الأحد، 13 يناير 2013

• مسجد قرطبة.. تراث خالد وقصيدة إسبانية



          في القرن الرابع الهجري كانت قرطبة الأموية أهم مدن العالم، الذي لم يكن في خريطته، مدينة واحدة تشبهها سناً وجمالاً، وقد بلغت مجدها الإنساني والحضاري، وصارت قبلة العالم وهجًا، ومكة الفنون والعلوم والآداب. لقد سحرت قرطبة بجمالها وعظمتها الإسلامية الراهبة الألمانية روزيتا فون غاندرهايم التي عاشت فيها، وكتبت عنها تقول «إنها جوهرة العالم المتلألئة نورًا، وهي مدينة جديدة ورائعة، فخورة بقوتها، مشهورة ببهجتها، ومتوهجة من امتلاكها الكامل لكل المعارف والعلوم والآداب».

          في قرطبة الأموية المعتزة بقوتها وتفوّقها الحضاري، كانت تستوقف قوة إيمان وصفاء ذاك الشعب المرهف الإحساس، الذي سكب روحه الحسّاسة في كل ما أبدعه من تراث أدبي وفني وعلمي، تجاوز وهجه حدود الزمان والمكان: في أحياء مدينة النور والحضارة، كان صوت المؤذن، المؤثر والمليء بالخشوع، يدعو المؤمنين للصلاة، يرتفع وحسب ما يذكر المقريزي، في أكثر من 3800 مئذنة.
          لكن حياة المؤمنين، كانت تتمحور في محيط المسجد الجامع، الذي كان أهم معابد الغرب والشرق في زمنه، ومازال حتى اليوم يعتبر تراثًا إنسانيًا، عالميًا وخالدًا، وتعتبره إسبانيا كنزها الفريد، الذي تفاخر الدنيا بامتلاكه. لقد تأتّى مسجد قرطبة «كنزًا أول»، في استفتاء أجراه أحد البرامج الثقافية، التي تبثها القناة الثالثة الإسبانية، والذي تمحور موضوعه، حول الآثار الفريدة، الجميلة والخاصة في الوطن، وكان من بينها مغاور التاميرا في كانتبريا كاتدرائية إشبيلية، حمراء غرناطة، وكاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا.
          في بعض التعليقات على نتيجة هذا الاستفتاء، قال الإسبانيون إنهم فخورون بالمسجد الذي صلّى فيه أجدادهم، وإن الداخل إليه يترك وراءه عالمًا ماديًا متعبًا، وينتقل إلى عالم روحاني مدهش، قريب من السماء، يوحي بكثير من خشوع، وبرغبة قوية في الصلاة في مسجد فريد الجمال، مشيّد في قرطبة.
          يتوحّد اسم قرطبة مع مسجدها الجامع، ارتفعت مئذنته المربعة الشكل، على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، لتعانق الفضاء الأثيري، يحضن تاريخًا مجيدًا، كان حلمًا رائعًا، يذكّر به الأثر المعماري الفريد، المجسّد الأمثل للفن الإسلامي والرمز الأول لعظمة حضارة الأندلس، المزدهرة في القرنين التاسع والعاشر في ظل الإمارة والخلافة.
غابة من الأعمدة
          إن الطابع الأول لهذا النصب العظيم، الممتد على مسافة أربعة وعشرين ألف متر، هو هذه الوحدة المدهشة، المنصهر في بوتقتها التناسق الغريب لغابة من الأعمدة، والتجانس العجيب في هندستها البسيطة والموحية باللامتناهي في المتناهي واللازمني في الزمني، وذلك بالرغم من أن المسجد شيّد في أربع مراحل، تبدأ في عهد عبدالرحمن الأول (107هـ-786م)، وتنتهي في عهد الحاجب المنصور (380هـ - 990م) الوصي على هشام الثاني. إن هذه الوحدة العجيبة، كانت المرتكز الأساسي لكل ما أبدعته الفنون الإسلامية في الأندلس، والمرتبط بالإيمان، وإعادة تحيين الشهادة الأولى: لا إله إلا الله.
          والمسجد الذي بني في موقع كنيسة سان بثنته الصغيرة، كُرّس كنيسة عام 1236م، حين سقطت العاصمة الأموية بيد الملك فرناندو الثالث، وبالتالي ألغيت فيه التوسعات التي أجريت في عهد عبدالرحمن الثاني والحاجب والمنصور، لتشييد كاتدرائية، بأمر من الملك كارلوس الخامس عام 1532، وذلك لم يلغ إطلاقًا الهوية الإسلامية الحقيقية للمسجد، الذي طالب مسلمو قرطبة الحاليون، وبصوت زعيمهم الراحل منصور إيسكوديرو، بحق الصلاة فيه.
          يختصر المسجد تاريخ المدينة، ويروي للأجيال المتلاحقة والزمن حكايتها، حكاية لن نعيد سرد وقائعها لأنها أصبحت معروفة، وما يهمنا منها هنا هو الأصداء التي مازال يثيرها في المجتمع الإسباني وجود هذا النصب الخالد في الأرض منذ أكثر من ألف عام، وتشدّ روحانيته العجيبة أبصار الدنيا، ليذكرها بالبشر المبدعين، الذين كانوا يضعون عمائم على رءوسهم، والذين بنوا صرح الإيمان هذا، الذي يوحي التواجد فيه بأسمى مشاعر يمكن أن يعيشها الإنسان في لحظة ما.
          إن تعريف المسجد الكنيسة، والكنيسة المسجد، الذي يشير إلى نشأة الجامع وتطوّر تاريخه، يرد في بعض الكتابات المعاصرة، ويختصر بوضوح رؤية المجتمع الإسباني لهذا الأثر المحمدي الخالد، فيرى بعض الكتّاب العلميي التفكير أنه أكثر المباني تعبيرًا عن الأهمية التي اكتسبها الإسلام في تاريخ إسبانيا، وأن محاولات تغيير هويته، من خلال التعديلات به في عهد الملك كارلوس الخامس كانت كارثية. يقول آخرون إنه النموذج الأمثل لتعايش حضارتين، بينما يذكّر فريق ثالث بإصرار أن المسجد كان كنيسة، ليوحي بأن المسلمين كانوا أعداء تراث الآخر، ولم يحترموا معتقداته.
          وعلى هامش الاعتزاز بالتراث الإسلامي القرطبي وإدانة تخريبه، أو المحاولة السخيفة لإلغائه، يظل المسجد ممثلاً في عالمنا لقمة الروحانية التي وجد ليجسّدها قبل قرون عدة، ومنذ بدأ عبدالرحمن الأول بتشييده  عام 170هـ - 786م لقد تركت هذه الروحانية التي تجلّت في لغة الحجارة أثرًا واضحًا ومؤثرًا في نثر روبن داريو، زعيم المدرسة الشعرية الحديثة في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وفي قصائد العديد من الشعراء الإسبان، الذين أوحى لهم المسجد الجامع بأسمى المشاعر الإنسانية.
أراضٍ شمسية
          يشير روبن داريو في كتابه «أراض شمسية»، الذي أوحته له الأندلس لدى زيارتها، إلى أنه لم يبق شيء من روعة الخلافة في قرطبة غير مسجدها الجامع الذي يوحي بالدهشة، مثل كل المباني التي شيّدها مسلمو الأندلس للحب والحرب. ويضيف أن تخريب جزء منه يغضب كل فنان مسافر، مثل الكاتب الإيطالي إدموندو دي أميثيس  (1846-1908).
          ويستوقف المحراب الشاعر الكبير، ويدهشه، فيكتب أنه جوهرة معمارية من فسيفساء، يغطي جماله على كل ما حوله في البناء الإسباني الدخيل، وزائر المسجد، لا يفكّر وهو في المكان بغير المسلمين، ويشعر برغبة في أن يخلع حذاءه وينتعل مداسين، ليتمتم «الله أكبر».
          كذلك يرى شاعر الحداثة سلفادور رويدا (1857-1933) أن هذا المعبد الذي نحت العرب حجارته ورخامه، سُلب من الموري، وصيّر مسيحيًا في العمادة، لكنه يبقى رمزًا لمعجزة، وأشبه بحلم شاعر تحضنه أنوار لا نهائية.
          أما الشاعرة إيلينا غونزاليز، عاشقة قرطبة، المدينة المليئة بروح الماضي المسلم، فلم تجد كلمات تصف بها قاعة صلوات عبدالرحمن الأول، المكان الوديع والمليء بالسلام، وتشعر وهي تملأ عينيها بالمسجد العظيم، بأنها تتمتع بسحر ثقافتها، وتلتقي مجددًا مع أسلافها الذين جسّدوا في الأرض، وفي حياتهم اليومية، مواقف الإسلام النبيلة.
          نشرت قصيدة إيلينا عام 1995، مزيّنة بلوحة لمسجد قرطبة، وقعتها شقيقتها كونسويلو، التي زارت بعض البلدان العربية، ورسمت بإحساس مرهف وشفافية وحدة وسكينة المساجد الإسلامية.
          نحن نقع في الشعر الإسباني، على قصائد متفرقة في بعض دواوين، وتحمل القصائد عناوين موحية إسلاميًا، وترتبط عفويًا بصرح الإيمان القرطبي العظيم والمدهش: مثال ذلك، قصيدة «روح قرطبة» والتي تعكس رؤية رويدا للمسجد الجامع، وهي مدرجة في ديوانه «إفريز البارتينون» الذي يحمل اسم المعبد اليوناني الشهير، بناه اليونانيون القدامى، للمعبودة مينرفا أو أثينا، وطرازه المعماري دوري، بناؤه من رخام وإفريزاته شهيرة بجمالها المميز.
          نحن نقع في الشعر الإسباني، على قصائد منظومة لمسجد قرطبة، منشورة في ديوان أو آخر، أو منشورة مفردة في مجلة أدبية، لكنه لم يحدث قبل ذلك، وكما فعل أنطونيو أنريكيه، أن كرّس شاعر إسباني واحد ديوانًا كاملاً، لمسجد قرطبة، ويتجسد فيه كل تاريخه، وتتجسّد كل مشاعر العظمة والنبل، والخشوع والسمو الإنساني، التي يوحيها للمرء. صرح الإيمان الخالد ذاك في تسع عشرة قصيدة، يختصر جوهرها عنوان إسلامي مؤثر وموحٍ بامتياز: «القبلة»، الذي وقعه بعد ديوان «قصيدة الحمراء».
ديوان «القِبْلة»
          يعود بنا عنوان «القبلة» ألف عام إلى الوراء، يلغي شرخًا، مسافات ومسافات بيننا وبين مجد تاريخنا، يذكّرنا فجأة مَن نحن، نعتز بأنفسنا وبتاريخنا، ونحن نتذكر ما كان عليه أسلافنا من عظمة ومجد، يوم كانوا سادة الدنيا فنًا وعلمًا وأدبًا، أبدعوا حضارة رائعة مدهشة، شكّلت حلقة لا غنى عنها من حلقات تاريخ الحضارات الإنسانية، ويبقى مسجد قرطبة أول رمز لعظمتها الخالدة، ويبقى موحيًا للشعراء أيّا كانوا على مر العصور. وقصيدة محمد إقبال الفيلسوف، الكاتب والسياسي الهندي الذي زار قرطبة عام 1933 وبخشوع صلّى في محراب مسجدها، مثال على ذلك.
          وكما محمد إقبال، وقف الشاعر الغرناطي أنطونيو أنريكيه (مواليد 1951) يصلي أمام المحراب المدهش بناؤه، والذي يحضنه النور الأروع، المنسكب من شبكات قبّته السحرية، المصمّمة بإبداع لتزويده بالضوء الكافي، الذي كانت تحتاج إليه تلاوة القرآن الكريم.
          إن فرادة بناء هذا الأثر المحمدي أدهشت شعراء إسبان عديدين، سحرهم جماله، لكن أحدًا لم يشعر بقوّة الرغبة في الصلاة أمام محرابه، كما يصلي المسلمون فأحنى رأسه وضمّ يديه إلى صدره، وهو يشعر قربه بوجود أثيري لجماعات أخرى، كانت تتحدث لغة أخرى، وترتدي ثيابًا أخرى، ووقفت خاشعة تصلي منذ عشرة قرون، في المكان ذاته الذي يقف فيه، يتمنى ألا يبتعد عنه، وكأنه أصبح جزءًا منه، وقد توحّد مع سكينته وسموّه.
          أمام محراب مسجد قرطبة، وقف الشاعر أنطونيو أنريكيه، يصلي بخشوع، ناسيًا ذاته، ليترجم بالتالي مشاعر أوحتها له تلك اللحظات السامية في قصائد جميلة جدًا، مسربلة بروحانيتها الخاصة، لا يمكن أن ينساها المرء بعد قراءتها، فيعود إليها بين مرّة وأخرى، ليتملى بروحانية مؤثرة يحتاج إليها.
          إن قوّة التعبير عن صدق وعمق التجربة تأسر القارئ، فيشعر بعفوية بأنه جزء من عالم الشاعر الإسباني الأثيري، الذي هو تاريخه وعالمه، ويتمنى بصدق أن يقف إلى جانبه، ليصلي في جلال ذلك المعبد الذي أبدعه الإيمان بوحدة الله.
          إن ديوان «القبلة»، في عصر الكراهية، واللاتسامح الديني، يعتبر رسالة سلام تقرب بين البشر أيّا كانوا، لأي قارة ولأي دين انتموا، وتقرب بين ثقافتي الشرق والغرب، وتبقى «مساهمة غنائية متواضعة، للتعريف بإله أسلافنا الذي نعبده مسيحيين ومسلمين في معبد روحي، هو الأهم في تاريخ الغرب»، وكما جاء في تقديم ناشر الديوان.
          إن أبيات أنطونيو أنريكيه - ترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية - تؤثر فينا، تطهر أعماقنا، فنولد أطفالاً أنقياء ونتوحد مع الكلمة النور.. المحبة..السلام، حين نقرأ مشاعر لحظة لم يستطع أن يمنع نفسه خلالها، من تلبية ذاك النداء الداخلي الأقوى، الذي دفعه عفويًا وبصدق، إلى أن ينسى ما حوله ويحني رأسه ليصلي، وهو يشعر بأنه يتوحّد مع المكان، ويتمنى  ألا يبعده أحد عن «القبلة».




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق