الاثنين، 27 مايو 2019

• الصحافة والأدب


في إحدى مقابلاته المتسمة دائما بالجاذبية وذكاء اللمح وطزاجة الفكرة، عبّر الروائي الأشهر- في الربع الأخير من قرننا العشرين- جابرييل جارسيا ماركيث، عن رأيه في صحافة هذه الأيام، فقال إنها تدهورت لأنها ابتعدت عن الأدب، وثمة كثير من العارفين بأمر الصحافة، يدركون هذه الحقيقة بألم، ويستعيدون ذكريات الأيام الخوالي حين كانت الصحافة العربية تقودها أقلام الأدباء الكبار:

طه حسين، والعقاد، والمازني، وخليل مطران، ومحمد كرد علي، وبشارة الخوري، وسعيد عقل، وغيرهم.. لقد كانوا أدباء وصحفيين في الوقت ذاته، وكانت قراءتهم منحة من المتابعة المتألقة والمتعة، حتى في حقل الحروب السياسية التي كانوا جزءا منها ومعبّرين عنها.
"الأسلوب هو الرجل" عبارة شائعة، لكنها عندما تطبق على الأداء اللغوي للإنسان، سواء بمناهج النقد النفسي أو البنيوي، تكشف عن الأهمية القصوى للأسلوب كضرورة حيوية في التعبير وليست مجرد زخرفة وبلاغة خاوية، والتسطيح اللغوي الذي يسود الكتابة الصحفية، بزعم التبسيط، إنما هو تبرير كاذب لأداء قاصر في نوع من النشاط الإنساني يمارسه كثيرون ممن لم يخلقوا له، ولولا تلك "المطابخ" التي يعاد فيها طهي الركاكة لتكون أطباقا سريعة على موائد الصحف، لكانت الصورة أبشع. وفي محاولة من العربي لحصار أقصى ما يمكن من البشاعة، فإن ثمة اتفاقا بين أسرة تحرير المجلة، وكتّابها القريبين، على مفهوم أنها مجلة كُتّاب، وبمعنى آخر، مجلة تسعى إلى أصحاب الأقلام، ولا شك أن هذا طموح عسير المنال في المطلق، لكن شرف المحاولة يُلهم ويُنجز إلى حد ما.
كل هذه التصورات أحاطت بنا ونحن نهم بنشر مقالة الشاعر الدكتور بديع حقي عن الشاعر عمر أبي ريشة "سيمفونية العشق والإبداع"، فنحس بحنين ساحق إلى زمن مفقود، كانت الكلمة تحرص فيه على أن تكون ذات طعم وعبق، أن تمتُع وتُشبع، ومن ثم علينا أن نتشدد، فإذا كان العالم المعاصر آخذا في إدراك مخاطر العجلة الاستهلاكية على الحياة البشرية، فإن عالم الصحافة والنشر ينبغي أن يدرك كارثة التسارع الخاوي لعجلة صحافة تعجز عن التأدب.
وعندما نقرأ- بمتعة- مقالة دبلوماسي أديب عن دبلوماسي شاعر، نحس بعذوبة الذكرى وقد منحتها روح الأدب رحيقا واسع الانتشار، يتجاوز الذكرى إلى الرؤيا، ويحلق بفن السيرة في أجواء الجمال، ونعتقد أن هذا ما سوف تحس به- عزيزي القارىء- عند قراءتك لهذه المقطوعة، التي وإن كنا توقفنا أمامها للتذكرة، فإننا لم نكل عن السعي في الانتصار للأدب الغائب والمُرتجى عودته إلى فن الكتابة الصحفية، ولعلها ليست مصادفة أن تكون افتتاحية هذا العدد عن فن مهم من فنون الأدب هو "الرواية". وعلى الرغم من التنوع والتنقل بين حقول الثقافة، غايتنا، سواء كانت علما أم فنا أم اقتصادا أم سياسة أم تاريخا، نعدك- عزيزي القارىء- بأن يظل الطموح إلى الأسلوب في الكتابة- كضرورة حية للتوصيل والتأصيل- أفقا نرنو إليه ونسعى.
مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق