الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

• بين الفضائيات العربية والأجنبية... تغييب ومسئولية


        
  • معظم ما تقدمه الفضائيات العربية لا يهدف إلا إلى إحداث حالة من التغييب العقلي.
  • يجب أن تساهم أجهزة الإعلام في نقد السلبيات في الذهنية العربية السائدة.
  • على الرغم مما يشاع عن إباحية الإعلام الغربي فإنه يقدم نماذج ثقافية بالغة الرقي شكلاً ومضمونا.
  • لا يمكن مقاومة الإسفاف والابتذال إلا ببرامج تقدم مضمونًا فنيًا راقيًا.
          لا شك أن الفضائيات العربية أصبحت تشكل جزءًا أساسيًا من مكونات النسيج الثقافي للمجتمعات العربية، تتفاعل وتؤثر في الوجدان ومفاهيم القيم، وتستنفد، بما تقدمه على مدار الساعة من برامج ومواد درامية، مساحة كبيرة من وقت وانشغال الجمهور الواسع، وتستقطب انتباههم، خاصة الشباب والناشئة. والسؤال هو ما الذي تقدمه الأغلبية العظمى من تلك الفضائيات العربية، وما هو جوهر مضمون المواد التي تبثها، وتشغل بها الأذهان على مدى ساعات اليوم؟
          أيُّ متابع لما يبث عبر شاشات الفضائيات العربية، بإمكانه أن يدرك، وربما دون جهد كبير، مدى الفجوة الواسعة بين ما تقدمه هذه القنوات، وبين الطموح العربي اليوم في تحقيق التنمية وبناء أجيال من الشباب الواعي المثقف المسلح بالمعارف والعلوم الحديثة، المعتز بقيمه الأصيلة، المدرك لحقائق الأمور، المتمكن من التمييز والتقييم لما هو أصيل وإيجابي في الثقافات الأجنبية، وما هو عكس ذلك.
          إن الأغلبية العظمى مما تبثه شاشات القنوات الفضائية العربية لا تعدو كونها مواد تتزيا بالصخب والبهارج الشكلية، على حساب المضمون، تتوسل الإثارة والصخب، والإيقاعات السريعة، ووسائل الإبهار، لتجذب الانتباه وتضمن متابعة المشاهد، بينما لا تقدم في المضمون سوى مواد هزيلة، تتسم بالسطحية، واستلاب المشاهد بعيدًا عن واقعه ومشكلاته ومصالحه. يستوي في ذلك أن تكون المادة المقدمة برنامجاً من برامج المنوعات او المسابقات الخفيفة التي أصبحت بمنزلة طوفان تتسابق الشاشات في أن تغرق بها مشاهديها، أو برنامجًا حواريًا يبحث عن الإثارة والصخب بدلاً من محاولة تقديم أفكار عميقة ومختلفة، أو برامج الشعوذة والخرافة كتفسير الأحلام وقراءة الطالع والأبراج، وبرامج الجن والسحر! كما يستوي ذلك مع المواد الدرامية أو السينمائية التي تتسابق الشاشات في بثها، وتخصص لها قنوات بكاملها، تلهث في بث تلك الأفلام، التي لا تتجاوز كونها مواد خفيفة، مسلية، وأحيانا مملة ومكررة، لا تقدم جديدًا لا لمشاهديها ولا لتاريخ المنجز السينمائي والدرامي الذي تنتمي إليه. بل إنها، في العديد من الأعمال، تتجاوز ذلك لتقترب من الإباحية، وتتنافى والآداب والأخلاق العامة.
تغييب العقل
          وهو ما يعني أن هذه المواد التي تفيض بها شاشات قنوات الفضائيات العربية، في أغلبيتها العظمى، هي في النهاية، لا تبتغي سوى إحداث حالة من التغييب العقلي للشباب والنشء، بل وللجمهور العريض، عن واقعه، وعن كل سبل الإعلام الحقيقي الذي يبتغي دعم العوامل الثقافية البناءة، اللازمة لعملية التنمية، أو لبناء الوعي السياسي، المفترض تحققه لدى الأفراد في أي مجتمع يسعى للنهضة، ويتطلع إلى المستقبل. أي أنها بدلاً من أن تؤدي دوراً إيجايباً في بناء الوعي للشخصية العربية، فإنها تمارس ألوانا، مباشرة وغير مباشرة، من تخدير وتغييب عقول الشباب، تارة بادعاء العصرية عبر برامج خفيفة لا تقدم إضافة من أي نوع، مما أشرنا إليه سابقا، أو بنشر ثقافة الخرافة والشعوذة والإرهاب الديني المتمثل في تصور مادي لعذاب القبر، مما ورد في الموروث الشعبي، لكنه لم يشاهد من قبل، وعلمه عند ربي، وهو ما يندرج في إطار التخريب والإرهاب الذي ينزع قلوب النشء ويفقدهم التوازن في الحياة، ويغلق في وجوههم أبواب الأمل ويحيدهم عن دورهم في عمارة الأرض.
          ويأتي ذلك في فترة تُعرف بعزوف قطاع كبير من الشباب عن القراءة، وانحسار نسبة القراء بينهم، التي كانت وسيلة أساسية لتشكيل ثقافة الشباب، قبل عقود، أما الآن فقد أصبح للتلفاز وما يبث فيه من مواد سمعية وبصرية، بالإضافة إلى شبكة الإنترنت، دور كبير في تشكيل الوعي لهؤلاء الشباب، مما يزيد من حجم المسئولية الملقاة على عاتق تلك القنوات الفضائية، وما تقوم ببثه من برامج ومواد.
          هذا التخلي من القنوات الفضائية العربية عن الدور الإعلامي الذي ينبغي أن تقدمه، هو في جوهره هدم لما تحاول المدرسة أن تبنيه، وهو قليل، وهدم ما تحاول العائلة أن تبنيه، وهو قليل أيضًا. والواقع أن دور أي من المؤسستين التعليمية، والأسرية، لا يمكن أن يتحقق أو ينجح من دون مساعدة إيجابية وفعالة من المؤسسة الإعلامية.
          والحاصل أنه ليس من طبائع الأمور أن تمارس تلك الفضائيات ذلك الدور السلبي الخطير، في وقت تحاول فيه مجتمعاتنا في خطط طموح لتحديث التعليم ووسائل البحث العلمي، وبحث سبل الاستفادة الإيجابية من وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الحديثة. هناك، بطبيعة الحال، بعض القنوات الفضائية العربية ذات الطابع الخبري التي يبدو في بعض ما تقدمه نوع من الجدية، والموضوعية، والإحساس بالمسئولية، لكنها، بين فيض القنوات التي تنهمر علينا يوميا، أصبحت استثناء، وهي في النهاية قليلة جدا مقارنة بعدد الفضائيات ذات الطابع الخفيف أو الإباحي أو تلك التي تميل لنشر الشعوذة والجهل والتخلف.
الإعلام المسئول.
          عند مقارنة الفضائيات العربية بنظيراتها الغربية الأجنبية، سنجد فارقا شاسعًا في مستوى المضمون، حتى على مستوى وسائل التقديم، ومفهوم الحشمة لدى المذيعات ومقدمات البرامج، ولعل ملاحظة قنوات أجنبية إخبارية مثل (بي بي سي)، أو (دويتش فيلا) تقدم نموذجًا جيدًا في مضمار تحلي القناة الفضائية بالمسئولية، بداية من المحتوى والمضمون، مرورًا بوسائل تقديم البرامج التي لا تتنافى فيها الرصانة مع الحيوية والإبهار أحيانًا. إن ما يؤكد الدور التغييبي الذي تمارسه الفضائيات العربية، في أغلبيتها العظمى اليوم، يمكن التدليل عليه، بالإشارة إلى الغياب الفادح للبرامج الثقافية بين البرامج التي تقدمها تلك الفضائيات. فالثقافة تأتي في آخر قائمة أولويات الفضائيات، وإن فعلت بعضها بوضع برنامج ثقافي ما في جدول برامجها، فلا يكاد يذكر بين فيض المواد الأخرى السطحية والفارغة من المحتوى والمضمون.
          ومن اللافت فعلا أن الغرب الذي يشيع اتهامه بالإباحية والانفلات، حين يقدم الثقافة على شاشاته فإنه يقدم نماذج بالغة الرقي في المضمون، ويضرب مثلا في تحلي الإعلام بالمسئولية، وهو ما يمكن ملاحظته في مستوى البرامج المتخصصة في الموسيقى، أو الفنون الرفيعة، مثل المسرح والأوبرا أو النقد الفني في الفضائيات الغربية المتخصصة، أو حتى في البرامج الخاصة بعروض الكتب أو مناقشتها، أو في بعض الفضائيات ذات الطابع التسجيلي التوثيقي، وتلك المهتمة بالعلوم، بل إننا سنجد أن العلوم لها حضور راسخ حتى لدى أكثر القنوات الفضائية الغربية اهتماماً بالطابع الخبري. بالإضافة إلى وجود قنوات ثقافية متخصصة مثل «ديسكفري» على سبيل المثال لا الحصر التي يرتفع سقف الثقافة لديها لينحو نحو العلوم، وثقافات الشعوب، وبحث الظواهر الخاصة في الطبيعة، ولدى الكائنات الحية.
قناة «العربي» الثقافية
          والحقيقة أن هذا كله مَثَّل يقيناً لدينا في ضرورة وجود قناة فضائية ثقافية عربية لها مثل هذا الطموح والإحساس بالمسئولية الإعلامية حين تمَّ في الكويت إنشاء قناة «العربي» التي أعلن وزير الإعلام الكويتي الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح عن إطلاقها من الكويت، والتي يُطمح أن تتمكن من سد فجوة كبيرة في مستوى المحتوى الثقافي في سماء الفضاء العربي. ويُأمل أن تقدم، بمستوى طموحها الكبير، نموذجًا رفيع المستوى للبثّ العربي الذي يرى في الثقافة وفي العلوم والبحث العلمي والمعرفة أسساً لبناء الشخصية العربية من الأجيال الجديدة الشابة والواعدة.
          وهذه خطوة من بين خطوات نتصور ضرورة تحقيقها على مستوى الجهات الإعلامية العربية، ممثلة في إنشاء قنوات، أو توجيه البعض مما هو موجود بالفعل، بحيث يقدم رسالته الإعلامية المسئولة في مواجهة حجم وكثافة عدد الفضائيات الهابطة.
          فلا بد من تكثيف البرامج التوعوية في المجالات الثقافية والعلمية والتاريخية وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة بالإضافة إلى العمل على وضع منظومة إعلامية عربية تكرس القيم الإنسانية المشتركة بيننا وبين دول العالم دون المساس بخصوصيات المجتمعات وهويات الأمم والشعوب.
منتدى الفضائيات العربية
          في هذا الصدد يهمنا الإشارة إلى أهمية «منتدى الفضائيات والتحدي القيمي والأخلاقي الذي يواجه الشباب الخليجي»، الذي عقد في الدوحة في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 2008، برعاية وحضور الشيخة موزة بنت ناصر المسند رئيسة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع ورئيسة المجلس الأعلى لشئون الأسرة، والذي شهد حشداً من العاملين في مجال الإعلام العربي والخليجي، وحظي بمناقشات جادة حول القضية وأصدر مجموعة من التوصيات المهمة في شأن تفعيل فكرة اتسام الإعلام الفضائي بالمسئولية، لخطورة الدور الذي يلعبه في التأثير على العقل العربي الراهن. ومن أوجه أهمية المنتدى مجموعة التوصيات التي طالب بها وبينها: «عقد اتفاقية لتنظيم البث الفضائي في المنطقة، وإنشاء جهة مستقلة لتنظيم محتوى البث الفضائي ومتابعة التزام الفضائيات بأخلاقيات المهنة دون المساس بحرية الإعلام والتعبير». إلا أننا ونحن نأمل في إيجاد البدائل الإعلامية المسئولة ينبغي لنا أن نتأمل عوامل الجذب في تلك القنوات الفضائية السطحية، وأن نقارن ذلك بما استعارته هي، ولو بابتذال، من فضائيات غربية ترفيهية أخرى، لبحث أفضل السبل التي يمكن بها أن تقدم البرامج الهادفة الثقافية رفيعة المستوى بالشكل الجذاب القادر على جذب اهتمام المشاهد بعيدًا عن الفضائيات الضحلة، دون أن يتنافى ذلك مع تقديم المضمون الإعلامي الثقافي بشكل عميق وجاد له رسالة واضحة وبناءة. كما ينبغي تسليط الضوء بوضوح على نقد السلبيات في الذهنية العربية السائدة، وتقديم برامج مضادة للبرامج السطحية المبتذلة، تعتمد على العقلانية، وإعلاء قيمة التفكير النقدي ضد الخرافات والخزعبلات، بتقديم الأفكار العقلانية بجرأة. كما يجب إثراء البرامج بأبرز الإنتاج الفكري والثقافي والعلمي لجميع رموز النخب الثقافية والعلمية العربية من الأجيال كافة، وخلق مناخ من الحوار والتفاعل البناء بين منتجي تلك الأفكار، يقارع كل منهم الحجة بالحجة، ويؤكد أفكاره بالمنطق والحجج العقلانية والمعلومات الموثقة، بحيث يسهم في إثراء عقول المشاهدين بالعميق من الأفكار، وبما يخلق حالة من الوعي بطبيعة الأشياء والحقائق بديلا للبرامج التي تعتمد على التلقي السلبي، والتي لا يبقى لها أثر في النفس من مثل عشرات البرامج التي تفيض بها الفضائيات العربية الراهنة.
إستراتيجية بديلة
          ولا يمكن مواجهة الإسفاف والابتذال والإباحية إلا ببرامج تقدم مضموناً فنياً راقياً من الفنون والآداب كافة، يكشف للمشاهد أن الفن والأدب الرفيع هو ما يخاطب الوجدان والعقل والعواطف السامية في النفس البشرية بدلا من مخاطبة الغرائز، وأنه هو الذي يستقر عميقًا في الوجدان ولا يمر على سطح الذاكرة فقط بلا تأثير من أي نوع. فمثل هذه البرامج لو أعدت جيدًا، دون أن تفقد معيار الحرية وارتفاع سقف الطرح بلا حدود، ودون أن تتخذ شكلاً وعظياً تربوياً، في الوقت نفسه، من شأنها أن تخلق التفافاً جماهيرياً بإمكانه أن يخلق وعياً مضاداً يمكنه أن يكبح تهافت الجمهور على برامج المنوعات السطحية وبرامج المسابقات التي لا تضيف شيئاً لوعي الجمهور. وتخلق نوعا من القدوة التي تقدم نماذج مشرفة لإعلام اصيل يفخر بجذور حضارته، ويتواصل مع الحضارات العالمية بعين النقد لا الانبهار، ليعرف الصالح فيها من سواه. والحقيقة أن الحقل الإعلامي العربي بما يشهده من متغيرات نوعية وكمية، ومظاهر عشوائية، يحتاج إلى الكثير من دراسات المتخصصين الأكاديمية والميدانية، التي يجب أن تقدم لنا دراسات جادة حول الظواهر الإعلامية الراهنة وكيفية تلقي المشاهدين لها ومدى تأثيرها في سلوكياتهم. فمثل تلك الدراسات من شأنها أن تقدم للعاملين في إدارات الإعلام العربي مؤشرات حقيقية على طبيعة الجمهور، وتحديد الوسائل التي يمكن بها وضع استراتيجيات إعلامية تتمكن من التعامل مع ذهنية المشاهد العربي، بشكل مدروس ومنهجي، وتقديم البرامج الرصينة في الفنون والثقافة والعلوم بما يناسب تلك الذهنية، وبالشكل الذي يحقق طموحات الخطط التنموية التي تقتضي الارتقاء بمستوى الوعي والثقافة والتعليم للمواطن العربي في أرجاء الوطن العربي. كما أنها بمثل تلك الدراسات يمكنها أن توفر تحليلاً عميقاً لمضمون البرامج التي تقدم الآن، وبيان الإحصاءات عن نسب تلك البرامج في إنتاج البث الإعلامي العربي بشكل عام. كما أن الجهات والمؤسسات الإعلامية العربية مطالبة بتوفير الورش التدريبية للإعلاميين، وخاصة الشباب، لترسيخ الرسالة الإعلامية الرصينة وأسس الإعلام المسئول مما يحقق التجويد المأمول في طبيعة العمل الإعلامي، وخلق بيئة أكثر احترافًا، خاصة مع التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات، وزيادة القدرة على فهم طبيعة الرسالة الإعلامية الحقيقية كحائط صد ضد السلبي من الأفكار، وضد التخلف، وكأداة أساسية من أسس محو الأمية الثقافية والإعلامية، والأهم، كأساس للتنمية البشرية المبنية على عقول واعية مسلحة بالفكر والعلم، ووسيلة من وسائل بناء وتعزيز القيم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق