التي تحمل فنجان قهوتي، ولمحت على شفتيه بوادر ابتسامة تتمم بعض معاني نظراته المترقرقة، ومثُل في وهمي، فيما كنت أرنو إلى عينيه الصافيتين كالسماء أنهما تضمان شيات من الزرقة الناعمة، التي قد تفسر عشقه لمراقي السماء المنسرحة أمام ناظريه، وبدا لي أن النظارة الأنيقة المترفة الجاثمة أمام عينيه أكثر زهوا وتيها بذوب النظرات المتحدرة من رفيف جفونه وأكثر ألقا من بريق ذراعيها المذهبتين، قال لي: "قرأت بعض ما نشرت في صحيفة "الصباح" فأعجبني، هات ما عندك مما نظمت مؤخرا".
أجبت: "لا أجرؤ على أن أبسط بضاعتي المتواضعة، أمام سيد الكلمة الشاعرة".
واتسعت على شفتيه ابتسامته المرحبة، الودود، وقال: "لا عليك، هات ما عندك".
وخيّل إليّ في مسنح لحظة خاطفة، أنني أجوز امتحانا عسيرا، أمام معلم متشدد صعب المراس، وانجـاب ترددي أمام ابتسامته المتواطئة مع قلبه السمح، الحنون، وأنشدته بعض ما قرزمت آنذاك من أبيات ادخرتها ذاكرتي، وقال لي رحمه الله: "تعجبني صورك، وحسن انتقائك للكلمة، أنت بلا ريب شاعر، وسيكون لك شأن ذات يوم".
الحياة بدون شعر مستحيلة
وترادفت الأعوام، وكلماته المشجعة الحلوة، تظل ماثلة في خاطري، وفي ذات يوم صائف من عام 1949 - وكنت أعمل آنذاك سكرتيرا بسفارتنا ببرن "سويسرا"- أطل عليّ عمر أبوريشة بقامته المشيقة كأنها الرمح السمهري، ونظراته تنثال من عينيه مسربلة بخلجات قلبه الطاهر، ليصيب المتطلع إليها ناعما بنقلاتها الحانية، شهدها السائغ الشهي، ولم أكتم فرحتي الصادقة بلقائه، وكانت تصحبه زوجته الكريمة السيدة منيرة مراد، "كانا في طريقهما إلى البرازيل، رئيسا لبعثتنا في عاصمتها"، والتقينا يومذاك حول مائدة الصديق الدكتور عمر الجابري، القائم بأعمال سفارتنا ببرن، رحمه الله، الذي دعا عمر وزوجته، كما دعاني إلى الغداء، وسألني عمر: "علام لم أعد أقرأ لك في مجلة الأديب اللبنانية، كما ألفت أن أقرأ فيها دوما نتاجك الشعري؟".
وأجبت: "مشاغل العمل، وعكوفي على أطروحة الدكتوراة التي أعدها عن قضية فلسطين، هو ما يثنيني حاليا عن النظم، ولعلي أن أعود إلى جنة الشعر فور الانتهاء من تقديم أطروحتي للمناقشة في كلية الحقوق بباريس، في العام القادم، إن شاء الله".
وأذكر أن زوجته السيدة منيرة قالت لي: "كيف تستطيع أنت الشاعر أن تعيش من دون الشعر"، قالت ذلك لأنها تعرف بلا ريب أن زوجها، هذه القمة الشامخة في الشعر العربي المعاصر، لا يستطيع أن يلهث، بله أن يسيغ الحياة من دون الشعر، ولم أحر جوابا على سؤالها، متواريا بابتسامة خجلى خلف صمتي الحائر، ولما انتهى الغداء قال لي عمر: "دعنا نتجول وحدنا لأطّلع على بعض معالم برن"، فزرنا متحفها الشرقي، ثم عجنا إلى مقهى قديم، يعود طراز بنائه إلى أكثر من ثلاثة قرون ويرتاده بعض الفنانين والكتاب والشعراء، لما يسبغه جوه الظليل من حميمية وألفة، وأفضينا إلى طاولة لنحتسي القهوة، فأجال عمر عينيه في فضاء المقهى، نافضا بنظراته المستطلعة جنباته الرحيبة، تجثم فيها عتمة مؤنسة، وقال لي بلهجة واثقة: "لقد شاهدت هذه القاعة نفسها من قبل".
وسألته مستوضحا: "وهل زرت مدينة برن من قبل؟"
فأجاب: "لا، ولكنني أشعر بأنني رأيت هذه القاعة نفسها، إنه شعور غريب مفاجىء، جاذبني وحل في كياني الآن متقمصا روح إنسان عاش في هذا البناء منذ أقيم، وأنا أستعير في هذه اللحظة نظراته التي صافحت هذا المكان، وعاشت تحت سقفه وظلت حبيسة كامنة في طيات ذاكرتي، الملتئمة مع ذاكرة هذا الإنسان منذ قرون".
وتبسمت مستظرفا كلماته، وقلت في ذات نفسي: "هذه إحدى شطحات عمر الصوفية، القريبة من مناهل الشعر"، أذكر هذا الآن، مقدّرا أن هذه الشطحات ربما تحدرت إليه من أمه خيرات الله اليشرطية، وكانت رحمها الله معروفة بتقواها ونزعتها الصوفية.
وقال لي عمر: "أسمعني يا بديع، آخر ما نظمت".
أجبت: "لقد نظمت منذ ثلاثة أعوام قصيدة، خرجت بها عن المألوف في تقسيم البيت إلى صدر وعجز، ولا أجـرؤ على أن أرددها أمامك، إلا إذا سمحت، فهي مما يدعوه الفرنسيون بالشعر الحر، وتتكىء القصيدة برمتها على التفعيلة وحدها، إنها تجربة جديدة أتمنى أن تظفر بإعجابك".
وقرأت له مقاطع من قصيدة "خريف غابة بولونيا " التي عدتها الشاعرة نازك الملائكة فى كتابها "قضايا الشعر المعاصر" أولى إرهاصات الشعر الحر المعاصر، قبل أن تمضي هي مع بدر شاكر السياب رحمه الله في هذا المنحى المجدد.
وقال لي عمر إما فرغت من قراءتها: "إنها جميلة بصورها وموسيقاها، بيد أنني أصارحك بأنني لا أحب- على الرغم من حماستي للتجديد في صياغة القصيد - أن أحدث شرخا في بناء القصيدة العربية الأصيلة، وقد جربت أنا لونا من الخروج على نمطية الأشطر المتساوية في تفعيلاتها، بقصيدة واحدة نظمتها منذ أمد قريب، ولكنني لم أعد قط إلى مزالق هذه التجربة".
وتلا عمر مقاطع منها، استبقت ذاكرتي منها صورة عينين وحشيتين، فلعلها قصيدة الخزان الأكبر التي يستهلها بهذا البيت:
عيناك سوداوان وحشيتان
أقرأ في طرفيهما عمري
وهي قصيدة من مجزوء الكامل، ربما تندرج في سياق الشعر الحر، في أشطرها المتفاوتة في عدد تفعيلاتها، ويتجاوب في أبياتها أيضا منحى عمر في الاعتقاد بالتقمص.
طاغور بالعربية
ويغادرنا عمر وزوجته إلى البرازيل، بيد أن طيفه الحبيب ظل يغازل ذاكرتي دوما، ولما شرعت بنقل آثار الشاعر الهندي العظيم طاغور إلى العربية، كان عمر سفيرا لسورية في نيودلهي، وكنت آنذاك مديرا للشئون الإدارية بوزارة الخارجية، فبعثت إليه بنسخة من ترجمتي لديوان طاغور: جيتنجالي، وبعث إلي برسالة رقيقة ذكر لي فيها "إنه ينبغي لمن يتصدى لترجمة طاغور إلى العربية، أن يكون شاعرا ملهما، يعرف كيف ينتقي اللفظة الملائمة بموسيقاها وحلاوة جرسها، لقد ظفر طاغور أخيرا بالشاعر العربي الذي يعرف كيف يؤدي معانيه إلى لغتنا، وأرجو أن تبعث إلي ضمن الحقيبة الدبلوماسية بنسختين من هذا الديوان، لأقدم نسخة هدية إلى الرئيس "جواهر لال نهرو" ونسخة ثانية إلى العلامة أبي الكلام أزاد.."
وبعثت إليه فورا بما طلب، وتلقيت بعد أمد قصير من كلا الرجلين العظيمين كتابين رقيقين، يشكران لي هديتي التي وجدا فيها إسهاما طيبا في توطيد العلاقات الثقافية ما بين الهند وسورية.
وقد تابعت نقل آثار طاغور في الشعر والمسرح إلى العربية حتى استوفيت سبعة منها، ضمن روائعه الخالدة وكنت أزوّد عمر بنسخة من كل كتاب، حيث كان في دمشق أو في البلد الذي كان يعمل فيه سفيرا لبلده.
وظللت أجتمـع إلى عمر، كلما سنحت المصادفة الحلوة بأن نلتقي في سهرات جمة ضمتنا معا، في دمشق، كان آخرها دعوة عشاء أقامها السفير الهندي بدمشق، بمناسبة الزيارة التي قامت بها لسورية رئيسة اللجنة الخارجية في مجلس النواب الهندي السيدة نجمة هبة الله "التي هي ابنة أخ العلامة أبي الكلام آزاد رحمه الله" وقد لمست فرحة السيدة هبة الله بلقاء شاعرنا الكبير صديق عمها العزيز، وقد أصغيت إلى حديثهما يتفطر شئونا وشجونا، حول ذكرياته الرفافة في الهند.
كان هذا اللقاء آخر لقاء يجمعنا معا، فلم أكن أعلم ما يخبئه الغيب له، فقد استأثره الله إلى جواره بعد أشهر قلائل، إثر نزف مفاجىء في دماغه، في السعودية، ولما تأدى إليّ الخبر الفاجع هصر الألم قلبي وغامت عيناي بالدموع حزنا وحسرة على آخر عمالقة الشعر العربي المعاصر.
الشجرة والدموع
من بين الذكريات الحلوة الموصولة بعمر رحمه الله، أذكر أنني دعيت في منتصف الستينيات من قبل جمعية أدبية لإلقاء كلمة، بمناسبة عيد الأم، فطاب لي أن أتحدث عن شجرة نارنج كانت أمي رحمها الله قد غرستها في ميعة صباها في حديقة دارنا بسوق ساروجه، وتفيأت طفولتي ظلال تلك الشجرة الغالية.
وقبل موعد المحاضرة التي كان مهيأ لها بأن تلقى في المركز الثقافي بشارع أبي رمانة، اتخذت سمتي من بيتي متمهلا، على عذار الطريق المفضية إلى المركز، ومن مسافة بعيدة لمحت القامة المشيقة تتضح شيئا فشيئا، لأستبين محيا عمر تغزل فيه عيناه الباسمتان نظراتهما المتقطرة شهدا حلالا، وقبّلني وقبّلته، ثم استوضحني عن أحوالي، ولم أشأ أن أذكر له أنني بسبيل إلقاء محاضرة بعد ربع ساعة، فقد كان يسير في الاتجاه المعاكس لمكان المركز وبدا لي أنه ربما كان يسعى إلى زيارة صديق، فليس من المناسب أن أحرجه بالدعوة إلى محاضرتي، على الرغم من رغبتى المتقدة في أن يكون عمر بين جمهور المستمعين إلي، واتخذت مجلسي في المكان المهيأ لي، ولما دعيت لإلقاء كلمتي أجلت طرفي في جمهور المستمعين إليّ، فاقتنصت نظرتي فجأة طيف عمر يرامقني بابتسامة ماكرة مستظرفة، كأنها تفضي إليّ "هأنذا جئت للاستماع إليك من دون أن تدعوني"، وشعرت بهناءة غامرة تلفع قلبي، ومضيت في قراءتي، حتى شارفت المشهد الذي جلوت فيه كيف اتفق لي أن أمضي إلى بيتى القديم لأرامق الشجرة الغالية، فإذا أنا أرى إلى جانبها "مدحلة" معدنية تهم أن تجتث جذورها من التراب، ممهدة الطريق لشق شارع جديد، وكذلك الشاعر القديم الذي. كان يبكي ويستبكي طيوف الأحبة، المهومة فوق الطلل والنؤي ومساحب الخيام، خاطبت تلك المدحلة التي توشك أن تغتال الشجرة التي غرستها أمي، بقولي: "رحماك أيها الوحش المعدني، فإن جذور هذه الشجرة ما تزال موصولة بقلبي"، وغصت عيناي بالدموع فلم أزجرها وتركتها تنساق فوق وجنتي، وحانت مني التفاتة إلى عمر فإذا الشهد المنتضح من عينيه يسيل دمعا منحدرا على خديه.
لقد أبكيت إذن عمر، وجاذبتني آنئذ مشاعر غريبة، يناقض بعضها بعضا، شعور بفرحة طاغية أن كلماتي غمزت أوتار قلب عمر، فأبكيته، وشعور بالحزن أنه ما كان ينبغي لي أن أدخل الأسى إلى قلب عمر وأثير مواجعه.
عيون الشاعر
كانت عيناه العسليتان المتوامضتان النافذتين اللتين يطل منهما على العالم الرحب، المنفسح أمامه تنثال من وقبيهما نظراته، سمحة، ندية، لتصافح الطبيعة الجميلة، وقد تزينت وأخذت زخرفها البهي، أو تلامح المرأة الفاتنة، الماثلة أمامه غنوجا مدلة، ليدخر في ذاكرته الغضة وعقله الباطن - هذا الخزان الأكبر، كما يحب أن يصفه - كل الصور الخلابة التي يمكن أن تعكس رواء طبيعته أو مفاتن ملهمته وبريقها زاهية، ورفافة كاسيا كل صورة منها بثوبها المزركش، المحبر، الملائم لها من متغير ألفاظه وحروفه لتنتفض من مؤتلفها قصيدة لا أحلى ولا أجمل.
وكانت أذناه المرهفتان، الصافيتان المطل الآخر على عالمه الزاخر، الناضر، يستشيرهما إما راق لبناته المدللات- أعني ألفاظه الأثيرة - أن يتحلقنه، تياهات، ناعمات لينتقي من بينهن ما يستطيبه سمعه ويأنس إليه، ويغمزه بخلجة من قلبه، جاذبا إياه إلى قصيدته الشهية، مغريا إياه بأن يندغم بالصوة السانحة المتخطرة أمامه.
ولكل شاعر كما نعلم، ألفاظه المحببة التي ألف أن يفزع إليها، مشغوفا بها، مدلها، حتى ليمكن أن نزعم أن لكل شاعر قاموسه الخاص به من الألفاظ والحروف.
وكان يتفق لعمر أن يجد ثوبا ملائما من اللفظ، أجمل من الثوب الذي كان قد اختاره لمعناه من قبل، فيعمد إلى استبداله صاقلا، محككا، وهو شعور يلازم جل المبدعين، القلقين الذين ينشدون الكمال، وكذلك كان يستبدل من لفظ ورد في قصيدة ظهرت في طبعتها الأولى، لفظا آخر، ملبيا ما ينصح به القلب والأذن والعين، وتتجلى القصيدة في طبعة تالية أوفى بمطالب الذوق وأطايب النغم.
كانت عيناه إذن تعرفان، متآمرتين مع أذنيه الذواقتين وإحساسه المرهف كيف تقتنصان الصور الشعرية لتبذلاها في فيضها السخي، المعطاء، ليتراءى عمر أمهر صياد صور بين شعراء عصره.
وأزعم أن عمر لم يكن يكتفي ببصره وسمعه وقلبه، في اصطياد صوره الخلابة، الآسرة، بل كان يستشير حواسه الخمس كلها، متكئا إلى حاسته السادسة - إن صح أن لبعض الشعراء الملهمين ذوي المشاعر المرهفة المفرطة في حساسيتها، حاسة سادسة، لعلها أن تكون أصدق حواسه جميعا- فقد كان عمر يؤمن بأن بعض ما يصافح نظره من مناظر أو أشخاص، هو ظل لما كان قد شاهده ووعاه قبل قرون خلت، مؤمنا بالتقمص على نحو ما يؤمن به غلاة المتصوفة، وهو شعور خلص إليه من أمه رحمها الله وكانت امرأة تقية، متصوفة، ثم نما لديه بعد أن أمضى شطرا وافيا من حياته سفيرا لبلده في الهند ومستشعرا حينا آخر بأحداث تلهمه هذه الحاسة السادسة بأنها قادمة واقعة، لا ريب فيها.
وقد أفصح عن شعور التقمص المستمد من عقله الباطن، في قصيدته "الخزان الأكبر"، ذكر في مستهلها أنه رأى فتاة في مدريد، فشعر في لحظة خاطفة، أنه عاش مع عينيها الوحشيتين، في عصر من العصور الخوالي، وقذف عقله الباطن بالكلمات التالية: النيل، المعبد، الكهان، وسأل فتاته إن كان قد جاذبها مثل شعوره فظنته يهذي، وكذلك ترفقت سيمفونية صوره بهذه القصيدة، لتجلو عينيها الوحشيتين، بعد أن قرأ في إنساني عينيها عمره كله، ولمح في ألحاظها النيل محتضنا زمر الحسان والكهان، واستنشق الند والعنبر وسمع هزج الصنج والمزهر.
وترادفت تفعيلات القصيدة من مجزوء الكامل، على نحو مماثل للشعر الحر الذي كان يحكي بعض هذيان الشاعر أمام فتاته، منتفضا في تفعيلات ثلاث تارة، وفي تفعيلتين تارة، وفي تفعيلة واحدة حينا آخر، وكأني به هو الذي كان يحرص على بناء القصيدة العمودي، قد أسهم في تجربة الشعر الحر، من دون أن يدري منهيا قصيدته بهذا السؤال يتجه به إلى فتاته:
من أنت ردي على سؤالي؟
ولا تحدي مدى خيالي
أتنكريني وتعرفيني؟
وتسأليني وتمنعيني؟
ويح يقيني.
عندما يذوي الجمال
وكان لعمر في ثنايا سيمفونية صوره التي تعكس جمال المرأة، جولات مبتكرة، مستحدثة، وكان إلى هذا مولعا بتصوير الصبا المستحير، الذابل، مغلفا بالحسرة، دوما، لولا هذا الزمن المتبدل العابث، الذي لا يني يتحيف من الجمال الذاوي عاما بعد عام، فقد عرف ذات يوم امرأة كانت مثلا أعلى للجمال، ثم التقاها بعد عشر سنوات فإذا بجمالها يبدو أثرا بعد عين، وعاد إلى بيته فوقع طرفه على تمثال "فينوس" وغمغمت شفتاه، أسفا، متحسرا:
حسناء هذه دمية
منحوتة من مرمر
عريانة، سكر الخيـ
ـال، بعريها المتكبر
ومشـى بها إبـداع ناحتـ
ـها، الجمال العبقـري
فلا معدى لفتاته من أن تتحجر، حتى تحتفظ، كهذا التمثال، بجمالها، لتبقى مطمحا لعينه الرانية، هكذا قر إزميل عمر المبدع، مستمسكا بآخر صورة حلوة، ادخرتها ذاكرته من محيا فتاته فأوقف حركة جمالها، لئلا يغيض ويستحير بهذا البيت الرائع:
أخشى تموت رؤاي أن
تتغيري، فتحجّـري
بيد أن عيني عمر الرهيفتين اللتين تعرفان كيف توقفان حركة الجمال وتحجرانه لإرضاء حسه الجمالي، تعرفان نقيض ذلك، تعرفان كيف تبثان رعشة الحياة في الصخر الصلد، هكذا أتمثل عمر مجيلا عينيه الظامئتين، نشوان، في التماثيل المنحوتة من معبد "كاجوراو" في الهند، هذا المعبد- كما يقول عمر في مقدمته للقصيدة- يمثل الإنسان في شتى مجاليه، بين تساميه وتدنيه، في مئات من التماثيل المعبرة، بكل جرأة، عن الأهواء الجنسية الطبيعية، والشاذة والخيالية، وتبتدئ القصيدة بمطلع مذهل، يسأل فيه الشاعر هذا المعبد: من وهب الأمان لأخيه، هو أم الزمان، فكأن هذا المعبدالرائع ند للزمان في خلوده:
من منكما وهـبّ الأمان
لأخيه، أنت أم الزمانْ؟
شقيت على أعتابك الغـ
ـارات، وانتحرت هوانْ
وتمزقـت أملاكهـا
تاجا وفضت صولجانْ
وبقيت، وحدك فوق هـ
ـذا الصخر وقفة عنفوانْ
وكأني بالشاعر كان يود أن يكشف خلف الأحجار المليسة، تلك الأهواء الجامحة، الغامضة التي كانت تقود إزميل الفنان الملهم الذي تأتي له أن ينفضها ويخلفها بعده، ملتزمة آخر حركة كانت تعصف بذرات الحجر المتماسكة، كما لو أنه كان يخاطبه آمرا: تحرك، على نحو ما فعل المثال العبقري "ميكلانج" حين عصفت به نشوة إبداعه فخاطب تمثاله "موسى": تحرك، فكأن لهاث المثّال كان ينسم في هذا البيت:
وتكلمت أحجارك الصـ
ـماء، مشرقة البيان
هكذا تسلسلت كلمات عمر في قصيدته تجلو هذه التماثيل وهي تحكي الأهواء الجنسية الجريئة، ولكن.. من دون أن تمازجها كلمة نابية واحدة تجرح الحياء، لتنتفض القصيدة لوحة ناطقة، معبرة عن تماثيل توشك أن تتكلم، غاصة بالصور الموحية الأخاذة:
وغـوية ظمأى تفنـ
ـن في رضاها ظامئان
هاما بما اقتسما فكل
عند مورده استكان
هذا مطـاويها استطـا
ب، وذا نـوافـرهـا استـلان
ويجمح الخيال في استشفاف هذه الصـورة اللماحة، تتضمن دلالات غـائمة شتى، دون أن يبتـذل اللفظ في إيـمائه الخفي وإيحائه المستسر.
إلقاء نادر
ولم أجـد عمري كله شاعرا يخضوضر المنبر على كلماته مثلـه، كان يحفظ قصائده ويتلوها من الـذاكرة، مترنـما بها، منتشيـا، في إلقاء نـادر، سـاحـر، لم أجد من يـماثله أو يضارعه بين شعراء عصره، حتى ليطيب لي أن أقرنه في خـاطري، بـأدائه المتميز لقصائده، إلى محمـد عبدالوهاب، سيد الإبداع الموسيقي في هذا القرن، فيما كان يؤدي هـذا الفنان العبقري أغانيه بصوتـه الرخيم، ويترجع فيهـا، هازجـا بها، موشيا إيـاها بصبغـة ألحانه التي أبدعها من أجل صوته.
ولقد سمعت عمر ذات مرة يردد قصيدة "هكذا" لا على منبر، بل على سطيحة منزل، في مزرعة صديقي الدكتور أمين شريف رحمه الله، الـذي دعاني وعمر مع نخبة من الأصـدقاء في الأشرفيـة "وهي ضاحية من ضواحي دمشق"، وانساب صوت عمر خفيضا دافئا، كـما لو كان يغازل ضوء القمر الشفاف، السابغ، في ليلة ساجية من أحلى ليالي العمر، كـان هذا، منذ قرابة سبعة وثلاثين عاما، وما يزال صوت عمر- رحمه الله- يناسم سمعي، مذ سمعت صوته الحبيب، يردد هذه القصيدة في تلك الليلة الساجية، وكأن صداها ما يزال يسكن في ذاكرتي حتى الآن، بلى كان صوته يترفق خفيضا، دافئا مضفيا على الطبيعة المسربلة بضـوء القمر، سحره وألقه وحنانه.
وأذكر أن عمر قال لنا بعد أن أنشدنا قصيدته:
- إنني أسعى في كل ما أنظم من شعر، إلى أن أعتصر حروف كلماتي وأهتصرها حرفـا حرفـا، كـما يستصفي صانع العطر كل ما يكمن في أفواف الـوردة من شذا، لأريقه في رئة قصيدتي.
أجـل، لقـد تسنى لعمـر أن يستصفي في تلـك القصيـدة، كل ما يكمن في كلماتها القليلـة، المشذبة، المنتقاة، من عطر مكثـف، ليسطـع ويضوع، فـاغما في حناياها، كـما ولا أطيب، كـما ولا أعذب.
بديع حقي / مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق