السبت، 29 سبتمبر 2012

• علي بن الجهم.. بين الرصافة والجسر

          عيون المها بين الرصافة والجسرِ.. جلبن الهوى من حيث يدري علي بن الجهم، ومن حيث لا يدري أيضًا. لكن قرّاء شعره ومريديه على مر العصور والأزمان اكتشفوا إحدى الجهات السحرية التي يمكن أن تهب منها رياح الهوى.. من حيث يدرون.. من حيث ديوانه الشعري المليء بمفردات تبدأ من جهة القلب وتنتهي بذات الجهة أيضا، وبينهما عالم من المفازات الشعرية.
 
          إنه علي بن الجهم بن بدر، أبو الحسن، من بني سامة، من لؤي بن غالب، المولود في العام 188 للهجرة في بغداد سليلا لأسرة عربية متحدرة من قريش أكسبته فصاحة لسان وأحاطت موهبته الشعرية بالرزانة والجزالة والقوة، وحمتها في بواكيرها من تأثيرات المدينة التي كانت تعج بالوافدين من أعاجم البلاد المحيطة ببغداد آنذاك.
          وشاعرنا من أولئك الشعراء المؤمنين بأن الشعر حياة إضافية على الحياة، فلم يدخر جهدًا ولا شعرًا في سبيل أن يعيش الحياتين بكل فعالية ولم يترك طريقا يمكن أن يسلكها في سبيل معتقداته السياسية والدينية إلا وسلكها راضيًا بكل نتائجها.
          نشأ علي بن الجهم في زمن يمور باختلافات سياسية ومذهبية متنوعة تحت إطار الإسلام في العصر العباسي، وعلى الرغم من أنه عاصر ثلاثة خلفاء عباسيين هم المأمون والمعتصم والواثق على التوالي  إلا أنه لم يقترب منهم  بل آثر أن يوثق علاقاته الفكرية والشعرية مع رموز ذلك العصر ممن يتفقون معه في أفكاره، فربطته علاقة فكرية جميلة بالإمام أحمد بن حنبل، وعلاقة شعرية أجمل مع الشاعر أبي تمامولم يقبل على باب الحكم إلا عندما تولى ذلك الحكم الخليفة المتوكل، الذي اشتهر بانتصاره لمذهب أهل الحديث، وهو المذهب الذي آمن به ابن الجهم في أشد الأيام ظلمة وظلما على المؤمنين به في عهود الخلفاء المعتزليين الثلاثة السابقين للمتوكل الذي أنهى سيادة فكر الاعتزال.
          وأشهر قصة تروى عن علي بن الجهم مع المتوكل هي تلك القصة التي تقول إن الشاعر كان بدويًا صحراويًا، وعندما قدم إلى بغداد للمرة الأولى في حياته، أثر أن يبدأ عهده بمدح خليفتها المتوكل على عادة الشعراء  فأنشده قصيدة، منها:
أنت كالكلب في حفاظك للود
                              وكالتيس في قِراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوًا
                              من كبار الدلا كثير الذنوب
          فعرف المتوكل كما تقول القصة حرفيًا، حسن مقصده وخشونة لفظه، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به، لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان حسن، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح، والجسر قريب منه، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به، فكان أي ابن الجهم يرى حركة الناس ولطافة الحضر، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده، فحضر وأنشد:
عيون المها بين الرصافة والجسر
                              جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليلي ما أحلى الهوى وأمره
                              وأعرفني بالحلو منه وبالمرّ
كفى بالهوى شغلاً وبالشيب زاجرًا
                              لو أن الهوى مما ينهنه بالزجر
بما بيننا من حرمة هل علمتما
                              أرق من الشكوى وأقسى من الهجر؟
          فقال المتوكل: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.
          وأنا لا أصدق هذه القصة وأرجح أن معلمي الأدب قد وضعوها للتدليل على أثر المجتمع والبيئة والظروف المكانية على الشاعر، بعد أن التقطوا من جعبة علي بن الجهم ما رأوا فيه شيئا من التناقض في التصوير الشعري وتباعد بين المعجم اللغوي في المقطوعتين الشعريتين. فأعادوا الأولى للبئية الصحراوية، وأخرجوا الأخرى من إهاب مدنية العاصمة.
          لكن هؤلاء المعلمين (أبرياء المقاصد كما أرى)، فاتهم أن ابن الجهم  من مواليد بغداد فعلاً، وفيها نشأ وتعلم واختلط بالناس واستفاد من كل معطياتها الحضارية تدريجيا ولم يقدم من الصحراء بدويا فظا غليظ القلب كما زعموا في تلك الرواية الضعيفة. ثم إن الصحراء العربية التي اتهموها بالجلافة والفظاظة الشعرية سبق وأن أنتجت أرق غزليات العرب قاطبة.. وما الغزل العذري إلا دليلاً على ما نذهب إليه. هذا طبعًا إن تجاهلنا رؤيتهم للتناقض المزعوم بين المقطوعتين.. فواضح أن الشاعر كتب أبياته وفقا للمدرسة التي تقول بأن لكل مقام حياتي مقالاً شعريًا.. بكل بساطة.
          والقصة التي اشتهرت عن علاقة ابن الجهم بالمتوكل ليست كل ما ورد إلينا على هذا الصعيد. فالمتوكل الذي قرب ابن الجهم إليه نتيجة لتقاربهما الفكري سرعان ما غضب منه تحت وطأة إلحاح الساعين الى إفساد تلك العلاقة المميزة بين الاثنين. ولم تغفر للشاعر «معلقته» التي سبق وأن قالها في المتوكل حال اعتلائه منصة الحكم ووصفها البعض بأنها بمنزلة خطاب العرش، أمام صاحب العرش.. فنفاه إلى خراسان بعد أن صادر أمواله وممتلكاته. وفي سجون خراسان تضاعفت على الشاعر المصائب والمصاعب من دون أن تضعف عزيمته ولا إعجابه المبدئي بالمتوكل.. وعندما انتهت مدة سجنه الطويل عاد الى بغداد ليكتب المراثي الحزينة في المتوكل.. القتيل، ويستعد للجهاد في سبيل الله ودين الإسلام، أمام جحافل الروم التي كانت تهدد ثغور الدولة الإسلامية، فانتقل إلى حلب، ثم خرج منها بجماعة يريد الجهاد، فاعترضه جمع من أعدائه.. وأعداء أفكاره الدينية الحرة، فقاتلهم حتى قضي بين أيديهم شهيدًا وهو في الستين من عمره... تاركًا وراءه فكرة لن تموت بعد أن أسكنها ذلك القصيد الفائض بالرقة والحنين.

  تابعونا على الفيس بوك


www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق