الأربعاء، 29 مايو 2019

• الشمس لشاعر النيل حافظ إبراهيم


لا يكاد يذكر حافظ إبراهيم إلا ويذكر معه- أو قبله- أحمد شوقي، باعتبارهما الشاعرين اللذين شغلا الناس طيلة حياتهما وبعد رحيلهما في عام واحد هو عام 1932 وحتى اليوم، والجمهور الأدبي على اختلاف في تقدير الشاعرين، وتفضيل أحدهما على الآخر.

وقد يكون من المفيد أن نعرض لهذه السطور من كتاب "حافظ وشوقي " للدكتور طه حسين، عندما وجد أنه ليس من هذا الحكم بد: أيهما أشعر من صاحبه؟.
يقول طه حسين: "أما أنا فلا أستطيع أن أقول إن أحد الشاعرين خير من صاحبه على الإطلاق، ولكن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء، ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله، ولم يتقن ما أتقن حافظ من إحساس الألم وتصوير هذا الإحساس وشكوى الزمان.
لم يبلغ شوقي من هذا مبلغ حافظ، وهو بعد هذا أخصب من حافظ طبيعة، وأغنى منه مادة، وأنفذ منه بصيرة، وأسبق منه إلى المعاني، وأبرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين، لأن حافظا كان يقلد الألفاظ والصور، وكان شوقي يقلد فيهما وفي المعاني أيضا، ولشوقي فنون لم يحسنها حافظ وما كان يستطيع أن يحسنها.
شوقي شاعر الغناء غير مدافع، وشوقي شاعر الوصف غير مدافع، وشوقي منشئ الشعر التمثيلي في اللغة العربية.
يلتقي الرجلان في كثير، ويفترق الرجلان في كثير، ولكنهما علي كل حال أعظم المحدثين حظا في إقامة مجدنا الحديث "
والقصيدة التي نطالعها الآن بعنوان "الشمس "، نشرها حافظ إبراهيم لأول مرة في الخامس عشر من نوفمبر عام ألف وتسعمائة، وفيها يقول:
لاح منها حاجبٌ للناظرين
فنسوا بالليل وضاح الجبين
ومحت آيتها آيته
وتبدّت فتنة للعالمينْ
نظر إبراهام فيها نظرةً
فأرى الشك وما ضل اليقين
قال: ذا ربي، فلما أفلت
قال: إني لا أحب الآفلين
ودعا القوم إلى خالقها
وأتى القوم بسلطان مبين
رب إن الناس ضلوا وغووا
ورأوا في الشمس رأي الخاسرين
خشعت أبصارهم لما بدت
وإلى الأذقان خروا ساجدين
نظروا آيتها مبصرة
فعصوا فيها كلام المرسلين
نظروا بدر الدجى مرآتها
تتحلى فيه حينا بعد حين
ثم قالوا: كيف لا نعبدها
هل لها فيما ترى العين قرين؟
هي أم الأرض في نسبتها
هي أم الكون والكون جنين
هي أم النار والنور معا
هي أم الريح والماء المعين
هي طلع الروض نورا وجنى
هي نشر الورد، طيب الياسمين
هي موت وحياة للورى
وضلال وهدى للغابرين
صدقوا، لكنهم ما علموا
أنها خلقٌ سيبلى بالسنين
أإله لم ينزّه ذاته
عن كسوف، بئس زعم الجاهلين
إنما الشمس وما في آيها
من معان لمعت للعارفين
حكمة بالغة قد مثلت
قدرة الله لقومٍ عاقلين
تكشف القراءة الأولى لهذه القصيدة عن ثقافة حافظ إبراهيم القرآنية، وعن تمثله للآيات التي عرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام، وصراع الحيرة والتردد والتفكير بين الشك واليقين، وصولا إلى شاطئ الاستقرار عند الحكمة البالغة التي مثلت قدرة الله لقوم عاقلين.
واللغة الشعرية التي يفيض النص بها وعنها، لغة طيعة، تنساب في يسر وطواعية، من غير إعنات أو تكلف أو مشقة، وهي لغة تمثل الشباب الشعري لحافظ إبراهيم وهو على مشارف الثلاثين، كما تحمل درجة عالية من القدرة على التصوير، والافتنان في إيراد الصور الشعرية الدالة، خاصة حينما يصور الشمس قائلا:
هي أم الأرض في نسبتها
هي أم الكون، والكون جنين
والإشارة هنا في تعبير هي أم الأرض واضحة إلى ما يقال من أن الأرض كانت جزءا من الشمس، ثم انفصلت عنها وبرد ظاهرها بتطاول الزمن.
هي أم النار والنور معا
هي أم الريح والماء المعين
والماء المعين هو الماء النابع والمتدفق من العيون
هي طلع الروض نورا وجنى
هي نشر الورد، طيب الياسمين
ويستعير حافظ إبراهيم من لغة التعبير القرآني مفردات بيته الشعري:
قال: ذا ربي، فلما أفلت
قال: إني لا أحب الآفلين
أما السياق القرآني فقد جاء على هذه الصورة: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين(الأنعام/ 76).
والفعل: أفل، تدل مادته في العبرية والآرامية على معنى الظلام، وتدل مادته عند "ابن فارس " على أصلين: أحدهما الغيبة، والثاني الصغار من الإبل.
وتقول اللغة: أفل يأفل ويأفل أفلا وأفولا: غاب، يقال: أفل النجم وأفلت الشمس.
يقول البحتري:
قمرٌ أتبعْتهُ - من كلفٍ
نظر الصب به حتى أفل
ويقال: أفل نجم فلان: خاب سعيه، وساء حظه، وفي الأساس: فلان كعبه سافل ونجمه آفل.
وقال جرير يهجو:
ولقد خرجت من المدينة آفلا
خرع القناة مدنس الأثواب
وأفلت المرضع أفلا: ذهب لبنها.
ويقال: أفل نداه: ذهب خيره.
وأفل عن بلده، يأفل ويأفل أفلا وأفولا: غاب عنها.
وأفل اللقاح أو الحمل في الرحم: استقر في قراره، ويجمع آفل على أفل وأوافل.
قال البحتري يمدح المتوكل:
مسحوا أكفّهمو بكف خليفة
نجمت بدولته الحقوق الأفل
"نجمت: ظهرت "
والمؤفل: الضعيف، والمأفول: الناقص العقل.
يلفت النظر في قصيدة "الشمس " لحافظ إبراهيم أنها ليست القصيدة الوحيدة التي جاءت من هذا البحر الشعري: الرمل، ووزنه "فاعلاتن " ست مرات، ولا من هذا الروي: النون الساكنة في ختام الأبيات، فالوزن نفسه والقافية نفسها، نطالعهما في قصيدتين أخريين للشاعر، يقول في مطلع أولاهما:
فتية الصهباء خير الشاربين
جددوا بالله عهد الغائبين
ويقول في مطلع الثانية:
سورٌ عندي له مكتوبة
ودّ لو يسري بها الروح الأمين
والطريف أن حرف النون "الذي يقول عنه القدماء إنه حرف نواح " يحتل المرتبة الثالثة بين قوافي قصائد ديوان حافظ، بعد حرفي الباء والراء.
كما أن قصيدة "الشمس " التي جاءت قصيدة وصفية تأملية خالصة، لم يماثلها في ديوان حافظ إلا قصيدته الوصفية التأملية عن "البحر" والتي جعل عنوانها "الرحلة إلى إيطاليا"، وهي القصيدة التي يقول في مستهلها:
عاصفٌ يرتمي وبحرٌ يغير
أنا بالله منهما مستجير
وكأن الأمواج وهو توالي
محنقات، أشجان نفس تثور
أزبدت ثم جرجرت ثم ثارت
ثم فارت كما تفور القدور
لكن الشاعر في قصيدته الثانية لا يقنع بمجرد الحديث عن "البحر"، وإنما هو يخصص جزءا كبيرا من قصيدته للحديث عن إيطاليا وأهلها، وما يكمن تحت أرضها من براكين وزلازل.
لكن نزعة دينية روحية عميقة، تظل تجمع بين القصيدتين في سياق وجداني واحد عند الشاعر، وتجعلهما تصدران عن موقف المتأمل في مظاهر قدرة الله، وبديع صنعه في الكون والإنسان، وهي سمة لا تخطئها العين الفاحصة في شعر حافظ إبراهيم.
فاروق شوشة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق