السبت، 11 مايو 2019

• شرح وتحليل خطبة الجهاد لـ"علي بن أبي طالب"


خطبة الجهاد هي الخطبة السابعة والعشرين من نهج البلاغة، وتعد من مشاهير خطب الإمام أمير المومنين علي بن ابي طالب (ع)، تحمل الطابع السياسي والاجتماعي والعقائدي، حيث يذكر فيها الامام علي (ع) فضل الجهاد في سبيل اللّه والدعوة اليه، وتخاذل اصحابه عن نصرة الدين...

علما ان الجهاد ركن من اركان الدين حيث يقول الباري سبحانه: ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (ال عمران ٢٤١) .
خطبة الجهاد
أمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وهُو لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ، وضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْأسْدَادِ3، وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وسِيمَ الْخَسْفَ ومُنِعَ النَّصَفَ.
أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَ اللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا5، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعَاثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَو أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً، عَجَباً واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، ويَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ، كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وأَعْقَبَتْ سَدَماً، قَاتَلَكُمُ اللهُ، لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، لِلَّهِ أَبُوهُمْ؛ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ.
مناسبة خطبة الجهاد
وعلة ذلك كما ذكرها صاحب الكامل (انه انتهى الى علي (ع) ان خيلا لمعاوية وردت الانبار فقتلوا عاملا له يقال له حسان بن حسان، فخرج مغضبا يجر ثوبه حتى اتى النخلية، واتبعه الناس، فرقى رباوة من الارض فحمد اللّه واثنى عليه، وصلى على نبيه (ص) ثم قال اما بعد فان الجهاد....).
هذا وان الحملة كانت عنيفة جدا كما اشار اليها ابن ابي الحديد نقلا عن كتاب الغارات (انه قال (الغامدي)، دعاني معاوية فقال: اني باعثك في جيش كثيف ذي اداة وجلاد، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فان وجدت بها جندا فاغر عليهم، والا فامض حتى تغير على الانبار، فان لم تجد بها جندا فأمض حتى توغل المدائن، ثم اقبل الي، واتق ان تقرب الكوفة، واعلم انك ان اغرت على اهل الانبار واهل المدائن فكانك اغرت على الكوفة ان هذه الغارات ياسفيان على اهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو الينا كل من خاف الدوائر (المصائب والشدائد)، فاقتل من لقيته ممن لس هو على مثل رايك، واخرب كل ما مررت به من القرى واحرب الاموار (اسلب) فان حرب الاموال شبيه بالقتل وهو اوجع للقلب...)
شرح خطبة الجهاد
قيل ان كلام الملوك ملوك الكلام، وبناء على هذا فان كلام المعصوم ما هو الا عصمة للكلام، فانك تجد في هذه الخطبة ان الحديث جاء مناسبا للمخاطبين، بلا لغو ولا ابهام، يصب في الضمائر الحية حميم الغضب ضد اعداء الدين، يذكر هم اولا بفضل الجهاد في سبيل اللّه والتمسك بسنة رسوله (ص)، والترغيب في الدخول الى الجنان، والجلوس عند الحور الحسان، ومن جانب آخر يحذهم نار جهنم وغضب الجبار، ثمَّ يحذرهم من الذال والاحتقار عند ترك الجهاد، وكان هذا العمل منه دؤوبا، يدعو هم ليلا ونهارا، سرا واعلانا، ثم بدا باستنهاض الهمم العالية للرجال، وترغيبهم للقتال، واثارة الحماسة في قلوب الجماهير، من قبل ان يستفحل الامر، وينقادوا لسيطرة الاجنبي، ولكن لا امر لمن لايطاع، حينئذ استصرخ ضمائرهم، وحاول ان يحرك الوجدان لديهم، وذلك لما ذكر المراة التي تعد ناموسا وعرضا للانسان العربي المسلم، وبين كيف تجاوز عليها الاعداء، وسلبوا منها الذهب من خلخال وسوار وقلادة وقرط وفي النهاية يبدي الامام علي (ع) اسفه الشديد بالموت لسماع هذه الاخبار الموحشة، وبهذه الجمل عساه ان يكتسب الاعوان وينفروا معه الى سوح القتال، ولكن للاسف الشديد، لقد ماتت الضمائر الحية، وخرست الالسن الناطقة، وكان الموت يرفرف على رؤوسهم، فرارا من الزحف، واخيرا دعى عليهم بقوله: قبحا لكم وترحا، وان ينحيهم اللّه عن الخير، ذاما لهم بقوله: قاتلكم اللّه لقد ملئتم قلبي قيحا (صديدا) وشحنتم (ملاتم) صدري غيظا(غضبا) وجرعتموني نغب (جرع) التهمام (الهم) انفاسا... فهو (ع) يذكر في خطابه هذا بعض المحن التي لاقاها من قبل الكوفيين.
النص والافكار في خطبة الجهاد
احتوت الخطبة على البحوث التالية: فضل الجهاد، الدعوة اليه، تخاذل الكوفيين عن نصرته، الرؤية المستقبلية، اظهار التحسر والتلف عليهم، التنفر منهم، واخيرا ذمهم.
العاطفة في خطبة الجهاد
نشير قليلا الى تجلي عنصر العاطفة في هذه الخطبة فنقول، اولا انه (ع) خاطب الوجدان، حيث خاطب الامام (ع) نفسه الكريمة والمستمعين قائلا: اني قد دعوتكم الي قتال هولاء القوم ليلا ونهار او...و...، فانك ترى من خلال الكلام، نفسه (ع) مطمئنة ارتياحا، لانه ادى الواجب الملقى على عاتقه بقوله : دعوتكم ليلا ونهارا... ولكن المستمعين اتخذوا التواكل والخذلان طريقا لهم كي لا يفلحوا ابدا، والحال هم المسؤولون امام هذا الخراب والدمار لانهم هم المستهدفون والمقصرون في اداء واجباتهم، ورضوا بالغزو وتمسكوا بالمعاذير الواهية.
ثانيا: تحريك المشاعر، فانه (ع) اثار الاحاسيس لدى المخاطبين عن طريق حب الوطن، حيث قال: وملكت عليكم الاوطان، فاحتلال الوطن من قبل الاعداء يثير الغضب عند الجمهور حتى يصل بهم الحال الى الاخذ بالثار من المعتدين، وكما يقول الرسول العظيم (ص): حب الوطن من الايمان، وكذلك آثار المشاعر عن طريق العرض، فانظر الى تدرجه في اثارة العاطفة لدى الجماهير الحاشدة، فانه (ع) ابتدا بذكر المراة المسلمة ثم المعاهدة، ثم تدرج في كلامه من سلب الحجل (الخلخال) في الاقدام وصعوده الى السوار في المعاصم (الايدي) والى القلادة في الجيد، واخيرا الى القرط في الاذان، فمع هذا التصاعد يتصاعد لهيب الحماسة والغيرة وتثار الحمية في النفوس وتشحنها حقدا وحنقا على العدو علما انه (ع) كان يعلم ما للمسلم من بذل نفسه وماله للحفاظ على سمعة المراة وعلى شرف الفتاة، فاذا هو يعنف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المراة التي استباح العدو حماها ثم انصرفوا امنين من دون مقاومة وكذلك اثار مشاعر الجمهور عن طريق اثارة الشعور الديني، حيث يقول (ع) فياعجبا عجبا، واللّه يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم... صرتم غرضا (هدفا) يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، تغزون ولا تغزون، ويعصى اللّه وترضون، فكل من التفرق عند الدين الحق، وعصيان الرب و...و... احاسيس ومشاعر دينية صادقة تفجر بركان الغضب عند المسلمين ضد اعدائهم وكذلك نراه (ع) اثار الشعور عند الجمهور عن طريق الخوف: فقد استولى الخوف على نفوس الكوفيين حيث يقول: فانتم واللّه من السيف افر،وليست المسالة مسالة الصيف والشتاء، والحر والبرد، وانما هو الخوف من العدو ويستمر في اثارة العواطف عند الناس عن طريق صدق العاطفة، حيث يقسم باللّه العظيم قائلا: فواللّه ما غزى قوم قط في عقر دارهم (وسطها) الا ذلوا، ثم تراه (ع) ينفعل مرارا خلال الخطبة، فيقول مخاطبا الناس: قاتلكم اللّه لقد ملاتم قلبي قيحا (صديدا) وشحنتم (ملاتم) صدري غيظا(غضبا) وجرعتموني نغب التهمام انفاسا.
واخيرا تبدو امارات الياس في كلامه حيث يقول: لوددت اني لم اراكم ولم اعرفكم معرفة (واللّه) جرت ندما واعقبت سدما(هما)، ويختم الخطاب في النهاية بالمثل المعروف: ولكن لا راي لمن لا يطاع، آيسا من الجمهور عارضا عنهم صفحا (ولاجرم ان صاحب الخلافة الكبرى اميرالمؤمنين عليه السلام قال هذه المقالة تحسرا عليهم من قلب ملاه حب وحنان، وعن يقين ان في الطاعة نجاتهم، وفي الخلاف هلاكهم، ولا يقول قائل هذا الكلام الا تحسرا على فوت الهدف الافضل بالعصيان، علما منه بالعافية المحسودة بالطاعة).
الخيال والبلاغة في خطبة الجهاد
في قوله (ع): لباس التقوى، وثوب الذل، استعارتان، ففي لباس التقوى، استعارة مكنية، شبه التقوى بانسان وحذف المشبه به وابقى بعض صفاته لتدل عليه، وهو لباس، على سبيل الاستعارة المكنية، وهكذا القول بالنسبة لقوله (ع): ثوب الذل. وفي قوله (ع): ليلا ونهارا، سرا واعلانا، مقابلة، وكذا في قوله (ع): يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، طباق سلب، وبين الحر والقر جناس ناقص، وفي عبارة: عجبا واللّه يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هولاء....صناعة بديعية تؤكد على القسم(٤) الذي فيه هجاء.
الاسلوب في خطبة الجهاد
اولاً: متأثر بالقران الكريم كما يلوح للناظر، وذلك اما عن طريق الاقتباس مباشرة كما في العبارات التالية:
1- قوله (ع): وهو لباس التقوى، مقتبس من قوله تعالى: قد انزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريشا ولباس التقوى(الاعراف/ ٦٢) .
2- قوله (ع): دعوتكم ليلا ونهارا وسرا واعلانا، مقتبس من قوله تعالى:رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا...ثم دعوتهم جهارا... واسررت لهم اسرارا(نوح/ ٤-٩) .
3- قوله (ع) وهذا اخو خامد، مقتبس من قوله تعالى: والى مدين اخاهم شعيبا (الاعراف/ ٨٥) واما الاقتباس الغير المباشر فتصوره الامثلة التالية:
1- قوله (ع): وديث بالصغار، مشابه لقوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا (البقرة/ ٢١٢) .
2- قوله (ع): وضرب على قلبه بالاسهاب، مشابه لقوله تعالى: طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (التوبة / ٨٧).
3- قوله (ع): واديل الحق منه، نظير قوله تعالى: قال قد اجيبت دعوتكما (يونس/ ٨٩) .
4- قوله (ع): وسيم الخسف،يشابه قوله تعالى: وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء(هود/ ٤٤) .
5- قوله (ع): ما غزي قوم قط، تشبه قوله تعالى: واذا قرى القران (الاعراف / ٤٢٠) ولها نظائر اخرى اعرضنا عنها صفحا خوف الاطالة.
الفصاحة في خطبة البلاغة
وهي من ابرز الصفات عند الامام علي (ع)، حيث قيل في شأن نهج البلاغة انّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق .
فأولا: الكلمات الفصيحة والبليغة جاءت مناسبة لمواقعها من هذه الخطبة، فادنى تغير في المحل او استخدام المرادف لاختلف المعنى ؛ فعلى سبيل المثال ناخذ كلمة (تواكلتم) في هذه الجملة (فتواكلتم وتخاذلتم...)، لو عوضت بكلمة (تعاجزتم)، لما ادت ذلك المعنى الملقاة على عاتق (تواكلتم)، فالكلمة الاولى فيها معنى الفرار من المسؤولية وهو غير معذور، والحال الكملة الثانية ترى العجز عذرا .
ثانيا: اتخاذ الجمل الانشانئة والخبرية منطلقا في الكلام، فتارة يميل الى الانشائية كقوله (ع): قلت لكم اغزهم (امرية) قبل ان يغزوكم؛ فواللّه (قسم) ماغزى قوم... واخرى يستعين بالخبرية كقوله (ع): فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الاوطان... فالتنوع هذا جاء حسب ما يقتضيه المعنى حيث يجعل القاريء يتمتع بالكلام ولا يمل الخطاب، وهذه الصبغة الحاكمة على ارجاء الخطبة.
موازنة:
من اجل الوقوف على الصياغة الادبية، ومن اجل بيان محاسن الخطبة الجهادية لعلي بن أبي طالب (ع)، نشير هنا الى مقايستين قام بهما ابن ابي الحديد في شرحه.
فالاولى: القران الكريم والامام علي (ع)، يقول ابن ابي الحديد: (فان شئت ان تزداد استبصارا، فانظر القران العزيز، واعلم ان الناس قد اتفقوا على انه في اعلى طبقات الفصاحة، وتامله تاملا شافيا، وانظر الى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التعقر والتعقيد والكلام الوحشي الغريب، وانظر الى كلام علي بن أبي طالب (ع) فانك تجده مشتقا من الفاظه، ومقتضبا من معانيه ومذاهبه ومحذوا به حذوه، ومسلوكا به في منهاجه، فهو وان لم يكن نظيرا ولا ندا، يصلح ان يقال انه ليس بعده كلام افصح منه ولا اجزل ولا اعلى ولا افخم ولا انبل الا ان يكون كلام ابن عمه عليه السلام، وهذا امر لا يعلمه الا من ثبت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس (العلماء) يصلح لانتقاد الجوهر، بل ولا لانتقاد الذهب، ولكل صناعة اله ولكل عمل رجال) .
واما الثانيه: الامام علي (ع) وابن نباتة: يقول ابن ابي الحديد (واعلم ان التحريض على الجهاد، والحض عليه قد قال فيه الناس فاكثروا، وكلهم اخذو من كلام امير المومنين (ع)، فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب: ايها الناس الى كم تسمعون الذكر فلا تعون، والى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون، كأن اسماعكم تمج ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ، وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده امله، وصرخ بهم الشيطان الى باطله  فاجابوه... فالجهاد الجهاد ايها الموقنون، والظفر الظفر ايها الصابرون، والجنة الجنة ايها الراغبون، والنار النار ايها الراهبون، فان الجهاد اثبت قواعد الايمان، واوسع ابواب الرضوان، وارفع درجات الايمان...
ثم يعلق ابن ابي الحديد قائلا: فانظر اليها والى خطبته (ع) بعين الانصاف، تجده اليها كمخنث بالنسبة الى فحل، او كسيف من رصاص بالاضافة الى سيف من حديد، وانظر ما عليها من اثر التوليد، وشين الكتلف وفجاجة كثير من الالفاظ، الا ترى الى فجاجة قوله: كأن اسماعكم تمج ودائع الوعظ، وكان قلوبكم بها استكبار عن الحفظ...
ومع هذا فهي مسروقة من كلام امير المؤمنين (ع)، الا ترى ان قوله (ع): اما بعد فان الجهاد باب من ابواب الجنة، قد سرقه ابن نباتة  فقال: فان الجهاد اثبت قواعد الايمان، وقوله (ع): من اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرقكم عن حقكم، سرقه ايضا فقال: صرخ بهم الشيطان الى باطله فاجابوه... قوله (ع): قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم... سرقه ايضا فقال: كم تسمعون الذكر فلا تعون، وتقرعون بالزجر فلا تقلعون، وقوله (ع): حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الاوطان، سرقه ايضا وقال: وعدوكم يعمل في دياركم عمله ويبلغ بتخلفكم عن جهاده امله....).
واخيرا كان من الطبيعي ان يغضب الامام علي (ع) في مثل هذا الموقف، فاذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من الغضب، فتاتي حارة شديدة مسجعة مقطعة ناقمة حيث يقول: فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى...
مقتبس من مجلة آفاق الحضارة الاسلامية العدد / ١٥





هناك 14 تعليقًا: