الأربعاء، 29 مايو 2019

• أقزام وعمالقة


ليست مصادفة أن تشهد بعض مناطق العالم من نطلق عليهم كلمة "العمالقة" .. وليست مصادفة أن نطلق على آخرين عبارة الأقزام.
صحيح أن هناك عوامل وراثية، ولكن ها هو تقرير أخـير للبنك الـدولي يقـول إن الطـول والقصر عنـد الإنسان، زيادة الوزن أو نقصانه. بل الحياة والموت، كل ذلك يتصل بالغـذاء، ووفـرته أو نقصه، فسـوء التغذية وراء الكثير مما نتحدث عنه.

والأرقام التي يذيعها تقرير "التنمية في العالم " لعام 93 أرقام صادمة .. فسوء التغذية يؤدي إلى نقص النمو في عمر معين، وينعكس على قصر القامة، و.. بالأرقام فإن أربعين في المائة مـن جميع الـذين بلغـت أعمارهم العامين في البلدان النامية قصار القامة!.
.. فإذا بحثنا أكثر عما أسماه البنك الدولي- استنادا لأرقام الصحـة العالمية- "توقف النمو" فإن الظاهرة تصيب 65% من سكان الهند و40% من سكان الصين وأفـريقيا جنوب الصحراء، كـما تصيب نصف سكـان آسيا "عدا الهند والصين ".
البداية: سوء تغذية..
ونهايـة المطـاف: قـامة أقصر، ووزن أقل في معظم الحالات، وقـد يبدو الطفل طبيعيـا، لكن الـواقع غير ذلك، فنقص التغذية غير مرادف للجـوع، والمظهر العادي للإنسان قد يخفي وراءه الكثـير.
هذه المواد الأساسية
والتقرير ليس درسا في الطب، لكنه درس في الفقر وإدارة الحكم، ومع ذلك فإنـه يحدد ماذا يعنيه بنقص التغذيـة .. إنه النقص في استهلاك المواد والأغـذية التي تحتوي على الـبروتين والطـاقة، كـما أنها مواد تنقصها ما يسمونها المغذيات الـدقيقة الرئيسية، اليود، الحديد، فيتامـن "أ".
ووفقا لمعايـير منظمـة الصحـة العالمية فإن "780" مليون نسمة في العالم يعانون من نقص في الطاقة..!.
فإذا انتقلنا إلى "المغـذيات الدقيقة" فإن أكثـر مظاهر الخلل فيهـا يتصل بالأغذية التي تحوي مادة الحديد، وهو خلل يقلل الإنتاجية الجسمانيـة، كـما يقلل قـدرة الأطفال على التعلم.
ويأتي تـاليا لذلك: نقص اليود والـذي يؤدي- كـما يقول التقرير- للتخلف الذهني، وتأخر النمو الحركي، وتوقف النمو بشكـل عام، كـما يـؤدي للاضطرابـات العصبية واضطرابات النطق والسمع، بل إنه يـؤدي لضعف الذكاء وهو ما حـاولت منظمة الصحة العالمية حصره بالأرقـام، فقـالت إن " 20 " مليون إنسـان في العالم متخلفين ذهنيا بسبب نقص اليود!.
و.. يمتد التشخيص لنقص فيتـامن "أ" والـذي يؤدي لفقـد البصر وانتشار الأمراض المعديـة، وكـما تقول الأرقام فإن نحـو " 14 " مليونا من الأطفـال يعـانـون من أمـراض في البصر بسبب نقص هـذا الفيتامين.
إنها أمراض سوء التغذية والتي تتصل بالمكونات الأربع : الطـا قـة والبروتين، الحديد، اليود، فيتـامين " أ ".
والأثر واضح في مناطق معينـة من العـالم، وفي أعمار محددة هي سن النمو.. بـما يجعل الانعكاس أكثر على الأطفال.
ولكن.. هناك وضعا خاصا للمرأة.
إنها الأكثر معاناة وتعرضا لسوء التغذية.. نصيبها في الحياة أقل، وقـدرتها على البذل والتضحيـة أكبر، وفي نفس الوقت فإن أعباءها- المنزلية وغير المنزلية- هي الأكثر في بعض البلدان قياسا لما يؤديه الرجل.
ما زال في أماكن كثيرة: الرجل أولا، وعندما يصل الرجل إلى مائدة الطعام، تنتظر زوجته حتى يفرغ من طعـامه، فتكـون هي الأخـيرة فيمن يحصلـون على الغذاء، وإذا كـانت في حالـة حمل أو رضـاعة فإنها تتكبد المشقتين: مشقة التغذيـة الأقل ومشقة تزويد الجنين أو الرضيع بحاجته من الغذاء.
تقرير البنك الـدولي يتوقف أمام هذه الظاهرة، صحة المرأة وعلاقتها بالتغـذية، ويقـول إن النساء- بدرجة أكثر من الرجال- معرضات للأنيميا الناتجة عن نقص الحديد .. ومعرضات لتوقف النمو بسبب نقص البروتين والطاقة واليود.
و.. بالأرقام يقول التقرير إن "238 " مليون رجل في العالم مصابون بأنيميا نقص الحديد.. وذلك مقابل "458 " مليـونـا من النسـاء.. أي أن النسبـة " 1: 2" تقـريبـا.. و.. نفس الشيء إذا تحدثنـا عن نقص البروتين والطـاقة فـالنساء أكثـر عرضـة له، ونسـاء جنـوب آسيا هن الحائزات لأعلى نسبـة في العـالم من فقر الدم ونقص المواد الغذائية الرئيسية، بل إن 88% من النساء الحومل في الهند يعانـين عادة من فقر الدم.. ونتيجة لذلك يعانين من خطـر النزف عند الولادة.. والنسبـة "88% مقـابـل 15% " فقط في الـدول ذات الاقتصاديات المستقرة "الصناعية المتقدمة".
الفقر أولا
هذه النتائج الصحية، كـما قلت، لم تأت مصـادفة، ليست مصادفـة أن يكون الياباني قصير القـامة، ومع الجهود القومية والحكومية يزداد الياباني طولا فيعالج خللا تاريخيا.
وليست مصادفة أن يكون الأمريكي طويل القامة فهو الأكثر تمتعا بمواد الطاقة والـبروتين.
وفي بحوث ميزانية الأسرة يحتل الغذاء نسبة عالية من الإنفاق العائلي في العـادة .. فإذا قل الدخل نقص الغذاء.. وإذا زاد الدخل استكملت الأسرة حاجتها الغذائية ثم اتجهت لأوجه إنفاق أخرى.
لذا،. فإن علاج ما نتحدث عنـه هو التخلص من الفقر.. مستوى معيشي أفضل.. غذاء متكـامل، و.. إدارة سياسية أفضل.
المطلـوب، زيادة دخل الفقراء حتى يحصلـوا على الخبز واللحم واللبن.. ولكن، وفي نفـس الوقت فإن وعيـا أكثـر قـد يصحح جـزءا من المعادلـة، فسـوء التغذية ليس مرادفـا لنقص الغذاء، لكنه- وفي بعض الأحـوال- يكون مرادفـا لقلـة الـوعي بـما نأكل أو نشرب.
السؤال: هل توقفت حكومات العالم الثالث أمام هذه الأرقام؟.. هل توقفت أمام الخريطة الصحية في كل بلد ومدينـة وقرية، وسألت: ماذا يأكل هؤلاء الناس.. وكيف يعيشون؟.
أشك أن هنـاك اهتماما تفصيليـا على هذا النحـو، وأشك أن الجهود كافيـة للخروج من دائرة الفقر، ذلك الذي يبدو وكأنه قدر، وما هو بقدر.
الحلم.. عالم من الأصحاء.. لكن البداية كـما يبدو: إدارة أفضل لنظـم الحكـم.. وانتماء أكثـر لمشـاكل الفقراء.
محمد المراغي / مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق