أحيانًا يضع الإنسان يده على جبهته ليتعرف على درجة حرارة جسمه. وحين يفعل إنسان ذلك فإنه يزاول – ربما من دون أن يعرف – طريقة تاريخية لتقييم درجة حرارة الجسم، مارسها الأطباء منذ فجر التاريخ.
تقييم درجة الحرارة باستخدام راحة اليد يعطي فكرة عامة عن سخونة جسم ما أو برودته. ولكنه لا يعطي قياسًا حقيقيًا لدرجة حرارة الجسم المحسوس، فحيثما توخينا الدقة استخدمنا مقياس الحرارة.مقياس الحرارة من الأذن اخترعه الطبيب الألماني جينز نجر
مقياس الحرارة (الثرموميتر) كما نعرفه اليوم، يختلف كثيرا عن وسائل قياس درجة الحرارة التي استخدمها أسلافنا. وقد يكون طريفًا أن نقلب بعض صفحات تاريخ العلوم لنعرف كيف توصل الإنسان إلى ابتكار هذه الآلة الصغيرة عظيمة النفع: مقياس الحرارة الطبي.
الإحساس بالدفء والبرودة من وظائف الجهاز العصبي التي تمكن الإنسان من التواصل مع بيئته والإحساس بها والتكيف معها. وقد حاول الطبيب الإغريقي «جالين» (حوالي 129 - 199م) الذي تسميه العرب «جالينوس»، أحد أكبر وأهم الأطباء في العصور القديمة الإفادة من هذه الخاصية في حقل تشخيص العلل والأمراض. إذ ترتفع درجة حرارة الجسم نتيجة الإصابة ببعض الأمراض، بينما تنخفض نتيجة الإصابة بالبعض الآخر، لذا يكون تقييم درجة حرارة الجسم مفيدًا في تشخيص العلة.
قسّم «جالين» الحرارة إلى أربعة أنواع أو أصناف: الدافئ والحار (الساخن) والبارد وشديد البرودة. والواضح اليوم أن هذا التقسيم فج للغاية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه ظل مستخدمًا في حقل الطب إلى حوالي القرن السابع عشر الميلادي.
جدير بالذكر أن محاضرات «جالين» في الطب، التي ترجمت إلى عدة لغات، ظلت مصدرًا للمعرفة الطبية في أوربا – على ما فيها من أخطاء عدة - إلى عصر النهضة (عهد التنوير).
ولا يذكر تاريخ العلوم أي شيء عن قياس الحرارة بآلة معينة في التاريخ القديم. ومع ذلك، فمن الصعب الجزم بثقة أن حضارات الإنسان القديمة لم تتخذ لها آلة أو وسيلة دقيقة لقياس الحرارة. كل ما يسرده التاريخ أن الطريقة اليدوية لتقييم حرارة الأجسام، والتي أدخلها الطبيب الإغريقي جالين إلى مهنة الطب، كانت معروفة شائعة الاستعمال.
مكشاف الحرارة:
في القرن السادس عشر الميلادي، تكلم بعض العلماء الإيطاليين عن خاصية تمدد الأجسام بالحرارة. ومما عضد صحةَ أقوالهم الابتكارُ الذي جاء به عبقريُّ زمانه «جاليليو» والمسمى «مِكْشَاف الحرارة» (أو كشاف الحرارة) «Thermoscope». يتكون مكشاف الحرارة من دورق زجاجي (قارورة) تتصل به عند عنقه أنبوبة طويلة رفيعة من الزجاج. أما المادة المستخدمة فهي الهواء.
فكرة الجهاز أن يسخن الدورق الزجاجي بحيث يسخن الهواء الموجود فيه، ثم يوضع الدورق مقلوبًا بحيث تنغمر الأنبوبة الزجاجية المتصلة بعنقه تحت سطح سائل ملون في وعاء زجاجي آخر. وعندما يبرد الهواء الساخن في الدورق الزجاجي فإنه ينكمش، فيرتفع سائل من الوعاء الآخر في الأنبوبة الزجاجية ليشغل الحيز الذي صار شاغرًا نتيجة انكماش الهواء عندما ترك ليبرد. وكان الغرض من تلوين السائل في إناء القاعدة تسهيل رؤيته عندما يتحرك في الأنبوبة الزجاجية. وقد استخدم جاليليو لهذا الغرض الكحول الأحمر.
ويفيد جهاز جاليليو في إثبات تمدد الأجسام (والغازات) بالحرارة، ولكنه لا يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ من غير السهل – مثلا - معرفة درجة الحرارة التي عندما يسخَّن إليها الهواء تؤدي إلى انخفاض عمود السائل في الأنبوبة الزجاجية بمقدار ملليمترات. وكذلك لا يمكن معرفة درجة الحرارة التي ينكمش عندها الهواء بمقدار يسمح للسائل بالارتفاع في الأنبوبة الزجاجية بمقدار سنتيمترات. بل أكثر من ذلك، اتضح - فيما بعد - أن تمدد الهواء وانكماشه لا يرتبطان فحسب بدرجة الحرارة، بل كذلك بالضغط الجوي. وعلى ذلك، فإن مكشاف الحرارة آلة غير دقيقة لقياس درجة الحرارة.
في عام 1612م تمكن الطبيب الإيطالي سانتوريو سانتوري (1561 – 1636) من تطوير كشاف الحرارة الذي ابتكره جاليليو، بحيث يحتوي على تدريج يمكِّن من استخدامه كمقياس لحرارة أجسام المرضى. ويعتبر جهاز سانتوري أول محاولة في التاريخ الحديث لقياس درجة الحرارة بطريقة دقيقة على أساس علمي. وتشير بعض المراجع الطبية والعلمية إلى نابغة زمانه في الطب «سانتوريو سانتوريو» بالاسم اللاتيني Sanctorius، الذي عمل أستاذًا في جامعة بادوا، ويعتبر رائد الطب التجريبي في أوربا، من خلال تجاربه على عمليات التحول الغذائي في جسم الإنسان، وأطروحته عن فقدان سوائل من الجسم عن طريق ما أسماه «عرق غير محسوس» (perspiration). وكان أول من أدخل المقاييس في الأبحاث والتجارب الطبية.
سائل بدل الهواء:
بحلول منتصف القرن السابع عشر (حول عام 1650م) كان مقياس «سانتوري» المدرج متداولاً على نطاق واسع. إلا أن الفيزيائي الإيطالى توريسيللي اكتشف عام 1644، أن الضغط الجوي متغير وليس ثابتا عند قيمة محددة، إذ ينخفض ضغط الهواء كلما ابتعدنا (في الارتفاع) عن سطح الأرض. إيفانجيليستا توريسيللي (1608 - 1647) فيزيائي إيطالي خَلَفَ جاليليو كأستاذ للرياضيات في جامعة فلورنسا، وقد اخترع مقياس الضغط الجوي (بارومتر) عام 1643.
في الستينيات من القرن السابع عشر الميلادي، اتضح للعلماء أن الهواء لا يصلح مادة لقياس درجة الحرارة. وكان هذا الاكتشاف نقطة تحول مهمة فى تاريخ مقياس الحرارة. إذ بدأ الاتجاه نحو السوائل بدلا من الهواء كمادة في مقياس الحرارة. ومما يَسـَّرَ هذا الاتجاه الجديد وجعله ممكن التطبيق أن فيرديناند الثاني، دوق توسكانيا، ابتكر عام 1654 جهازا زجاجيا محتويًا على سائل لقياس درجة الحرارة. توسكانيا Tuscany منطقة في شمال إيطاليا تضم مدينة فلورنسا التي كانت مركزًا ثقافيا إبان عصر النهضة فى أوربا.
وفي عام 1666 بمدينة فلورنسا، أنتج عدد من أجهزة قياس الحرارة، كلها مصنوعة من الزجاج، وكلها تحتوي على سائل – هو الكحول في الغالب. إلا أن التدريج على تلك المقاييس كان مختلفًا بحيث لا تعطي جميعها قراءة واحدة لدرجة حرارة معينة.
اختلاف قراءات أجهزة قياس الحرارة دفع عالم الفيزياء البريطاني «روبرت هوك» إلى التفكير في نقطة بداية ثابتة، تكون الأساس لتدريج كل مقاييس الحرارة. وقد اقترح هوك أن تكون درجة حرارة تجمد الماء هي نقطة بداية التدريج. روبرت هوك (1635 – 1703 م) هو كذلك أحد نوابغ زمانه، إذ كان مهندسًا معماريًا صمم بعض الأبنية الشهيرة في لندن، من بينها مبنى الكلية الملكية للأطباء. وكان يخترع الآلات، ومن بينها زنبرك الساعة. وقد عمل أستاذًا للهندسة. وهو أول من لاحظ تكون النباتات من خلايا أثناء استعماله للمجهر، فكان أول من وصف الخلية النباتية.
في القرن الثامن عشر، كانت صناعة مقاييس الحرارة الزجاجية قد انتشرت انتشارًا واسعًا، بحيث صارت تنتجها معظم مصانع الزجاج الموجودة في أوربا آنذاك، لكن بسبب عدم وجود طريقة موحدة لتدريج تلك المقاييس، فإن أنواعها بلغت (27) نوعا بحلول عام 1778، وكل واحد من هذه المقاييس يعطي قراءة مختلفة عن قراءة باقي المقاييس.
ويبدو أن فكرة هوك باتخاذ نقطة ثابتة كأساس لتدريج موحد لم تلق رواجًا في البداية، إذ استمر إنتاج مقاييس الحرارة عشوائيا، متخذًا من درجة الحرارة التي يسيل (ينصهر) عندها الزبد نقطة ابتداء. وتارة أخرى تكون درجة حرارة قَبْو مرصد باريس هي نقطة البداية، وهكذا. وفي الأربعينيات من القرن الثامن عشر، كان هناك شبه اتفاق تام بين الأوساط العلمية في أوربا على اعتبار درجة حرارة تجمد الماء نقطة بداية التدريج، ودرجة حرارة غليان الماء نقطة نهاية التدريج. ومرة أخرى، كان هذا الإجماع خطوة رائدة على الطريق نحو مقياس حرارة موحد.
مقياس فهرنهايت
في عام 1717م تفتق ذهن عالم الفيزياء الألماني جابرييل دانييل فهرنهايت (1686 – 1736) عن استخدام الزئبق في أنبوبة زجاجية مدرجة لقياس درجة الحرارة.
اعتبر فهرنهايت أن الماء يتجمد عند درجة (32) ويغلي عند درجة (212). لذلك فإن التدريج على مقياس فهرنهايت يقع بين هاتين الدرجتين (32 إلى 212) ويرمز إلى مقياس فهرنهايت بحرف الإنجليزيةF . أما الحكمة في استخدام الزئبق فهي أنه المعدن الوحيد الذي يوجد فى حالة سائلة في «درجة حرارة الغُرْفَة» المقصود بهذا التعبير «درجة حرارة الغرفة» Room temperature أنسب درجة حرارة للبيئة التي يعيش أو يعمل فيها الإنسان، وقد كشفت أبحاث طبية وعلمية أنها درجة حرارة 27م، علاوة على أن نقطة غليان الزئبق (أي درجة الحرارة التي يغلي عندها) عالية، إذ تتجاوز (356م) مما يمكن من استخدامه لقياس درجات حرارة عالية دون خوف من انفجار الوعاء الزجاجي المحتوي عليه.
إذا غلى الماء أو الكحول في وعاء زجاجي محكم الإغلاق، مثل ذلك المستخدم في صناعة مقياس الحرارة، فسوف يؤدي إلى انفجار الوعاء.
وعلى ذلك، فإن فهرنهايت قفز بمقياس الحرارة خطوة هائلة إلى الأمام، تعد تتويجًا حقيقيًا لأفكار جاليليو وسانتوري، وكل من ساهم في هذا الحقل. ولا ندري إن كان من قبيل إنصاف عالم الفيزياء والمهندس البريطاني «هوك»، أم لأسباب أخرى، أن تبنت الأوساط العلمية - في معاهدة دولية تختص بالأوزان والمقاييس، جرى التوقيع عليها عام 1948- تدريجًا مختلفًا عن تدريج فهرنهايت لمقياس الحرارة، أسمته «التدريج المئوي» «Centigrade Scale» ويرمز إليه بحرف الإنجليزية C. وفي هذا التدريج تعتبر درجة الحرارة التي يتجمد عندها الماء صفرا، بينما تعتبر درجة الحرارة التي يغلي عندها الماء مائة.
ومن الطريف أن الأوساط العلمية أرادت تكريم عالم الفلك السويدي أندرز سيلزياس (1701 – 1744) فأطلقت اسمه على التدريج المئوي، فصار معروفا باسم «تدريج سيلزياس». أما سبب التكريم فهو أن ذلك العالم نادى باتخاذ درجتي مائة وصفر كنقطتين ثابتتين على مقياس الحرارة، بحيث تكون الدرجة مائة هي درجة تجمد الماء، وتكون الدرجة صفر هي درجة غليان الماء. ولكن عكست هذه الدرجة فيما بعد بحيث صارت الدرجة صفر دالة على تجمد الماء والدرجة مائة دالة على غليان الماء.
مقياس الحرارة الطبي
في عام 1876، أي بعد أكثر من قرن كامل على اختراع فهرنهايت لمقياس الحرارة الزئبقي، اخترع الطبيب الإنجليزي توماس كليفورد آلبوت (1836 – 1925) ما يمكن تسميته بحق «مقياس الحرارة الطبي»، إذ كان طول المقياس القديم حوالي قدم واحدة (القدم = 30.48 سم). ولذلك كان يستغرق قياس درجة حرارة المريض قريبا من عشرين دقيقة. بينما مقياس د. آلبوت (المحتوي كذلك على الزئبق) لم يتجاوز طوله عشرة سنتيمترات، ويسجل درجة حرارة المريض في خمس دقائق.وقد استحق د. آلبوت التكريم لاختراعه العظيم، فعين أستاذا فخريا للفيزياء في جامعة كمبريدج العريقة.
انقضى ردْحٌ من الزمن، أدخلت في أثنائه تحسينات طفيفة على مقياس الحرارة الطبي الذي اخترعه د. آلبوت، قبل أن يتمكن الجراح الألماني ثيودور هانز بينزينجر Theodore Hannes Benzinger، من اختراع مقياس للحرارة من الأذن بدلا من الفم.
ثم كانت الطفرة العلمية الهائلة في النصف الثاني من القرن العشرين سببًا في اختراع مقياس الحرارة بالأشعة تحت الحمراء Infra-red Thermometer، عام 1984، وكان صاحب الاختراع دافيد فيليبس.
أعقب ذلك إدخال تحسينات وتطويرات على مقياس الحرارة الطبي، أدت إلى إنتاج ما يسمى مقياس الحرارة الإلكتروني Electronic Thermometer، وهو مقياس رقمي Digital Thermometer، مزود بشاشة من الكريستال السائل، تظهر عليها درجة الحرارة التي يسجلها المقياس من جسم الإنسان (من فمه أو من أذنه). لكن على الرغم من كل هذه التحسينات والابتكارات، لايزال مقياس الحرارة الزئبقي الذي اخترعه د. آلبوت في القرن التاسع عشر، شائع الاستعمال على نطاق واسع، في القرن الحادي والعشرين.
غرائب وطرائف
من المتناقضات الغريبة عن مقياس الحرارة، أن بريطانيا لاتزال تستخدم إلى اليوم تدريج الألماني فهرنهايت في قياس درجات الحرارة، في الوقت الذي كان ينبغي فيه استخدام التدريج المئوي، على اعتبار أن أول من نادى بفكرته هو العالم البريطاني روبرت هوك.
وأغرب من ذلك، أن الإنسان – ذلك المخلوق حاد الذكاء – احتاج إلى عدة قرون ليخترع آلة بسيطة يقيس بها درجة حرارة جسمه.
وفضلاً عن الطرائف والغرائب العلمية والتاريخية المرتبطة بمقياس الحرارة، هناك طرائف لغوية. فقد اقترح مجمع اللغة العربية في القاهرة اسمًا طريفا لآلة قياس الحرارة هو «المِحَرّ» (بكسر الميم وفتح الحاء وتشديد الراء). ولم يكتب لهذا الاسم أيُّ حظ من الاستعمال، إذ غلبت عليه التسمية الإنجليزية للآلة وهي “Thermometer”، فصار الناس ينطقونها «ثرموميتر»، ثم تحورت على ألسنة العامة فصارت «ترمومتر» (بتاء بدلا من الثاء في أصل الكلمة). ثم حاول أنصار الفصحى إنقاذ الموقف فأطلقوا التسمية «ميزان الحرارة». ولكننا نرى أن التسمية «مقياس الحرارة» أدق تعبيرًا وأوفى معنى.
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق